المناخ والثقافة: دورة التراث اللا المادي

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
10/3/25
المؤلف:
مايكل ملينسون
د.هيلين ملينسون
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
خالدة محمد نور
المترجم:
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

كانت صحراء خضراء
زيارة أنقاض الحضارات الماضية المدفونة بالرمال على طول نهر النيل في السودان يمكن أن يثير الكثير من الأسئلة. كمن شيدها ولماذا، وكيف عاش الناس فيها؟ العديد من هذه المعالم الأثرية ضخمة ومعقَّدة، منحوتة ومزيَّنة بشكلٍ متقن ولازالت قائمة بعد مرور آلاف السنين. عندما تم اكتشافها لأول مرة، من قبل علماء الآثار، كان الافتراض أنها دليل على عظمة الحضارة المصرية في تمدّدها نحو الجنوب. ولكن المزيد من الدراسات كَشَفت أن النوبة القديمة كانت مهداً للحضارة، وأن مملكة كوش أقامت إمبراطوريات حكمت مصر. أما الأبحاث الأثرية الحديثة فقد بدأت في رسم صورة أخرى، حيث لا يركز الباحثون فقط على الأدلة المتعلقة بالنباتات والحيوانات التي كانت موجودة في ذلك الوقت، ولكن أيضاً اتجه اهتمامهم إلى طبيعة المناخ آنذاك. فالمدن والمناطق الحضرية، من العصور القديمة إلى الحديثة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمحيطها الطبيعي.

خرائط المناخ الحيوي الساحلي رسمتها آمنة الإدريسي. مع انتقال خط الأمطار نحو الجنوب من ٥٠٠٠ إلى ١٠٠٠ قبل الميلاد، يتحرك رعاة الماشية نحو الجنوب.

في السبعينيات، بدأ الباحثون يكتشفون أن الصحراء الكبرى والصحاري العربية كانت ذات يوم مغطاة بالأعشاب والأشجار والبحيرات. كانت الصحراء الكبرى تُروى بأمطار موسمية من المحيطين الأطلسي والهندي، مثل ما هو عليه الحال في منطقة الساحل اليوم. قد عاش سكان الصحراء الخضراء كصيادين وجامعي ثمار رُحَّل قاموا بتربية الأغنام والماعز والأبقار البرية -أسلاف البقر الحديثة- وصاروا رعاة. لقد تركوا صوراً رائعة لحياتهم في رسومات على الصخور. ثم منذ حوالي ٦٠٠٠ عام، بدأت الصحراء الكبرى تجف. تجمع الرعاة حول مصادر المياه الأكثر ديمومة، مثل البحيرات الموسمية، أو انتقلوا جنوبًا عبر القارة بأكملها، أو بدأوا في الاستقرار على طول النيل حيث أصبحت الزراعة خيارًا ممكنًا بعد أن جفَّت المستنقعات أيضاً.

التوسع، التنوّع والصلات...

في منطقة التي تُعرف الآن بالنوبة السفلى، بدأت أشكال الملكية النيلية في الظهور، والتي أطلق عليها علماء الآثار اسم المجموعة (أ) والمجموعة (ج). كانت هذه المجموعات جزءًا من نمط سكّاني متغيّر. فبينما وفَّر نهر النيل مصدراً مستقراً ودائماً للمياه مما شجّع على الاستيطان والزراعة، طورت المجتمعات البدوية أنظمة إدارة للعيش في مناخ الساحل شبه الجاف وأيضاً إنتاج كميات كبيرة من الماشية. وقد أتاح كلا نمطي الحياة فرصًا للتجارة والتبادل الثقافي، سواء فيما بينهم أو مع مناطق أبعد، كما أن بعض المجتمعات جمعت بين الأسلوبين. هذه هي البيئة التي تحتاج إلى دراسة أعمق لفهم كيفية تفاعل أنماط الحياة ووسائل العيش المختلفة. فقد كانت القبائل أو العائلات نفسها تشارك في هذا الطيف الواسع من الأنشطة، سواء في أوقات السلم أو الصراع، تمامًا كما هو الحال في يومنا هذا.

إن أسباب التصحّر في الصحراء الكبرى تختلف عن أسباب تغير المناخ الذي يحدث الآن، والذي يسرّع من الحدث الطبيعي المستمر. يتعلَّق الأمر بتذبذب في ميلان محور الأرض وظاهرة تُعرف باسم "ترنح الاعتدالات". وبمعنى آخر، فإن خط المطر الموسمي الذي كان يحوِّل شمال إفريقيا إلى أرض خضراء يتحرَّك ببطء نحو الجنوب في دورة تمتد لـ ١٧٠٠٠ سنة. الفكرة المطروحة هنا هي أن خط المطر مرتبط بدورات التبادل الثقافي. فكل ما بُني على ضفاف النيل كان جزءًا من نمط أوسع من التبادل والاعتماد المتبادل والتفاعل، ويمكن فهم تاريخه بسهولة أكبر إذا تم التركيز على دور المناخ.

دورة التراث الثقافي غير المادي لمايكل مالينسون

خطوط المطر، هجرة الماشية، والمدن المتنقلة

يمكن العثور على أدلة هذا الطرح من خلال النظر في هجرة المدن النيلية. فقد شهد الانتقال من الفترة النَبْتِيَّة إلى الفترة المرَوية نقل العاصمة من جبل البركل جنوبًا إلى مروي. لم يكن هذا التحول بسبب غزو مصري، حيث بقيت الثقافة المروية مهيمنة في الشمال، بل كان نتيجة لتحرك حزام المطر. فعلى مدار الألفي عام التي تلت المملكة القديمة، تحرك هذا الحزام جنوبًا إلى درجة لم تعد تسمح للماشية بإتمام هجرتها عبر صحراء بويضة. استمرت التجارة، ولكن جفاف وادي مقدم، الذي كان في السابق طريقًا دائمًا للفيضانات، جعل جبل البركل غير صالح كمركز تجاري، مما أدى إلى صعود مروي كمركز رئيسي لتجارة الماشية.

على مدار الألفيات التالية، انتشر الرُعاة الرُحّل عبر الساحل الإفريقي. وارتبطت الممالك ببعضها من الشرق إلى الغرب، ونشأت طرق تجارية بالتوازي مع الهجرات الموسمية. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن أولى المستوطنات في دارفور تعود إلى ما بعد العصر المروي، وتتوافق مع مستوطنات أخرى غربًا. ورغم أن وادي النيل ظلَّ الطريق الرئيسي من الشمال إلى الجنوب، إلا أن طُرقًا تجارية جديدة باتجاه الساحل بدأت بالتطور، حيث ساعدت السفن الرومانية في ربط التجارة على طول ساحل البحر الأحمر مع بلاد فارس والهند.

.

ظلّ دور الرعاة الرُحّل مستمرًا عبر تاريخ الساحل الإفريقي. وكان أسلوبهم المعتمد في إدارة الأراضي مناسبًا للبيئة والمناخ، حيث وفَّر نمطًا مستدامًا للعيش. وقد انعكس التراث الثقافي لرعي الماشية في الرموز التي وُجدت ضمن بقايا الممالك المسيحية المبكرة، والتي انتقلت من النوبة إلى سوبا، وأصبحت مركزًا لمملكة مسيحية امتدت من أكسوم إلى إسطنبول. ولم يشكّل وصول الإسلام تغيرًا جذريًا في المشهد، لكن اعتماد الجمل كوسيلة نقل أحدث تحولًا جوهرياً في الحياة البدوية. فلم يعد نهر النيل هو الطريق الوحيد إلى الشمال، بل أتاحت التجارة عبر الساحل الإفريقي نشوء ممالك جديدة. كان للعديد منها روابط مسيحية في البداية، لكن انتشار الإسلام عبر الطرق التجارية البعيدة عن مصر أدى إلى تطورها الإسلامي. وانتشرت الأنماط المعمارية لوادي النيل، مثل القِباب والمساجد التي عكست تصميم الأهرامات والكنائس القديمة، عبر الساحل من جبال البحر الأحمر إلى جبال دارفور.

في القرن السادس عشر، أصبحت سنار عاصمة سلطنة الفونج، مجددًا بالقرب من المجتمعات الرعوية. وفي أوائل القرن التاسع عشر، أسس العثمانيون عاصمتهم في الأٌبيّض لتكون قريبة من تجارة البدو القادمة من الجنوب والغرب. أما في العصر الحديث، فقد تغير نمط التطور في السودان، حيث بات يعتمد على وسائل نقل جديدة، مثل البواخر والقطارات، التي لم تكن تعتمد على الأمطار في الوصول إلى المناطق المختلفة. وقد تم اختيار الخرطوم كموقع للعاصمة بسبب موقعها المناسب؛ حيث تقع على حافة حزام الأمطار الحالي.

الأشقاء

تم إجراء أكثر الأبحاث حول الآثار المادية للمجتمعات المستقرة القديمة والأبنية التي تركتها، أكثر من دراسة تاريخ التراث الحي، وبيئاته الموسمية، وسبل العيش التي اعتمدتها تلك المجتمعات. ومع ذلك، يمكننا القول إنه بحلول بداية عصر المملكة القديمة المصرية، ظهرت مجموعتان رئيسيتان:

- المجتمعات المستقرة شمال أسوان، والتي اعتمدت على الفيضان الموسمي لنهر النيل، مع إمكانية تربية الماشية في دلتا النيل. إلى جانب الزراعة، طوروا طقوس جنائزية وسجلات مكتوبة.

- المجتمعات الجنوبية، التي ركزت على رعي الماشية البدوي، مع روابط تجارية تمتدّ عبر الساحل الإفريقي وثقافة متنقلة.

في المملكة المصرية القديمة، مُثِّل نَمَطَا الحياة من خلال أسطورة حورس، ساكن النيل، وسَت، الراعي، وكانت قصتهما عبارة عن علاقات قوة معقدة. في النصوص الأصلية التي تصف الغزو المفترض للنوبة من قبل فراعنة المملكة القديمة، تدور القصة حول رحلة تجارية حيث اعتمد الملوك الشماليون على الإذن من جيرانهم النوبيين للقيام بتجارتهم مع الجنوب. خلال المملكة الوسط، شيّد الفراعنة المصريون قلاعًا ضخمة لحماية أنفسهم من جيرانهم الجنوبيين. كان انهيار مصر في الفترات الوسيطة جزئيًا بسبب فشل الأمطار في الجنوب، بالإضافة إلى غزو من قبل شعوب آسيوية في الشمال. لم تؤثر هذه المشكلة على الممالك النوبية الجنوبية البدوية بقدر كبير لأنه عندما تحركت الأمطار، تحركوا معها. وإذا تعرضوا للغزو، كما حدث في بداية المملكة الحديثة، فإنهم انتقلوا جنوبًا. لم يكن للساحل حدود مُحدَّدة، بل كانت منطقة شاسعة تحكمها الأمطار وتتقاطع معها هجرات الماشية والإبل والطرق التجارية.

تاريخ الممالك النيلية المستقرة مرتبط بشكل جوهري بالشعوب البدوية التي كانت تسكن ليس فقط الأراضي إلى الجنوب، ولكن أيضًا الدلتا والصحارى. طوَّر كلٌّ منهم، ككتلة واحدة، مهارات محددة وكانوا بحاجة إلى بعضهم البعض؛ سواء من أجل السلع التجارية أو اليد العاملة أو المحاربين، أو المحاصيل الزراعية أو الحصول على الماشية لتقديم القرابين في المعابد والقبور، أو للحصول على اللحم والجلود. كانت المستوطنات في وادي النيل، على الرغم من كونها مستدامة بسبب الفيضانات المنتظمة، عرضة أيضًا للمجاعة والأمراض والفيضانات، والكوارث العرضية، بما في ذلك الغزوات. كانت الطقوس التي نشأت حول أساطير حورس وسَت جزءًا من تراث مشترك. تضمَّنت معابد آمون في أسوان وجبل البركل تصويرًا للتجار البدو كجزء من السجل التاريخي. صَوَّر المصريين كثقافة مهيمنة لكنها تعتمد على جيرانها للحصول على السلع التجارية والماشية والعبيد.

انتشار الثقافة البدوية بعيداً عن وادي النيل في الفترة ما بعد المروية بواسطة مايكل مالينسون

ما تشير إليه الأبحاث الحديثة أنه منذ البداية كانت هناك دورة مستمرة وديناميكية من التبادل الثقافي بين المجتمعات المستقرة والبدوية، مدفوعة بتكيُّف الناس مع التغيرات المناخية التي دفعتهم جنوبًا، حيث كانوا يتحولون بين أسلوب الحياة المستقر والبدوي أو يجمعون بينهما. في هذا السياق، كان يمكن للرحّل أن يصبحوا مزارعين، أو يتحول المزارعون إلى تجار بدو وهكذا دواليك.

يمكن العثور على أدلة هذا التفاعل في العديد من جوانب التراث الحي في السودان. فالموسيقى، والرقص، والزخارف، والأزياء المميزة لوادي النيل، على سبيل المثال، تعكس روابط عميقة مع الثقافة البدوية. وإذا كانت المعابد والمقابر العريقة في وادي النيل قد بُنيت لتمجيد الحياة الآخرة، فقد تم ذلك ضمن نسيج من التراث الحي الذي لا يزال مستمرًا حتى اليوم داخل العائلة الممتدة التي هي السودان.

الدورات الثقافية للتراث غير المادي على مدى آلاف السنين. رسم تخطيطي لانتشار الثقافة البدوية بقلم مايكل مالينسون

صورة الغلاف: جزيرة ناوا، شمال كريمة، متأثرة بشدة بالتصحر. © عصام أحمد عبد الحفيظ

No items found.
نُشر بتاريخ
10/3/25
المؤلف:
مايكل ملينسون
د.هيلين ملينسون
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
خالدة محمد نور
Translator
كانت صحراء خضراء
زيارة أنقاض الحضارات الماضية المدفونة بالرمال على طول نهر النيل في السودان يمكن أن يثير الكثير من الأسئلة. كمن شيدها ولماذا، وكيف عاش الناس فيها؟ العديد من هذه المعالم الأثرية ضخمة ومعقَّدة، منحوتة ومزيَّنة بشكلٍ متقن ولازالت قائمة بعد مرور آلاف السنين. عندما تم اكتشافها لأول مرة، من قبل علماء الآثار، كان الافتراض أنها دليل على عظمة الحضارة المصرية في تمدّدها نحو الجنوب. ولكن المزيد من الدراسات كَشَفت أن النوبة القديمة كانت مهداً للحضارة، وأن مملكة كوش أقامت إمبراطوريات حكمت مصر. أما الأبحاث الأثرية الحديثة فقد بدأت في رسم صورة أخرى، حيث لا يركز الباحثون فقط على الأدلة المتعلقة بالنباتات والحيوانات التي كانت موجودة في ذلك الوقت، ولكن أيضاً اتجه اهتمامهم إلى طبيعة المناخ آنذاك. فالمدن والمناطق الحضرية، من العصور القديمة إلى الحديثة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمحيطها الطبيعي.

خرائط المناخ الحيوي الساحلي رسمتها آمنة الإدريسي. مع انتقال خط الأمطار نحو الجنوب من ٥٠٠٠ إلى ١٠٠٠ قبل الميلاد، يتحرك رعاة الماشية نحو الجنوب.

في السبعينيات، بدأ الباحثون يكتشفون أن الصحراء الكبرى والصحاري العربية كانت ذات يوم مغطاة بالأعشاب والأشجار والبحيرات. كانت الصحراء الكبرى تُروى بأمطار موسمية من المحيطين الأطلسي والهندي، مثل ما هو عليه الحال في منطقة الساحل اليوم. قد عاش سكان الصحراء الخضراء كصيادين وجامعي ثمار رُحَّل قاموا بتربية الأغنام والماعز والأبقار البرية -أسلاف البقر الحديثة- وصاروا رعاة. لقد تركوا صوراً رائعة لحياتهم في رسومات على الصخور. ثم منذ حوالي ٦٠٠٠ عام، بدأت الصحراء الكبرى تجف. تجمع الرعاة حول مصادر المياه الأكثر ديمومة، مثل البحيرات الموسمية، أو انتقلوا جنوبًا عبر القارة بأكملها، أو بدأوا في الاستقرار على طول النيل حيث أصبحت الزراعة خيارًا ممكنًا بعد أن جفَّت المستنقعات أيضاً.

التوسع، التنوّع والصلات...

في منطقة التي تُعرف الآن بالنوبة السفلى، بدأت أشكال الملكية النيلية في الظهور، والتي أطلق عليها علماء الآثار اسم المجموعة (أ) والمجموعة (ج). كانت هذه المجموعات جزءًا من نمط سكّاني متغيّر. فبينما وفَّر نهر النيل مصدراً مستقراً ودائماً للمياه مما شجّع على الاستيطان والزراعة، طورت المجتمعات البدوية أنظمة إدارة للعيش في مناخ الساحل شبه الجاف وأيضاً إنتاج كميات كبيرة من الماشية. وقد أتاح كلا نمطي الحياة فرصًا للتجارة والتبادل الثقافي، سواء فيما بينهم أو مع مناطق أبعد، كما أن بعض المجتمعات جمعت بين الأسلوبين. هذه هي البيئة التي تحتاج إلى دراسة أعمق لفهم كيفية تفاعل أنماط الحياة ووسائل العيش المختلفة. فقد كانت القبائل أو العائلات نفسها تشارك في هذا الطيف الواسع من الأنشطة، سواء في أوقات السلم أو الصراع، تمامًا كما هو الحال في يومنا هذا.

إن أسباب التصحّر في الصحراء الكبرى تختلف عن أسباب تغير المناخ الذي يحدث الآن، والذي يسرّع من الحدث الطبيعي المستمر. يتعلَّق الأمر بتذبذب في ميلان محور الأرض وظاهرة تُعرف باسم "ترنح الاعتدالات". وبمعنى آخر، فإن خط المطر الموسمي الذي كان يحوِّل شمال إفريقيا إلى أرض خضراء يتحرَّك ببطء نحو الجنوب في دورة تمتد لـ ١٧٠٠٠ سنة. الفكرة المطروحة هنا هي أن خط المطر مرتبط بدورات التبادل الثقافي. فكل ما بُني على ضفاف النيل كان جزءًا من نمط أوسع من التبادل والاعتماد المتبادل والتفاعل، ويمكن فهم تاريخه بسهولة أكبر إذا تم التركيز على دور المناخ.

دورة التراث الثقافي غير المادي لمايكل مالينسون

خطوط المطر، هجرة الماشية، والمدن المتنقلة

يمكن العثور على أدلة هذا الطرح من خلال النظر في هجرة المدن النيلية. فقد شهد الانتقال من الفترة النَبْتِيَّة إلى الفترة المرَوية نقل العاصمة من جبل البركل جنوبًا إلى مروي. لم يكن هذا التحول بسبب غزو مصري، حيث بقيت الثقافة المروية مهيمنة في الشمال، بل كان نتيجة لتحرك حزام المطر. فعلى مدار الألفي عام التي تلت المملكة القديمة، تحرك هذا الحزام جنوبًا إلى درجة لم تعد تسمح للماشية بإتمام هجرتها عبر صحراء بويضة. استمرت التجارة، ولكن جفاف وادي مقدم، الذي كان في السابق طريقًا دائمًا للفيضانات، جعل جبل البركل غير صالح كمركز تجاري، مما أدى إلى صعود مروي كمركز رئيسي لتجارة الماشية.

على مدار الألفيات التالية، انتشر الرُعاة الرُحّل عبر الساحل الإفريقي. وارتبطت الممالك ببعضها من الشرق إلى الغرب، ونشأت طرق تجارية بالتوازي مع الهجرات الموسمية. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن أولى المستوطنات في دارفور تعود إلى ما بعد العصر المروي، وتتوافق مع مستوطنات أخرى غربًا. ورغم أن وادي النيل ظلَّ الطريق الرئيسي من الشمال إلى الجنوب، إلا أن طُرقًا تجارية جديدة باتجاه الساحل بدأت بالتطور، حيث ساعدت السفن الرومانية في ربط التجارة على طول ساحل البحر الأحمر مع بلاد فارس والهند.

.

ظلّ دور الرعاة الرُحّل مستمرًا عبر تاريخ الساحل الإفريقي. وكان أسلوبهم المعتمد في إدارة الأراضي مناسبًا للبيئة والمناخ، حيث وفَّر نمطًا مستدامًا للعيش. وقد انعكس التراث الثقافي لرعي الماشية في الرموز التي وُجدت ضمن بقايا الممالك المسيحية المبكرة، والتي انتقلت من النوبة إلى سوبا، وأصبحت مركزًا لمملكة مسيحية امتدت من أكسوم إلى إسطنبول. ولم يشكّل وصول الإسلام تغيرًا جذريًا في المشهد، لكن اعتماد الجمل كوسيلة نقل أحدث تحولًا جوهرياً في الحياة البدوية. فلم يعد نهر النيل هو الطريق الوحيد إلى الشمال، بل أتاحت التجارة عبر الساحل الإفريقي نشوء ممالك جديدة. كان للعديد منها روابط مسيحية في البداية، لكن انتشار الإسلام عبر الطرق التجارية البعيدة عن مصر أدى إلى تطورها الإسلامي. وانتشرت الأنماط المعمارية لوادي النيل، مثل القِباب والمساجد التي عكست تصميم الأهرامات والكنائس القديمة، عبر الساحل من جبال البحر الأحمر إلى جبال دارفور.

في القرن السادس عشر، أصبحت سنار عاصمة سلطنة الفونج، مجددًا بالقرب من المجتمعات الرعوية. وفي أوائل القرن التاسع عشر، أسس العثمانيون عاصمتهم في الأٌبيّض لتكون قريبة من تجارة البدو القادمة من الجنوب والغرب. أما في العصر الحديث، فقد تغير نمط التطور في السودان، حيث بات يعتمد على وسائل نقل جديدة، مثل البواخر والقطارات، التي لم تكن تعتمد على الأمطار في الوصول إلى المناطق المختلفة. وقد تم اختيار الخرطوم كموقع للعاصمة بسبب موقعها المناسب؛ حيث تقع على حافة حزام الأمطار الحالي.

الأشقاء

تم إجراء أكثر الأبحاث حول الآثار المادية للمجتمعات المستقرة القديمة والأبنية التي تركتها، أكثر من دراسة تاريخ التراث الحي، وبيئاته الموسمية، وسبل العيش التي اعتمدتها تلك المجتمعات. ومع ذلك، يمكننا القول إنه بحلول بداية عصر المملكة القديمة المصرية، ظهرت مجموعتان رئيسيتان:

- المجتمعات المستقرة شمال أسوان، والتي اعتمدت على الفيضان الموسمي لنهر النيل، مع إمكانية تربية الماشية في دلتا النيل. إلى جانب الزراعة، طوروا طقوس جنائزية وسجلات مكتوبة.

- المجتمعات الجنوبية، التي ركزت على رعي الماشية البدوي، مع روابط تجارية تمتدّ عبر الساحل الإفريقي وثقافة متنقلة.

في المملكة المصرية القديمة، مُثِّل نَمَطَا الحياة من خلال أسطورة حورس، ساكن النيل، وسَت، الراعي، وكانت قصتهما عبارة عن علاقات قوة معقدة. في النصوص الأصلية التي تصف الغزو المفترض للنوبة من قبل فراعنة المملكة القديمة، تدور القصة حول رحلة تجارية حيث اعتمد الملوك الشماليون على الإذن من جيرانهم النوبيين للقيام بتجارتهم مع الجنوب. خلال المملكة الوسط، شيّد الفراعنة المصريون قلاعًا ضخمة لحماية أنفسهم من جيرانهم الجنوبيين. كان انهيار مصر في الفترات الوسيطة جزئيًا بسبب فشل الأمطار في الجنوب، بالإضافة إلى غزو من قبل شعوب آسيوية في الشمال. لم تؤثر هذه المشكلة على الممالك النوبية الجنوبية البدوية بقدر كبير لأنه عندما تحركت الأمطار، تحركوا معها. وإذا تعرضوا للغزو، كما حدث في بداية المملكة الحديثة، فإنهم انتقلوا جنوبًا. لم يكن للساحل حدود مُحدَّدة، بل كانت منطقة شاسعة تحكمها الأمطار وتتقاطع معها هجرات الماشية والإبل والطرق التجارية.

تاريخ الممالك النيلية المستقرة مرتبط بشكل جوهري بالشعوب البدوية التي كانت تسكن ليس فقط الأراضي إلى الجنوب، ولكن أيضًا الدلتا والصحارى. طوَّر كلٌّ منهم، ككتلة واحدة، مهارات محددة وكانوا بحاجة إلى بعضهم البعض؛ سواء من أجل السلع التجارية أو اليد العاملة أو المحاربين، أو المحاصيل الزراعية أو الحصول على الماشية لتقديم القرابين في المعابد والقبور، أو للحصول على اللحم والجلود. كانت المستوطنات في وادي النيل، على الرغم من كونها مستدامة بسبب الفيضانات المنتظمة، عرضة أيضًا للمجاعة والأمراض والفيضانات، والكوارث العرضية، بما في ذلك الغزوات. كانت الطقوس التي نشأت حول أساطير حورس وسَت جزءًا من تراث مشترك. تضمَّنت معابد آمون في أسوان وجبل البركل تصويرًا للتجار البدو كجزء من السجل التاريخي. صَوَّر المصريين كثقافة مهيمنة لكنها تعتمد على جيرانها للحصول على السلع التجارية والماشية والعبيد.

انتشار الثقافة البدوية بعيداً عن وادي النيل في الفترة ما بعد المروية بواسطة مايكل مالينسون

ما تشير إليه الأبحاث الحديثة أنه منذ البداية كانت هناك دورة مستمرة وديناميكية من التبادل الثقافي بين المجتمعات المستقرة والبدوية، مدفوعة بتكيُّف الناس مع التغيرات المناخية التي دفعتهم جنوبًا، حيث كانوا يتحولون بين أسلوب الحياة المستقر والبدوي أو يجمعون بينهما. في هذا السياق، كان يمكن للرحّل أن يصبحوا مزارعين، أو يتحول المزارعون إلى تجار بدو وهكذا دواليك.

يمكن العثور على أدلة هذا التفاعل في العديد من جوانب التراث الحي في السودان. فالموسيقى، والرقص، والزخارف، والأزياء المميزة لوادي النيل، على سبيل المثال، تعكس روابط عميقة مع الثقافة البدوية. وإذا كانت المعابد والمقابر العريقة في وادي النيل قد بُنيت لتمجيد الحياة الآخرة، فقد تم ذلك ضمن نسيج من التراث الحي الذي لا يزال مستمرًا حتى اليوم داخل العائلة الممتدة التي هي السودان.

الدورات الثقافية للتراث غير المادي على مدى آلاف السنين. رسم تخطيطي لانتشار الثقافة البدوية بقلم مايكل مالينسون

صورة الغلاف: جزيرة ناوا، شمال كريمة، متأثرة بشدة بالتصحر. © عصام أحمد عبد الحفيظ