الراندوك.. اللُّغة بِنت الرفض والمُقاوَمة

قبل ثلاثة عقود، دخل عالم اللغة في السودان في صراع صامت حول من يملك السلطة والنفوذ للسيطرة على المجال العام.

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
17/2/25
المؤلف:
يوسف حمد
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
هند عبد الباقي عبد القادر الزبير
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".

فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.

فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.

فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.

(أليس في بلاد العجائب)

عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.

قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.

في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.

في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".

في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.

تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.

في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.

بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.

منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.

تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.

بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.

حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟

لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

No items found.
نُشر بتاريخ
17/2/25
المؤلف:
يوسف حمد
Editor
سارة النقر
مأمون التلب
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
Translator
هند عبد الباقي عبد القادر الزبير

قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".

فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.

فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.

فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.

(أليس في بلاد العجائب)

عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.

قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.

في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.

في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".

في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.

تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.

في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.

بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.

منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.

تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.

بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.

حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟

لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي