أسطورة حضرية
قصة استكشافية تمتد لسنوات عديدة، وتلتقي بالعديد من الأشخاص وتكتشف العديد من القصص، كلها حول مكان واحد، ميدان الخليفة في أم درمان. نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عام ٢٠٢٢ تحت اسم ميدان آلخليفة في كتاب «حتى نلتقي»، الذي حررته ونشرته مجموعتي ورق ولوكال
/ الاجابات
ميدان الخليفة
في ٢٦ يناير ١٨٨٥م، وإبّان مقتل الحاكم البريطاني غردون باشا، أنهت قوات المهدي الحكم التركي في السودان في ثورة استمرت من ١٨٨١ حتى ١٨٨٥م. المهدي كان زعيماً دينيَّاً تَوَحَّد السودانيون حوله لمقاومة الحكم التركي، ولكنه توفي بعد انتصار الثورة بفترة وجيزة، ولم يشهد قيام دولته الإسلامية المنشودة.
تولى من بعده الخليفة عبد الله، والذي أصبح منوطاً بتأسيس الدولة المهدية الجديدة التي اتَّخذت أمدرمان عاصمةً لها. كانت البقعة التي اختارها المهدي منزلاً له في حياته، ومثواه الأخير لاحقاً، هي النواة التي نَمَت منها مدينة أمدرمان على مدار ثلاثة عشرة سنة عبر طول ستة أميال ممتدة على الشاطئ الغربي للنيل.
بنى الخليفة منزله ومباني حكومته جنوب مقام المهدي، وشيَّد غرباً أكبر مباني المدينة، ألا وهو مسجد الخليفة، الذي صُمِّمَ لاستيعاب عشرة آلاف من المصلين. كانت جدران المسجد حجرية مطلية بالجير الأبيض، وبه محراب وكان مسقوفاً جزئيَّاً. النساء كُنَّ مفصولات عن الرجال بسور من الأشجار من الناحية الغربية. الشيء الوحيد الذي تبقى بعد الغزو البريطاني عام ١٨٩٨ هو الجدران الحجرية.
على مر القرن الماضي، خضع المسجد للعديد من التغييرات وأُطلق عليه العديد من الأسماء واستخدم لمختلف الأغراض.
أشارككم تجربتي مع العديد من الأشخاص في محاولة تقصي ما مَرَّ به هذا المكان عبر الزمن.
ذكريات داخل الذاكرة
في ظهر يومٍ عاديّ، حيث أخطأت في ركوب حافلة غير التي أريد، ووجدت نفسي أمام ميدان الخليفة. عرفتُ، من النظرة الأولى، أننا في وقت احتفالات المولد النبوي من ظهور محلات بيع حلوى المولد التي تنتشر هناك مع بدايات شهر ربيع الأول. حيث تمتلئ أعينك بحلاوة عروس المولد المصبوغة باللون الوردي وأشكالٍ أُخرى من أنواع مختلفة من الحلويات المُشبَّعة بالسّكَّر. على الرغم أن الكثير من الناس أصبحوا ينتقدون هذه الحلوى وطرق تصنيعها، وتأثيرها على الصحة، إلا أنك تجد نفسك تغضّ الطرف عن كلّ هذا عندما تقف أمام البائع قائلاً:
- "ناولني ٢ كيلو من هذه من فضلك!"
في هذه الأثناء، ألقَيتُ نظرةً على الميدان خلف محلات الحلوى، وهو مبتهجٌ بطيفٍ من الألوان، اصطفَّت خيام الطرق الصوفية، وغاب عنه اللون البني الكئيب الذي يكسوه طوال العام. عند منتصف الميدان، تنتصب ثلاثة أعمدة إسمنتية عُلِّقَت عليها ألوان من زينة المولد لطالما لفتَت انتباهي، ولكن تزيّنها بهذه الطريقة منعني أن أتجاهل فضولي حولها هذه المرة.
اقتربت من الشاب الجالس في ظلّها الضيق الذي بالكاد يظلّ جسده النحيل أسأله: "ما هذه؟".
"لا أدري، نُعلّق عليها الزينة في كل عام".
رَحلتُ وأنا أفكّر أنه لا يمكن لهذه الأعمدة الإسمنتية الكبيرة أن تكون مصنوعة لغرض تعليق الزينة فقط!
.........
تحصّلتُ، بعد عناء كبير، على تصريح للدخول لمكتبة للوثائق الصورية يُقدَّر أن بها أكثر من إثنين مليون صورة وثائقية.
تصفحت حوالي ١٧٠٠ صورة لمباني مهمة من مجلد بعنوان الخرطوم، عددٌ مقدّرٌ منها من الصور لمبنى البرلمان، وفصل كامل عن سوق أمدرمان، وأخيراً عثرت على صور الميدان المنشودة، والتي لا توحي باللون البني في شيء، على الرغم من أنها صور بالأبيض والأسود، إلا أن الأشجار تضجّ بالخضرة، وإن كانت باديةً بلونٍ أسودٍ غامق.
سألت الرجل المسنّ (ودائماً ما يكون هنالك رجل مسن في الدوائر السودانية) :"هل يمكنني أخذ صورة؟"
- "لا هذا ممنوع"
- "ولكن لدي تصريح!"
- "ليس كافياً، يجب أن يُرفَق بتوقيع آخر، ويُصدَّق عليه من جهة أخرى بعد أن يمرَّ على الجهة المختصَّة التي.. إلخ إلخ.
اكتفيت عندئذٍ بتصويره في مخيلتي ثمّ ذهبت.
........
وقف الدكتور عثمان يحاضر في إحدى الجامعات عن نشأة مدينتين، أمدرمان والخرطوم وكيف كانت إحداها تُجسِّد المدينة الأوروبية المثالية في وسط إفريقيا مقابل المدينة ذات الثقافة والسِمات المحلية الواقعة غرب النيل. بيّن د.عثمان كيف وزَّع الخليفة الأراضي وكيف قُسِّمت الشوارع ومن ثم كيف تمدَّدت مع مرور الوقت لتصبح مغلقة وخالية من أي مساحات للميادين العامة.
-"د.عثمان!"
-"نعم؟"
-"هل تعلم أن ميدان الخليفة كان منتزهاً؟"
-"كيف لا أعلم! كنت أعمل على هذا المشروع وأنا لا أزال مهندساً خريجاً يافعاً، كم كانت فكرة مُذهلة حيث أن أمدرمان كانت تخلو من المساحات الخضراء وهذا المشروع كان سيغيّر وجه المدينة كُلياً ليصبح الميدان منتزهاً عامَّاً في وسطها النابض"
-"ولكن لماذا لم يعد المنتزه موجوداً؟"
-"لا أعلم"
-"وماذا بشأن تلك الأعمدة ماذا كان الغرض منها؟"
-"لا أذكر"
حاولت البحث عن تلك الشركة الإيطالية التي ذكر د.عثمان أنها كانت صاحبة فكرة المنتزه، لم أعثر على شيء عنها ولا عن الأعمدة الثلاثة.
.........
وقفتُ في غرفة مكتظة بالتحف والصور الجدارية والتلاميذ وهي غرفة بالتأكيد لم تكن مصممة لتحتوي أيٍّ من هذه الثلاث.
قبل عدة ساعات كانت قد أرسلت ثلاثة مدارس تلاميذها لزيارة متحف بيت الخليفة، وبسبب غياب التنسيق من المدرسة لم يدروا بأن المتحف مغلق للصيانة، ولإنقاذ الموقف تطوَّع مدير اللجنة المسؤولة عن الميدان، الذي حُوِّل هو الآخر مكتبه لمتحف مصغر، تطوَّع بشرح تاريخ المهدية للضيوف اليافعين وهو تاريخ أجداده حيث أنه أحد أحفاد الخليفة.
كل فصل كان ينتظر دوره بالخارج، وكنا ننتظر نحن أيضاً جالسين بالخارج ننظر لمتدربي تعلم سياقة السيارات في الميدان، وبعض الخيول التي كان يتم تمشيتها حول الميدان وهي تبدو كما أنها لو كانت في مكانها الطبيعي.
أعلى الباب كانت هناك لافتة كُتب عليها مساحة الميدان 470 *295 ذراع، يا ترى لمن كان هذا الذراع الذي قاسوا بها الميدان؟ وهل كان عمل هذا الشخص أن يكون القياس؟ وهل كانوا ينادونه كلما احتاجوا لذراعه؟
الآن جاء دورنا للدخول، أخذت جولة حول مقتنيات الغرفة ثم سألت الرجل المسن (مسن آخر):
- "هل تذكر متى تم تحويل الميدان إلى منتزه؟"
- "بالطبع أذكر، كنت واحداً من الذين وقفوا في وجه هذا القرار الجائر!"
- "لماذا؟"
- لأن الميدان هو المسجد! لا يعني أنه ليس مسقوفاً أنه يمكن أن يتغير غرضه وأن يُبَاح استخدامه كميدان عام!
- "ماذا حدث إذن؟"
- "قام نميري بهدم السور العتيق وشيَّد مكانه هذه الأسوار المعدنية، وبدأ تشييد الصرح وتجهيز المحيط، تقدمنا بدعوة قضائية وفزنا بها، وأنا بنفسي كنت شاهداً على إزالة كل شيء لكن الأعمدة الأسمنتية كانت عصية على الإزالة فتُركت بمكانها".
- "أنا واثق من أنه كان يريد أن يستخدمه كمدافن للناس!"، قال أحد المتجولين، والذي خرج لنا فُجأةً من حيث لا ندري، كأنه واحد من هؤلاء المدفونين المزعومين.
- "ماذا يجعلك تعتقد هذا؟"
- "يقال أنه يوجد غرف تحت هذه الأعمدة".
وأول شي قد خطر ببالك أنها بنيت لدفن الموتى!... سألته مباشرة : "هل رأيتهم؟"
- "لا ولكن ما عسى أن يكون الغرض منها؟"
"هذه صرح ضخم لا بد أنه يحتاج لهذا النوع من الإنشاءات أو القواعد تحت الأرض لتثبيته!"
- "لا أعلم".
وما عن هذه الأعمدة؟ ماذا كان الغرض من تلك الأعمدة؟
لا أدري ولكن أذكر أنها شيء عن الأبطال...
قررت أن أُعيد المحاولة مرة أخرى مع الوثائق هذه المرة، مع دار وثائق أكثر سهولة في الدخول. جلست أمام الموظفة التي كانت مهمتها الوحيدة تقرير ماذا كان مسموحاً لي بالإطلاع عليه وهو عادة كل شيء عدا الشيء الذي تبحث عنه. بعد أن شرحت لها غرضي اقترحت علي قراءة كتاب محمد أبو سليم عن الخرطوم. لأنه هو من قام بتأسيس دار الوثائق وكتب من وثائقها مجموعة كبيرة من الكتب.
كتب أبو سليم كثيراً عن الميدان وقال إنه بُني على مراحل، بداية من القش ثم الطين وأخيراً الحجر. وقال إن الميدان دوماً كان يستخدم للاحتفالات الدينية وعرض جيش الخليفة حيث كان موقع الميدان في قلب المدينة، وملتقى مجموعة من الطرق، وإحدى هذه الطرق كان يأتي منها الجيش للعرض ومنها سميت لاحقاً بـ"شارع العرضة"، وكذلك سمي الطريق الذي كان يغادر منه الجيش بـ"شارع الهجرة".
في كتاب آخر داخل هذا الأرشيف، رُسِم مخطط للمسجد في عهد الخليفة يبين به مكان وقوف كل قبيلة داخل المسجد في أوقات الصلاة. يبدو أنها كانت طريقة لتسجيل الحضور للتأكد من حضور الكل وأنه لا يجتمع أحد في مكانٍ ما للتآمر.
…..
كمحاولة مستميتة نشرت سؤال على شبكة الإنترنت يقول:
هل من أحد يعلم ماذا كان الغرض من ذاك الصرح في ميدان الخليفة؟
أتتني مجموعة من الإجابات عن صروح مختلفة لكن لم تكن أيّاً منها الصرح الذي استفسرت عنه. البعض تذكر مسلات معدنية في مواقع مختلفة في المدينة، لكن هل كانت واحدة أم كانوا ثلاث؟ هل كانت ثابتة أم متنقلة؟ لا أحد يجزم. بعضهم ذكر وجود مُدفع وآخرين تِمثال للبدري قيل إنه الأب وقيل أيضاً أنه الإبن، والشيء الوحيد المؤكد أنهم جميعاً لم يعد لهم وجود اليوم.
حاولت مجدداً نشر السؤال على فيسبوك في مجموعة للصور القديمة.
أتتني الإجابة متفرّقة بين تعليقات الأجندات السياسية التي تُحشر في كل مكان. التعليقات أشارت إلى أن قرار نميري بتحويل الميدان لم يكن بمعزل من خلافاته السياسية مع أُسرة المهدي، وكان يُنظر للقرار على أنها محاولة منه لمحو إرث تاريخ المهدية. فيما يُعنى بالصرح قيل إنه في أواخر السبعينيات تم تحويل الميدان إلى منتزه عام وسمي بـ"ساحة الأبطال"، والأعمدة المنصوبة عُرِفَت بـ"صرح الأبطال"، كُسيت بحجر الرخام الأبيض وتم رصف ممرات تنتهي بسلم عند الأعمدة مما يوحي أن البناء يفضي إلى السماء. اقترح عليّ أحدهم مشاهدة تسجيل أغنية الفنان عبد العزيز محمد داؤود "الفينا مشهودة"، حيث يظهر التسجيل مجموعة من المباني الأثرية من ضمنها صرحي المنشود!
يُظهر التسجيل أعمدة النصب الثلاثة محاطة بمنحوتات تصوّر معارك مختلفة وأشعة الشمس منعكسة بينها.
بعد عدة سنوات من زيارتي الأولى للميدان وجدت نفسي أقف مجدداً أمامه، وأيضاً في موسم احتفالات المولد حيث تأتي أصوات الإنشاد من داخل الميدان، رغم محاولات مكبرات صوت داخل مبنى البلدية من كبتها، يمكنك سماع صوت الرجال يُكَفِّرون كل من بالميدان. وبين كل هذا يستلقي عشرات الأطفال على دوّار به كرة ضخمة في التقاطع الصغير الواقع عند ملتقى مصدر الأصوات من الجهتين غير مكترثين بهذا الكم الهائل من حرية التعبير.
هي ساحة للعرض العسكري، سوق، ميدان عام، مكان للاحتفالات الدينية وساحة للاحتجاج على هذه الاحتفالات، هو فكرة مذهلة، وهو قرار متعسف، هو صرح مليء بالغموض ومؤامرات شريرة مزعومة، هو متحف مصغر، وساحة لتدريب الخيل... هو كل شيء وأكثر، الآن يمكنني القول بأن هذا الميدان المكسو باللون البني الكئيب ينبض بكثيرٍ من الحياة.
نُشر هذا المقال لأول مرة في عام ٢٠٢٢ اسم ميدان الخليفة في كتاب إلى أن نلتقي، نشر وحُرِّر من قبل لوكال وورق.
ميدان الخليفة
في ٢٦ يناير ١٨٨٥م، وإبّان مقتل الحاكم البريطاني غردون باشا، أنهت قوات المهدي الحكم التركي في السودان في ثورة استمرت من ١٨٨١ حتى ١٨٨٥م. المهدي كان زعيماً دينيَّاً تَوَحَّد السودانيون حوله لمقاومة الحكم التركي، ولكنه توفي بعد انتصار الثورة بفترة وجيزة، ولم يشهد قيام دولته الإسلامية المنشودة.
تولى من بعده الخليفة عبد الله، والذي أصبح منوطاً بتأسيس الدولة المهدية الجديدة التي اتَّخذت أمدرمان عاصمةً لها. كانت البقعة التي اختارها المهدي منزلاً له في حياته، ومثواه الأخير لاحقاً، هي النواة التي نَمَت منها مدينة أمدرمان على مدار ثلاثة عشرة سنة عبر طول ستة أميال ممتدة على الشاطئ الغربي للنيل.
بنى الخليفة منزله ومباني حكومته جنوب مقام المهدي، وشيَّد غرباً أكبر مباني المدينة، ألا وهو مسجد الخليفة، الذي صُمِّمَ لاستيعاب عشرة آلاف من المصلين. كانت جدران المسجد حجرية مطلية بالجير الأبيض، وبه محراب وكان مسقوفاً جزئيَّاً. النساء كُنَّ مفصولات عن الرجال بسور من الأشجار من الناحية الغربية. الشيء الوحيد الذي تبقى بعد الغزو البريطاني عام ١٨٩٨ هو الجدران الحجرية.
على مر القرن الماضي، خضع المسجد للعديد من التغييرات وأُطلق عليه العديد من الأسماء واستخدم لمختلف الأغراض.
أشارككم تجربتي مع العديد من الأشخاص في محاولة تقصي ما مَرَّ به هذا المكان عبر الزمن.
ذكريات داخل الذاكرة
في ظهر يومٍ عاديّ، حيث أخطأت في ركوب حافلة غير التي أريد، ووجدت نفسي أمام ميدان الخليفة. عرفتُ، من النظرة الأولى، أننا في وقت احتفالات المولد النبوي من ظهور محلات بيع حلوى المولد التي تنتشر هناك مع بدايات شهر ربيع الأول. حيث تمتلئ أعينك بحلاوة عروس المولد المصبوغة باللون الوردي وأشكالٍ أُخرى من أنواع مختلفة من الحلويات المُشبَّعة بالسّكَّر. على الرغم أن الكثير من الناس أصبحوا ينتقدون هذه الحلوى وطرق تصنيعها، وتأثيرها على الصحة، إلا أنك تجد نفسك تغضّ الطرف عن كلّ هذا عندما تقف أمام البائع قائلاً:
- "ناولني ٢ كيلو من هذه من فضلك!"
في هذه الأثناء، ألقَيتُ نظرةً على الميدان خلف محلات الحلوى، وهو مبتهجٌ بطيفٍ من الألوان، اصطفَّت خيام الطرق الصوفية، وغاب عنه اللون البني الكئيب الذي يكسوه طوال العام. عند منتصف الميدان، تنتصب ثلاثة أعمدة إسمنتية عُلِّقَت عليها ألوان من زينة المولد لطالما لفتَت انتباهي، ولكن تزيّنها بهذه الطريقة منعني أن أتجاهل فضولي حولها هذه المرة.
اقتربت من الشاب الجالس في ظلّها الضيق الذي بالكاد يظلّ جسده النحيل أسأله: "ما هذه؟".
"لا أدري، نُعلّق عليها الزينة في كل عام".
رَحلتُ وأنا أفكّر أنه لا يمكن لهذه الأعمدة الإسمنتية الكبيرة أن تكون مصنوعة لغرض تعليق الزينة فقط!
.........
تحصّلتُ، بعد عناء كبير، على تصريح للدخول لمكتبة للوثائق الصورية يُقدَّر أن بها أكثر من إثنين مليون صورة وثائقية.
تصفحت حوالي ١٧٠٠ صورة لمباني مهمة من مجلد بعنوان الخرطوم، عددٌ مقدّرٌ منها من الصور لمبنى البرلمان، وفصل كامل عن سوق أمدرمان، وأخيراً عثرت على صور الميدان المنشودة، والتي لا توحي باللون البني في شيء، على الرغم من أنها صور بالأبيض والأسود، إلا أن الأشجار تضجّ بالخضرة، وإن كانت باديةً بلونٍ أسودٍ غامق.
سألت الرجل المسنّ (ودائماً ما يكون هنالك رجل مسن في الدوائر السودانية) :"هل يمكنني أخذ صورة؟"
- "لا هذا ممنوع"
- "ولكن لدي تصريح!"
- "ليس كافياً، يجب أن يُرفَق بتوقيع آخر، ويُصدَّق عليه من جهة أخرى بعد أن يمرَّ على الجهة المختصَّة التي.. إلخ إلخ.
اكتفيت عندئذٍ بتصويره في مخيلتي ثمّ ذهبت.
........
وقف الدكتور عثمان يحاضر في إحدى الجامعات عن نشأة مدينتين، أمدرمان والخرطوم وكيف كانت إحداها تُجسِّد المدينة الأوروبية المثالية في وسط إفريقيا مقابل المدينة ذات الثقافة والسِمات المحلية الواقعة غرب النيل. بيّن د.عثمان كيف وزَّع الخليفة الأراضي وكيف قُسِّمت الشوارع ومن ثم كيف تمدَّدت مع مرور الوقت لتصبح مغلقة وخالية من أي مساحات للميادين العامة.
-"د.عثمان!"
-"نعم؟"
-"هل تعلم أن ميدان الخليفة كان منتزهاً؟"
-"كيف لا أعلم! كنت أعمل على هذا المشروع وأنا لا أزال مهندساً خريجاً يافعاً، كم كانت فكرة مُذهلة حيث أن أمدرمان كانت تخلو من المساحات الخضراء وهذا المشروع كان سيغيّر وجه المدينة كُلياً ليصبح الميدان منتزهاً عامَّاً في وسطها النابض"
-"ولكن لماذا لم يعد المنتزه موجوداً؟"
-"لا أعلم"
-"وماذا بشأن تلك الأعمدة ماذا كان الغرض منها؟"
-"لا أذكر"
حاولت البحث عن تلك الشركة الإيطالية التي ذكر د.عثمان أنها كانت صاحبة فكرة المنتزه، لم أعثر على شيء عنها ولا عن الأعمدة الثلاثة.
.........
وقفتُ في غرفة مكتظة بالتحف والصور الجدارية والتلاميذ وهي غرفة بالتأكيد لم تكن مصممة لتحتوي أيٍّ من هذه الثلاث.
قبل عدة ساعات كانت قد أرسلت ثلاثة مدارس تلاميذها لزيارة متحف بيت الخليفة، وبسبب غياب التنسيق من المدرسة لم يدروا بأن المتحف مغلق للصيانة، ولإنقاذ الموقف تطوَّع مدير اللجنة المسؤولة عن الميدان، الذي حُوِّل هو الآخر مكتبه لمتحف مصغر، تطوَّع بشرح تاريخ المهدية للضيوف اليافعين وهو تاريخ أجداده حيث أنه أحد أحفاد الخليفة.
كل فصل كان ينتظر دوره بالخارج، وكنا ننتظر نحن أيضاً جالسين بالخارج ننظر لمتدربي تعلم سياقة السيارات في الميدان، وبعض الخيول التي كان يتم تمشيتها حول الميدان وهي تبدو كما أنها لو كانت في مكانها الطبيعي.
أعلى الباب كانت هناك لافتة كُتب عليها مساحة الميدان 470 *295 ذراع، يا ترى لمن كان هذا الذراع الذي قاسوا بها الميدان؟ وهل كان عمل هذا الشخص أن يكون القياس؟ وهل كانوا ينادونه كلما احتاجوا لذراعه؟
الآن جاء دورنا للدخول، أخذت جولة حول مقتنيات الغرفة ثم سألت الرجل المسن (مسن آخر):
- "هل تذكر متى تم تحويل الميدان إلى منتزه؟"
- "بالطبع أذكر، كنت واحداً من الذين وقفوا في وجه هذا القرار الجائر!"
- "لماذا؟"
- لأن الميدان هو المسجد! لا يعني أنه ليس مسقوفاً أنه يمكن أن يتغير غرضه وأن يُبَاح استخدامه كميدان عام!
- "ماذا حدث إذن؟"
- "قام نميري بهدم السور العتيق وشيَّد مكانه هذه الأسوار المعدنية، وبدأ تشييد الصرح وتجهيز المحيط، تقدمنا بدعوة قضائية وفزنا بها، وأنا بنفسي كنت شاهداً على إزالة كل شيء لكن الأعمدة الأسمنتية كانت عصية على الإزالة فتُركت بمكانها".
- "أنا واثق من أنه كان يريد أن يستخدمه كمدافن للناس!"، قال أحد المتجولين، والذي خرج لنا فُجأةً من حيث لا ندري، كأنه واحد من هؤلاء المدفونين المزعومين.
- "ماذا يجعلك تعتقد هذا؟"
- "يقال أنه يوجد غرف تحت هذه الأعمدة".
وأول شي قد خطر ببالك أنها بنيت لدفن الموتى!... سألته مباشرة : "هل رأيتهم؟"
- "لا ولكن ما عسى أن يكون الغرض منها؟"
"هذه صرح ضخم لا بد أنه يحتاج لهذا النوع من الإنشاءات أو القواعد تحت الأرض لتثبيته!"
- "لا أعلم".
وما عن هذه الأعمدة؟ ماذا كان الغرض من تلك الأعمدة؟
لا أدري ولكن أذكر أنها شيء عن الأبطال...
قررت أن أُعيد المحاولة مرة أخرى مع الوثائق هذه المرة، مع دار وثائق أكثر سهولة في الدخول. جلست أمام الموظفة التي كانت مهمتها الوحيدة تقرير ماذا كان مسموحاً لي بالإطلاع عليه وهو عادة كل شيء عدا الشيء الذي تبحث عنه. بعد أن شرحت لها غرضي اقترحت علي قراءة كتاب محمد أبو سليم عن الخرطوم. لأنه هو من قام بتأسيس دار الوثائق وكتب من وثائقها مجموعة كبيرة من الكتب.
كتب أبو سليم كثيراً عن الميدان وقال إنه بُني على مراحل، بداية من القش ثم الطين وأخيراً الحجر. وقال إن الميدان دوماً كان يستخدم للاحتفالات الدينية وعرض جيش الخليفة حيث كان موقع الميدان في قلب المدينة، وملتقى مجموعة من الطرق، وإحدى هذه الطرق كان يأتي منها الجيش للعرض ومنها سميت لاحقاً بـ"شارع العرضة"، وكذلك سمي الطريق الذي كان يغادر منه الجيش بـ"شارع الهجرة".
في كتاب آخر داخل هذا الأرشيف، رُسِم مخطط للمسجد في عهد الخليفة يبين به مكان وقوف كل قبيلة داخل المسجد في أوقات الصلاة. يبدو أنها كانت طريقة لتسجيل الحضور للتأكد من حضور الكل وأنه لا يجتمع أحد في مكانٍ ما للتآمر.
…..
كمحاولة مستميتة نشرت سؤال على شبكة الإنترنت يقول:
هل من أحد يعلم ماذا كان الغرض من ذاك الصرح في ميدان الخليفة؟
أتتني مجموعة من الإجابات عن صروح مختلفة لكن لم تكن أيّاً منها الصرح الذي استفسرت عنه. البعض تذكر مسلات معدنية في مواقع مختلفة في المدينة، لكن هل كانت واحدة أم كانوا ثلاث؟ هل كانت ثابتة أم متنقلة؟ لا أحد يجزم. بعضهم ذكر وجود مُدفع وآخرين تِمثال للبدري قيل إنه الأب وقيل أيضاً أنه الإبن، والشيء الوحيد المؤكد أنهم جميعاً لم يعد لهم وجود اليوم.
حاولت مجدداً نشر السؤال على فيسبوك في مجموعة للصور القديمة.
أتتني الإجابة متفرّقة بين تعليقات الأجندات السياسية التي تُحشر في كل مكان. التعليقات أشارت إلى أن قرار نميري بتحويل الميدان لم يكن بمعزل من خلافاته السياسية مع أُسرة المهدي، وكان يُنظر للقرار على أنها محاولة منه لمحو إرث تاريخ المهدية. فيما يُعنى بالصرح قيل إنه في أواخر السبعينيات تم تحويل الميدان إلى منتزه عام وسمي بـ"ساحة الأبطال"، والأعمدة المنصوبة عُرِفَت بـ"صرح الأبطال"، كُسيت بحجر الرخام الأبيض وتم رصف ممرات تنتهي بسلم عند الأعمدة مما يوحي أن البناء يفضي إلى السماء. اقترح عليّ أحدهم مشاهدة تسجيل أغنية الفنان عبد العزيز محمد داؤود "الفينا مشهودة"، حيث يظهر التسجيل مجموعة من المباني الأثرية من ضمنها صرحي المنشود!
يُظهر التسجيل أعمدة النصب الثلاثة محاطة بمنحوتات تصوّر معارك مختلفة وأشعة الشمس منعكسة بينها.
بعد عدة سنوات من زيارتي الأولى للميدان وجدت نفسي أقف مجدداً أمامه، وأيضاً في موسم احتفالات المولد حيث تأتي أصوات الإنشاد من داخل الميدان، رغم محاولات مكبرات صوت داخل مبنى البلدية من كبتها، يمكنك سماع صوت الرجال يُكَفِّرون كل من بالميدان. وبين كل هذا يستلقي عشرات الأطفال على دوّار به كرة ضخمة في التقاطع الصغير الواقع عند ملتقى مصدر الأصوات من الجهتين غير مكترثين بهذا الكم الهائل من حرية التعبير.
هي ساحة للعرض العسكري، سوق، ميدان عام، مكان للاحتفالات الدينية وساحة للاحتجاج على هذه الاحتفالات، هو فكرة مذهلة، وهو قرار متعسف، هو صرح مليء بالغموض ومؤامرات شريرة مزعومة، هو متحف مصغر، وساحة لتدريب الخيل... هو كل شيء وأكثر، الآن يمكنني القول بأن هذا الميدان المكسو باللون البني الكئيب ينبض بكثيرٍ من الحياة.
نُشر هذا المقال لأول مرة في عام ٢٠٢٢ اسم ميدان الخليفة في كتاب إلى أن نلتقي، نشر وحُرِّر من قبل لوكال وورق.