أمدرمان عَبرَ الزمَان
نُشرت هذه المقالة لأول مرة كجزء من مشروع "السودان يتحرك"، وهو مشروع بدأه وموله معهد جوته السودان. © ستوديو ايربان
/ answered
"أﻧﺎ أﻣﺪﺭﻣﺎﻥ أﻧﺎ ﺍلأﻣﺔ
ﻭﺻﻮﺕ ﺍلأﻣﺔ ﻭاﺣﺴﺎﺳا
أﻧﺎ ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﺑَﻲ ﺗﻢَّ
ﻭأﻧﺎ ﺍﻟﻠّﻤﻴﺖ ﺷَﺘَﺎﺕ ﻧَﺎﺳَﺎ
ﻣَﺰَﺟﺖ ﺷﻤَﺎﻻَ ﺑﺠَﻨُﻮﺑَﺎ
ﻭﺳَﻜَﺒْﺖ ﺷُﺮُﻭﻗَﺎ ﻓﻲ ﻏُﺮُﻭﺑَا
ﻭﺯَرَﻋْﺖَ ﺍﻟﻄّﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺩْﺭُﻭﺑَﺎ
ﻭﻃَﺎﺑَﺖ ﻋِﺰﺓ للأﻭﻃﺎﻥ"
عبد الله محمد زين، "أنا أمدرمان أنا السودان"
"من فِتِيح للخور للمَغَالِق
من علاَيل أبروف للمزالق
قَدْلَة يا مولاي خَافِي حَالق
بالطريق الشاقِّيه التّرام"
- خليل فرح، "ما هو عارف قَدَمُه المُفارِق"
لطالما كانت تُعرف أمدرمان بالمدينة الوطنية، كمقام يحتضن كل الخلفيات الإثنية والقبلية والجغرافية والثقافية، برغم الاختلافات الداخلية، السياسية والاقتصادية. تتضارب الآراء بين ممجّدٍ ومُجَرِّم لهذه الهوية الوطنية التي تَحْمِلُها أو التي، ربما، حُمِّلتْ لها. في استعراضنا لتاريخ المدينة الحضري سنتناول الأوضاع والمناخات التي ساهمت في قيام المدينة مستصحبين معنا قضية الهجرة وتأثيرها على النسيج الحضري، باعتبارها من أهم القضايا، وربما الأهم على الإطلاق، التي صنعت أمدرمان اليوم. لن تأتي قضية الهجرة وحدها من دون التطرّق إلى كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت وتأثّرت بها مروراً بكل الحقَب الزمنية التي مرت بأمدرمان.
***
يصطدم الزائر لأمدرمان في مرّتِه الأولى بميزة المكان البائنة، فقد كانت مستندة على الصحراء الغربية القاحلة على مدّ البصر، والنيل واهب الحياة من الجهة الأخرى بحركته البطيئة المتجهة شمالاً إلى المتوسط، بسمائها المتّسعة وأرضِها الحجرية، كل ذلك اجتمع في بهاء الموقع، الذي اختاره المهدي يوماً بنيّة إقامة معسكر، فقط لا غير في حملته ضد الاستعمار التركي-المصري، لكن كل تلك السمات ما كان لها إلا أن تخلق مدينة متكاملة بعبق تاريخي وثقافي.
تاريخ الاستيطان بأمدرمان يعطي دلائل لأهمية الموقع، فالحفريات في منطقة خور ابو عنجة كشفت عن آثار تعود للعصر الحجري القديم، ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة شبه مأهولة وسكنتها جماعات متفرقة عبر الزمن. اما أمدرمان كما نعرفها اليوم ربما بدأت بمحض الصدفة، فلم يكن مبرماً لها باديء الأمر أن تغدو أكثر من معسكر لجيوش المهدية، ولكن بعد تلك البداية لن نتمكّن من القول أن نموّ المدينة وتطورها كان مصادفةً؛ فقد كانت عمليات التخطيط التي تعاقبت على أمدرمان عن قصد ودراية، بما في ذلك الطبيعة العفوية لعمارة المدينة.
محمد أحمد المهدي شخصية مثيرة للاهتمام حتماً وللجدل أيضاً. كان لديه إيمان عميق بنبوءة "المهدي" وكان هذا المحرّك الرئيس لحركته فيما بعد. المهدي اتخذ من النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) قدوةً ونموذجاً يحذو حذوه، ولابد من التوقف عند المقاربة بين شخصية المهدي والنبيّ (ص)، لأن فَهْم هذه العلاقة يفسّر المقاصد التي استند عليها المهدي في رسالته وتكوين دولته. فالمقصد الأكبر للمهدي كان تحرير البلاد والمسلمين السودانيين و"فتح" بلاد أخرى -مثل مصر- تماماً كرسالة الإسلام الأولى. من أكثر القصص إثارة للاهتمام وإحتذاءاً بالنبي (عليه الصلاة والسلام) في تاريخ أمدرمان هي قصة اختيار المهدي لموضع بيته، فقد ترك المهمّة لدابته التي سكنت إلى ذلك المكان، بيته الذي كان حجرة من الطين، ثم اعتلته قبّة بعد وفاته هي قبّة المهدي القابعة إلى يومنا هذا.
خرج الإمام المهدي من الرهد قاصداً الخرطوم في اغسطس ١٨٨٤، وأمر أتباعه بالزحف شرقاً لتحرير العاصمة الخرطوم من المستعمر. استجاب الكثيرون لندائه في هجرة جماعية، وكانت تلك بداية الهجرة إلى أمدرمان. مقام أمدرمان في أنفس المهدي وأنصاره برز في الأسماء التى أطلقت عليها مثل البقعة، البقعة الطاهرة ودار الهجرة، و هذا الأخير نُقِش على العملة التي ضُربت في عهده. إلى جانب ذلك تأتي الغاية العسكرية؛ فهذا المكان العفوي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى معسكر كبير؛ تهافتَ الأنصار له وشيّدوا المساكن بالقش والجلد والشكاب وابتُعِث هذا التجمّع المدني إلى الحياة.
حملات المهدي ضد الاستعمار التركي-المصري في السودان منذ ١٨٨١ توجت بتحرير الخرطوم عاصمة الترك في يناير ١٨٨٥. لكن الإمام المهدي لم يسعفه الوقت وتوفي عقب انتقاله لأمدرمان بقليل، فخلفه عبد الله التعايشي، الذي أسفرت خلافته عن كتابة تاريخ جديد لمدينة أمدرمان، بدايةً من أعلان الخليفة لأمدرمان عاصمةً للدولة المهدية. فكيف نمت المدينة في ذلك الوقت الوجيز لتسع رقعة تزيد عن العشرين ميلاً مربعاً؟
في مايو ١٨٨٥، أمر الخليفة بإجلاء الخرطوم ونقل جميع سكانها إلى أمدرمان، لدحض أي منافسة لعاصمته الجديدة، فدُمّرت منازل الخرطوم ونُقلت مواد البناء الخاصة بها لبناء منازل جديدة لأمدرمان. اجتماع الأقاليم الجغرافية في أمدرمان من بر وبحر صاحبته علاقات مناخية و إثنية و ثقافية شتّى، فأمدرمان في عهد المهدية كانت تضمّ حشداً من كل الجماعات القبلية السودانية، إلى جانب الكثير من المصريين، الهنود، وعرب مكة، السوريين، اليونانيين، الإيطاليين، الأتراك، الأثيوبيين، اليهود، بالإضافة لجماعات أصلها من غرب إفريقيا كالفولانيين والبرنو والبرقو. فاق تعداد سكّان أمدرمان المهدية المئة وخمسين ألف (١٥٠،٠٠٠) نسمة، ويقال إن السكان وصل تعدادهم الأربعمائة الف (٤٠٠،٠٠) نسمة.
سياسات الخليفة التعايشي كانت تقتضي إسكان أكبر عدد ممكن من المجموعات القبلية بالقرب منه، حيث أنه تطلّب قوة عسكرية كبرى في وقت قصير جداً، ليس فقط للغزو وتوسيع دولته ولكن لحماية حدود عاصمته التي كان يحدّق بها الخطر من كل جانب. حول الخليفة أمدرمان إلى مدينة حملت على عاتقها دور الخرطوم السابق، فأضحت المجلس الإداري والبيروقراطي المطلوب لإنجاز مختَلَف المهام الإدارية والعسكرية للدولة.
بدأت أمدرمان بالتشكّل تبعاً لاستراتيجيات الخليفة التعايشي، فكان هو من أخذ القرارات التخطيطية للمدينة، وقام بإحالة تلك القرى المبعثرة -التي كانت في أمدرمان قبلاً- إلى عاصمة دولته. فرضت عملية الوعي التخطيطي هذه خلْق طُرُقات وساحات أمدرمان الرئيسة، موقع السوق، المسجد، الجدران الدفاعية وغيرها. مواد التشييد ايضاً أكدت على هيبة و سيادة الخليفة، فالطوب الأحمر المنتزع من بيوت الأتراك في الخرطوم استخدم، بالاستعانة بمهندسين وفنيين مهرة، في بناء قبة المهدي الشامخة ومجمع بيوت الخليفة. ايضاً، تم احاطة مركز المدينة -الذي به مصالح ودور الدولة، بالإضافة لمنزل الخليفة و حرسه و أهل عصيبته- بسور عظيم من الحجر. لا تزال أجزاء من هذا السور موجودة حتى اليوم حيث استغرق بناءه قرابة عمر الدولة المهدية.
بين عامي ١٨٨٥ إلى ١٨٩٨ برزت مجاورات أمدرمان السكنية تتشكّل في نسَق عربي إسلامي وكانت السمة البارزة بها التمسك بتراث الحوش (الفناء الواسع) في مختلف الفراغات. هذه النشأة أخذت شكل الأنماط العضوية التقليدية كعالم متاهي عسير الفهم، والذي يصفع القادم من خارج المدينة على حين غرّة، فقد قام الخليفة ببناء أمدرمان على نمط شبكي الذي ربما يشبه إلى حد كبير الفراغات الدينية للإسلام الكلاسيكي. فقد أخذت المدينة طبيعة تلقائية يمكن مشاهدتها في النمو غير المنظّم للنسيج السكني المُساق بالأعراف والعادات الاجتماعية، والمباديء البسيطة للعمارة الشعبية.
إن نهج الخليفة السلفي ومحاربته للطرق الصوفية انعكس على العمارة وتجلى بتحريم الزخرفة في المباني باستثناء النصوص القرآنية، فتراث البيت النوبي ذو الواجهات المزخرفة مثلاً لم يجد مساحة في أمدرمان المهدية ذات الثقافة الاحادية بالرغم من تواجد النوبيين في المدينة. وعلى النقيض من مجمع الخليفة المتقدم ذو المواد المتينة، فإن بيوت أمدرمان المهدية اتسم أغلبها بالبساطة، فبيوت القبائل النيلية تم تشييدها بمواد شديدة الهشاشة كالتراب والطين، فلم يتبقى منها الكثير. وبجانب آخر، فإن القبائل الرحل من غرب السودان الذين سكنوا أمدرمان، بطبيعة نمط حياتهم اليومية وتدني ثقافتهم المادية، شيدوا مساكن شبه مؤقتة اندثرت ايضاً مع مرور الزمن.
أمدرمان كانت ذات شوارع ضيقة وأزقّة مُصْمَتة، وتميزت طرقاتها بشخصية منعزلة ممانِعة. كان التنقّل بين البيوت والأحياء يعتمد على حركة المشاة في الأساس، إلى جانب الحمير والخيول والكارِكّات، الأمر الذي انعكس على تخطيطها وتصميمها العضوي.
كان العنصر البنيوي والحضري الرئيس لأمدرمان هو السوق. في الحقيقة إن قيام سوق أمدرمان سانَدَ تعزيز حركة التجارة فيها؛ ففي عهد الخليفة تم تحويل الأسواق الموسمية الصغيرة التي تعتمد على المنتجات الزراعية إلى سوق دائمة. وإلى جانب أنه بات مقصداً لمختلف الجماعات والقبائل السودانية وانضمام مجموعات عديدة من الشمال والجنوب والغرب والشرق، فقد انضم إليه كذلك تجار وحرفيون مهرة من بلدان مجاورة.
قوافل الحج تلك القادمة من بلاد غرب إفريقيا كان لابد لهم من التوقف عند سوق أمدرمان، فغدا هذا خط حركة ثابتاً، وتوافد التجار ايضاً من مصر والهند واستقروا بأمدرمان للعمل في السوق. الحركة النهرية كانت حيّة بسبب كثرة القوارب التي كانت رائجة الصنع في ذلك الوقت، فغدت أمدرمان وجهة لجميع القبائل الساحلية من النيل الأزرق والأبيض ونهر النيل. معظم الطرقات في أمدرمان القديمة، وخصوصاً في القطاع الشمالي الغربي، كانت تؤدي إلى السوق. فيمكننا القول أن سوق أمدرمان كان ركيزة الحركة في المدينة، والنقطة التي تتقاطع بها كل الخطوط المرسومة من كل الاتجاهات.
كان المقِبلون من بلاد غرب أفریقیا یرتحلون شرقًا قاصدین مكة من دون اقتنائهم ما یكفي لتغطیة تكالیف السفر، فقد كانوا یقیمون في أماكن على طول الطریق رغبًة في العمل، وكانوا یعملون لیجنوا نفقات السفر والترحال. أمدرمان واقعٌة على درب رحلتهم إلى الحج، فاستوعبتهم المدينة وحاولت توفير الحماية لهم، إلا أنه كان للدولة المهدية وللخليفة التعايشي ميل لتطويع هؤلاء الرحالة في الجيش.
***
واجهت الدولة المهدية الجديدة الكثير من المعارك مع جهات متعددة، حيث تلقت تهديداتٍ من الحدود المصرية والأثيوبية، إلى جانب العديد من الصراعات الداخلية. و بالتالي لتقوية وزيادة جيوشه ولانعدام ثقته بالقبائل الأخرى التي لم تبارِك خلافته وسيادته أصدر الخليفة التعايشي بياناً يطالب فيه باجتلاب قبيلتي التعايشة والبقارة من دارفور، قسراً، إلى أمدرمان. لكن هذا القرار كان له أثر جسيم على الوضع الاقتصادي و السياسي في أمدرمان وربما في كل البلاد.
الجدير بالذكر أن التعايشة والبقارة هم قبائل رحّل يمتهن أغلبهم الرعي و الزراعة، ولكن قرار الخليفة التعايشي بترحيلهم لأمدرمان غيّر من ذلك؛ فأحالهم الخليفة من فئة منتجة في الدولة إلى جنود صف أول معتمدين في جيشه. لكن في طريقهم عبر كردفان استنفذوا مخزون الذرة نسبة لأعدادهم الكبيرة واعتمادهم على الدولة. أما عند وصولهم إلى أمدرمان فقد غدوا فئة ذات امتيازات نسبة لولائهم للخليفة، فتمّت إعانتهم بكافة أنواع المؤن والغذاء، الامر الذي أدى لاستنزاف مدّخرات الدولة. تزامن ارتحالهم نحو أمدرمان –والذي استمر قرابة العام- مع موسم حصاد متدنٍ جداً لعام ١٨٨٩ نسبة للجفاف في العام السابق، فضربت البلاد واحدة من اسوأ المجاعات في تاريخها، مجاعة سنة ٦ (١٣٠٦هـ/١٨٩٠م).
فشل الدولة المهدية في إغاثة مجاعة سكانها نسبة لنداء الجهاد وعسكرة الدولة، وضعها في مأزق عجزت فيه عن توفير احتياجات السكان جنباً بجنب مع اقتصاد الحرب الذي فُرض على الدولة منذ نشأتها. سياسة الدولة الاقتصادية والمقاطعة مع مصر وتدنّي حركة التجارة كل ذلك قاسَمَ في الشأن، فلم يتبصّر الخليفة في أبعاد سياساته تأثيرها على دولته المتأرجحة اقتصادياً. وكانت لهجرة البقّارة و التعايشة عواقب سياسية واجتماعية؛ فلم يكن لدى الجماعات التي تسكن في أمدرمان، خصوصاً أولاد البحر وآل المهدي الأشراف -الذين كانوا يرون أنهم أحقّ بخلافة المهدي- أيّ سبب يدعوهم إلى التصرّف على وجه حسَن مع القادمين الجدد، فالخليفة لم يُخفِ حتى اعتماده على أقاربه القَبَلِيِّين، وقام باستخدامهم في تهدئة المعارضة من أهل البحر والأشراف، ونظّم قوة مسلحة جديدة وضعضع قادة المعارضة هؤلاء.
***
بالرغم من عمل بعض النساء في السوق وإنشاء قسم مخصص لهن فيه، لكنّنا لا ندري حقاً كيف عاشت النساء حياتهن في أمدرمان ذلك الزمان، فلم يتم التوثيق لهن بشكل كافٍ، فقد كانت للدولة المهدية سياسات تقتضي بمكوثهن في البيوت، حتى أن تلك السياسات ربما انعكست على عمارة السكن في أمدرمان القديمة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن ننظر "للنفّاج"، المعبر الذي يربط بين بيوت عائلات أمدرمان، كعنصر معماري ساعد في تعزيز بقائهن في المنزل وتجنب تواجدهن في الشوارع.
وما يثير الاهتمام حقاً أنه في كثير من الأحيان كانت أمدرمان "مدينة نسائية"، حالما كانت تخلو من الذكور في المعارك، الأمر الذي أنعش دورهن في التجارة والأعمال الحرفية في السوق. كانت أمدرمان خصوصاً بعد معركة كرري الدامية -التي توفي بها اكثر من ١١ الف من جيوش الخليفة- تقريباً تحت حكم نسائي، ولكن غيَّر المستعمر من ذلك لاحقاً واكتفى بالرجال في تعاملاته وسياساته، فلم يكن يعترف بالنساء في مواضع القيادة حتى في بلده الأم. لكن هذا لم يمنعهن من طرْح حراك نسائي فيما بعد، نما وازدهر في أمدرمان بطبيعة الحال.
***
بعد سقوط أمدرمان المهدية على يد الحكم الإنجليزي-المصري في عام ١٨٩٨، عادت معظم القبائل من السكان إلى دُورها، وكان ذلك وفقاً لسياسات المستعمر لتفريغ العاصمة من "الأفواه عديمة الفائدة"، فشهدت كردفان و منطقة الجزيرة انتعاشاً لعودة سكانها، ولنذكّر بأن قدومهم إلى أمدرمان كان في الغالب مرغماً في المقام الأول من قبل الخليفة. البعض أُرغِموا على الرحيل من المدينة بعد معركة كرري، والبعض الآخر استقروا في أمدرمان وجعلوا منها موطناً. أما الخرطوم، عاصمة المستعمر لمرة ثانية، قامت من أنقاضها ولم تستوعب خارطتها الجديدة سكّان وطنيين ماعدا الأطراف الشبه عشوائية، وحقيقةً لم يكن هذا الأمر يؤرّق المستعمر من الأساس.
تخطيط الخرطوم عُني بالنخبة الأجنبية التي استغلت الواجهة البحرية في المواقع الشمالية والوسطى بشوارعها المتقاطعة (في شكل العلم البريطاني)، الأمر الذي سهل السيطرة عليها عسكرياً ضد اي نوع من المقاومة، وتم عزْل السكان الأصليين في مدن الصفيح خارج جسر السكك الحديدية وغابة السنط. صُمّمت الخرطوم كمدينة أوروبية، بينما أمدرمان تم تجاهلها تماماً من قِبل المستعمِر، فأعطاها المجال لكي تنمو بشكل عرَضيّ، لتصبح النموذج البدائي الخارج عن السيطرة الذي يناقض المدينة في تحضّرها، في رؤية المستعمرعلى الأقل. ومن المفارقات أن الإنجليز (والأوروبيون في العموم) أظهروا فيما بعد اهتماماً بأمدرمان لكونِها "مغايِرة وأكثر محليّة"، الشيء الذي يجذب الكثير من المستشرقين على الدوام.
حينما بدأ التفكير في تخطيط أمدرمان التي برغم الهجرات منها ظلت تجمع عدداً مقدّراً من السكان (٤٣ ألفاً في عام ١٩١٠). لم يكن من السهل للمستعمر تنظيم أمدرمان بأزقتها المتاهية التي يضيع بها القادم من خارجها، إلى جانب تمسّك الأمدرمانيين بأراضيهم السكنيّة، مما دفع الإنجليز لأخذ طريقٍ حذر يختلف تماماً عن ذلك في الخرطوم. كانت معظم عمليات تخطيط الإنجليز في أمدرمان مقتصرة على توسعة واعادة تأهيل شبكة الطرق، بالاضافة الى إعادة تخطيط المناطق والأحياء التي لم تكن مأهولة بشكل عظيم او تلك التي دُمرت خلال الغزو. حي الملازمين الذي دمر في معركة كرري تم اعادة تخطيطه وبُنيَ بعد عقودٍ لاحقة.
بعد تعيين البريطاني جيمس برامبل محافظاً لأمدرمان، قام في عام ١٩٢٨ بتحويل بيت الخليفة إلى متحف تاريخي وأُضيفت بعض المَعارض من الحقبة المهدية، حيثما باتت طليعة استحداث الهوية الثقافية لأمدرمان. في تلك الحقبة، عمل الإنجليز على تنويع الأنشطة في أمدرمان حيث تم تقديم الأنشطة الثقافية والتعليمية والصحية والترفيهية مثل المسجد الكبير ومستشفى أمدرمان ومعهد أمدرمان العلمي، وأُنشِيء أيضاً مبنى إذاعة أمدرمان بموقعها الاول بمبانى البوستة (١٩٤٠) وسينما برامبل والسينما الوطنية.
بما أن الخرطوم أُنشئت كمدينة كولونيالية في عهد المستعمر، فإنّ أمدرمان تمّ اتخاذها العاصمة الوطنية، فكانت ملاذاً للوطنيين ولكل من ينشد التمرد على كلّ ما في الخرطوم الكولونيالية. نسبه لذلك قامت بالمدينة في فترة الحكم الثنائي رئاسة مؤتمر الخريجين، إلى جانب معظم رئاسات الأحزاب السياسية الوطنية. بالقرب منها، ازدهر سوق أمدرمان، وتم توسعته وتنظيمه وإعادة تخطيط شبكة طرقاته، وضمّ مقاهي عدّة كجورج مشرقي، وود الآغا، والزئبق، ويوسف الفكي. تلك المقاهي كانت بمثابة قلب المدينة النابض بمنتدياتها الأدبية والفنية واحتضنت الفنانين والشعراء –خصوصاً شعراء ومطربي الحقيبة– وكانت مركزاً لثورة فكرية و سياسية في القرن الماضي تبلورت في الحركة الوطنية.
إن سياسات المستعمر عملت على الحد من هجرات السكان الداخلية، فبعد السودان من الاستعمار ورفع تلك المعيقات للحركة تسارعت الهجرات في الفترات اللاحقة. استمرت أمدرمان في التوسع بعد الاستقلال، وظهرت فيها أحياء حديثة عدة مثل الثورات وأمبدة والصالحة والمهندسين والروضة ومدينة النيل، والتي أصبحت في ذاتها مدناً جديدة بامتداداتها الواسعة. لكن تسارع توسع المدينة في العقود اللاحقة لأسباب عدة، مما أدى لصعوبة مواكبة تخطيط المدينة لهذا التوسع الشاسع.
أسفرَتْ الهجرات الاقتصادية من الريف للحضر نسبة لجاذبية العاصمة عن قدوم آلاف عديدة إلى أمدرمان، لكن التغيير الحقيقي في التعداد السكاني للعاصمة المثلثة كان نسبة لقدوم أعداد ضخمة من النازحين الذين استقروا في الأطراف. هنالك أسباب عدة دفعت المواطنين من جميع انحاء السودان للنزوح للعاصمة، حيث في أوائل الثمانينات، ضربت البلاد سلسلة من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الجفاف والمجاعة في الغرب والشرق، وقد أدى ذلك لنزوح آلاف المشردين داخلياً إلى العاصمة، بمن فيهم ١٢٠ ألف شخص من دارفور وكردفان. في الوقت نفسه، إزاء اشتعال الحرب الاهلية الثانية ما بين ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥، لجأ كثيرون من الهاربين من الحرب إلى الخرطوم وأمدرمان. كما أدى النزاع في دارفور منذ سنة ٢٠٠٣ إلى تدفّق المزيد من النازحين. نسبه لذلك، صنف السودان عالمياً في التسعينات و الالفينات كأكبر دولة تحتوي على نازحين داخلياً، وفي عام ٢٠٠٥ وصل عدد النازحين لذروته بحوالي ٦.١ مليون نازح. بالرغم من انخفاض هذه الأرقام، لا يزال السودان يتصدر قائمة النازحين داخلياً في العالم بحوالي ٢ مليون نازح.
قوبلت تلك الأعداد الهائلة من النازحين الذين قدموا للعاصمة –فيما عُرف "بالحزام الأسود"– بالإنكار والعداء الصريح من قبل الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينيات؛ نُظر إليهم باعتبارهم تهديداً للاستقرار السياسي وعبئاً على الاقتصاد ومصدراً للتوتر الاجتماعي والثقافي، كما انه صعب عليهم الحصول على مأوى وخدمات اجتماعية. أما الرئيس نميري (١٩٦٩-١٩٨٥) فقد وضع سياسة إعادة التوطين القسري (الكَشّة)، عن طريق إلقاء القبض على النازحين عشوائياً وإرجاعهم إكراهاً إلى أماكنهم الأصلية في غرب وجنوب السودان، أو نقلهم إلى مواقع الإنتاج في وسط السودان.
في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، قامت حكومة الإنقاذ (١٩٨٩-٢٠١٩) ببعض المبادرات لمجابهة الفقر والتهميش، وتم دمج أعداد ضخمة من السكان ذوي الدخل المنخفض في الأحياء الشعبية حول الخرطوم؛ إلا أن تلك المبادرات اتّسمَت بعدة مآزِق بسبب عمليات الإخلاء العشوائية وغير الإنسانية المتكررة والتي أثارت شكاوى كثيرة بشأن حقوق الإنسان.
إن معظم النازحين استقرّوا في مساكن غير رسمية (عشوائية) على أطراف المدن. مبادرات التخطيط منذ التسعينيات تمثّلت في إفراد قطع أراضٍ على أطراف المدينة، فكانت ظاهرياً مصمّمة لتخفيف الضغط على مناطق السكن غير النظامي المكتظّة، فهُدّمت مساكنهم من قِبل قوات الأمن، ثم تمّ نقلهم جبراً للمناطق الجديدة التي تُعرف بمخيمات النازحين، مثل مخيميّ دار السلام وود البشير في أمدرمان. الباحثة الحضرية د. هناء معتصم أجرت مقابلات مع النازحين الذين تم إسكانهم في معسكر دار السلام ووجدت ان كثير منهم كانوا يقطنون في منطقة "القماير" في أمدرمان المتواجدة في منتصف المدينة. عندما شيد معسكر دار السلام، قامت الحكومة بازالة منازلهم من دون أن توفر لهم أي تعويضات وأعادت تخطيط "القماير" لقطع درجة اولى وتم إعادة تسميتها لــ(الثورة الحارة السادسة).
النازحون للمدينة هم أكثر مَن يعاني من شح الخدمات وفرص العيش لأن السلطات تعمل على أن يتم وضعهم في الهامش بعيداً عن أعين سكان وسط المدينة. انعكس هذا الواقع المؤلم للمخيمات في أمدرمان على الأسماء التي تُعطى لها من جانب المجتمعات المحليّة التي تعيش فيها. ومن الأمثلة على ذلك مخيم السلام، الذي يشار إليه دائماً باسم "جَبَرونا." سَعَت الحكومة إلى استبدال تلك الأسماء مثل مخيم "زقلونا" والذي يعني "رُمينا خارجاً" والذي تمت إعادة تسميته "للثورة ١٥."
بالرغم من محاولة الحكومة لتمليك النازحين اراضي في العاصمة عبر إنشاء مواقع اعادة الاسكان في "الفتح" على بعد ٤٠ كلم شمال أمدرمان، إلا أن هذه المواقع قللت من جودة معيشتهم نسبة لبعدها الشديد من منتصف المدينة وعدم توفر الخدمات وفرص العيش فيها. تلك العوامل دفعت كثير من النازحين لترك الفتح والنزوح لأماكن أخرى مجدداً.
لابد من النظر لمخيمات النازحين ومواقع اعادة الاسكان وحتى المساكن العشوائية للنازحين بعينٍ ناقدة وكيف تنتقل قضايا الهامش للمدينة، والتوقف عند استيعاب المدينة لهم، فقد أصبحوا جزء لا يتجزأ من تكوين الخرطوم عبر الزمن. لا شك أن التمدّن هو اتجاه عالمي اليوم، ودائماً ما يرتحل الناس للمدن، لكن بالتأكيد يجب على المدن أن تكون قادرة على توقّع واستيعاب هذا النمو خاصة تجاه النازحين قسرياً بدلاً من ان يتم تهميشهم ووضعهم في ظروف تحتم عليهم العيش في حلقة متواصلة من الفقر والنزوح.
***
ان التجانس العرقي والثقافي في أمدرمان الذي خُلق في فترة الاستعمار كان نتاجاً لتجارب مريرة خاضها سكان المدينة، حيث أن أمدرمان المهدية نالت نصيبها من التوترات القبلية التى زعزعت المدينة بين اهل الخليفة التعايشي، اولاد الغرب، واهل المهدي الاشراف واولاد البحر. لكن الاطاحة بالدولة المهدية والهزيمة المؤلمة في كرري وحدا سكان أمدرمان ضد المستعمر، الامر الذي سمح للمدينة بأن تتماسك و يتمازج سكانها. تلك العوامل أدت لإطلاق الحركة الوطنية سعياً إلى التحرر من قبضة المستعمر، وبالتالي تم خلق هوية أمدرمان، ملجأ القوميين.
ولكن إذا كانت أمدرمان تُرى كرمز للتكامل الوطني، وهي التي شكّلت الشخصية الوطنية السودانية من خلال حركة الثقافة المهيمنة التي ابتدأت منذ الحقبة الكولونيالية، فإن بعض الآراء المعارِضة تحسَب أن هذا الأمر ليس دقيقاً، ومضلّل في الواقع، لأن ثقافة أمدرمان همّشت واستبعدت ثقافات جماعات وأفراد آخرين بحجة انهم غير أمدرمانيين. فالبعض يرى أن الهجرات العديدة في الثمانينيات كانت بداية فقدان صورة تلك "الهوية الوطنية." في الحقيقة هذا يبعث على التساؤل عن هذه الصورة؛ هل قامت بعكس التكامل الوطني الذي تفرضه على المستوى الكلي للسودان؟ يقول بروفيسور إدريس سالم أن الأمدرمانيين سيقولون نعم، لأن صورة أمدرمان "كسودان مصغّر" ما هي إلا في أذهانهم فقط.
إن تلك الهوية القومية لأمدرمان بالتأكيد تُختبر منذ الثمانينيات وما بعدها. "انا أمدرمان انا السودان" صار لها معانٍ أخرى، فالسودان منذ استقلاله لم يشهد أي نوع من الاستقرار في جميع أنحائه التي هُمشت لصالح تنمية المركز. النازحون قدموا من تلك المناطق المهمشة حاملين مظالمهم و زعزعوا استقرار الخرطوم -وبالتالي أمدرمان- وصورتها المنفصلة عن الواقع. بالاحرى، ان صورة أمدرمان كسودان مصغر لم تمثل الواقع الا بعد ان ضمت أشخاصاً من جميع أنحاء البلاد بعد ان تم اقصائهم مجدداً لهامش المدينة في ظل رفض اجتماعي من الأمدرمانيين القدامى.
في مواجهة هذا التحدي الجديد للهوية الأمدرمانية، لا يوجد عدو مشترك يوحد بين سكان أمدرمان، فقد أصبح العدو أحدهما الآخر تماماً مثلما كان الوضع في المهدية. بالحتم، لا يوجد شك أن الحل الأمثل لمسألة النزوح هو إيجاد حل جذري لدوافع النزوح في السودان، لكن تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي الحالي يولد صعوبة حقيقية تحول دون الوصول لهذا الحل الجذري في المستقبل القريب. في خضم هذه التعقيدات، ربما الخيار المتاح هو معالجة مشاكل النازحين على مستوى المدينة، على الأقل بتغيير سياسات الدولة الاقصائية تجاههم. أمدرمان الآن امام فرصة فريدة من نوعها، إذ أن صورتها كسودان مصغر لها القدرة أن تستخدم كمثال واقعي للتغيير والوصول للتماسك الاجتماعي بدلاً من أن يتم استخدام صورتها لتمييز أُناسٍ فوق بعضهم. فاذا استطاعت أمدرمان ان تخلق مساواة حقيقية في كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لجميع سكانها في المستقبل، ربما سيشكل ذلك معبراً لإيجاد حلول حقيقية على أرض الواقع للمشاكل التي تقسم السودان منذ استقلاله.
"أﻧﺎ أﻣﺪﺭﻣﺎﻥ أﻧﺎ ﺍلأﻣﺔ
ﻭﺻﻮﺕ ﺍلأﻣﺔ ﻭاﺣﺴﺎﺳا
أﻧﺎ ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﺑَﻲ ﺗﻢَّ
ﻭأﻧﺎ ﺍﻟﻠّﻤﻴﺖ ﺷَﺘَﺎﺕ ﻧَﺎﺳَﺎ
ﻣَﺰَﺟﺖ ﺷﻤَﺎﻻَ ﺑﺠَﻨُﻮﺑَﺎ
ﻭﺳَﻜَﺒْﺖ ﺷُﺮُﻭﻗَﺎ ﻓﻲ ﻏُﺮُﻭﺑَا
ﻭﺯَرَﻋْﺖَ ﺍﻟﻄّﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺩْﺭُﻭﺑَﺎ
ﻭﻃَﺎﺑَﺖ ﻋِﺰﺓ للأﻭﻃﺎﻥ"
عبد الله محمد زين، "أنا أمدرمان أنا السودان"
"من فِتِيح للخور للمَغَالِق
من علاَيل أبروف للمزالق
قَدْلَة يا مولاي خَافِي حَالق
بالطريق الشاقِّيه التّرام"
- خليل فرح، "ما هو عارف قَدَمُه المُفارِق"
لطالما كانت تُعرف أمدرمان بالمدينة الوطنية، كمقام يحتضن كل الخلفيات الإثنية والقبلية والجغرافية والثقافية، برغم الاختلافات الداخلية، السياسية والاقتصادية. تتضارب الآراء بين ممجّدٍ ومُجَرِّم لهذه الهوية الوطنية التي تَحْمِلُها أو التي، ربما، حُمِّلتْ لها. في استعراضنا لتاريخ المدينة الحضري سنتناول الأوضاع والمناخات التي ساهمت في قيام المدينة مستصحبين معنا قضية الهجرة وتأثيرها على النسيج الحضري، باعتبارها من أهم القضايا، وربما الأهم على الإطلاق، التي صنعت أمدرمان اليوم. لن تأتي قضية الهجرة وحدها من دون التطرّق إلى كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت وتأثّرت بها مروراً بكل الحقَب الزمنية التي مرت بأمدرمان.
***
يصطدم الزائر لأمدرمان في مرّتِه الأولى بميزة المكان البائنة، فقد كانت مستندة على الصحراء الغربية القاحلة على مدّ البصر، والنيل واهب الحياة من الجهة الأخرى بحركته البطيئة المتجهة شمالاً إلى المتوسط، بسمائها المتّسعة وأرضِها الحجرية، كل ذلك اجتمع في بهاء الموقع، الذي اختاره المهدي يوماً بنيّة إقامة معسكر، فقط لا غير في حملته ضد الاستعمار التركي-المصري، لكن كل تلك السمات ما كان لها إلا أن تخلق مدينة متكاملة بعبق تاريخي وثقافي.
تاريخ الاستيطان بأمدرمان يعطي دلائل لأهمية الموقع، فالحفريات في منطقة خور ابو عنجة كشفت عن آثار تعود للعصر الحجري القديم، ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة شبه مأهولة وسكنتها جماعات متفرقة عبر الزمن. اما أمدرمان كما نعرفها اليوم ربما بدأت بمحض الصدفة، فلم يكن مبرماً لها باديء الأمر أن تغدو أكثر من معسكر لجيوش المهدية، ولكن بعد تلك البداية لن نتمكّن من القول أن نموّ المدينة وتطورها كان مصادفةً؛ فقد كانت عمليات التخطيط التي تعاقبت على أمدرمان عن قصد ودراية، بما في ذلك الطبيعة العفوية لعمارة المدينة.
محمد أحمد المهدي شخصية مثيرة للاهتمام حتماً وللجدل أيضاً. كان لديه إيمان عميق بنبوءة "المهدي" وكان هذا المحرّك الرئيس لحركته فيما بعد. المهدي اتخذ من النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) قدوةً ونموذجاً يحذو حذوه، ولابد من التوقف عند المقاربة بين شخصية المهدي والنبيّ (ص)، لأن فَهْم هذه العلاقة يفسّر المقاصد التي استند عليها المهدي في رسالته وتكوين دولته. فالمقصد الأكبر للمهدي كان تحرير البلاد والمسلمين السودانيين و"فتح" بلاد أخرى -مثل مصر- تماماً كرسالة الإسلام الأولى. من أكثر القصص إثارة للاهتمام وإحتذاءاً بالنبي (عليه الصلاة والسلام) في تاريخ أمدرمان هي قصة اختيار المهدي لموضع بيته، فقد ترك المهمّة لدابته التي سكنت إلى ذلك المكان، بيته الذي كان حجرة من الطين، ثم اعتلته قبّة بعد وفاته هي قبّة المهدي القابعة إلى يومنا هذا.
خرج الإمام المهدي من الرهد قاصداً الخرطوم في اغسطس ١٨٨٤، وأمر أتباعه بالزحف شرقاً لتحرير العاصمة الخرطوم من المستعمر. استجاب الكثيرون لندائه في هجرة جماعية، وكانت تلك بداية الهجرة إلى أمدرمان. مقام أمدرمان في أنفس المهدي وأنصاره برز في الأسماء التى أطلقت عليها مثل البقعة، البقعة الطاهرة ودار الهجرة، و هذا الأخير نُقِش على العملة التي ضُربت في عهده. إلى جانب ذلك تأتي الغاية العسكرية؛ فهذا المكان العفوي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى معسكر كبير؛ تهافتَ الأنصار له وشيّدوا المساكن بالقش والجلد والشكاب وابتُعِث هذا التجمّع المدني إلى الحياة.
حملات المهدي ضد الاستعمار التركي-المصري في السودان منذ ١٨٨١ توجت بتحرير الخرطوم عاصمة الترك في يناير ١٨٨٥. لكن الإمام المهدي لم يسعفه الوقت وتوفي عقب انتقاله لأمدرمان بقليل، فخلفه عبد الله التعايشي، الذي أسفرت خلافته عن كتابة تاريخ جديد لمدينة أمدرمان، بدايةً من أعلان الخليفة لأمدرمان عاصمةً للدولة المهدية. فكيف نمت المدينة في ذلك الوقت الوجيز لتسع رقعة تزيد عن العشرين ميلاً مربعاً؟
في مايو ١٨٨٥، أمر الخليفة بإجلاء الخرطوم ونقل جميع سكانها إلى أمدرمان، لدحض أي منافسة لعاصمته الجديدة، فدُمّرت منازل الخرطوم ونُقلت مواد البناء الخاصة بها لبناء منازل جديدة لأمدرمان. اجتماع الأقاليم الجغرافية في أمدرمان من بر وبحر صاحبته علاقات مناخية و إثنية و ثقافية شتّى، فأمدرمان في عهد المهدية كانت تضمّ حشداً من كل الجماعات القبلية السودانية، إلى جانب الكثير من المصريين، الهنود، وعرب مكة، السوريين، اليونانيين، الإيطاليين، الأتراك، الأثيوبيين، اليهود، بالإضافة لجماعات أصلها من غرب إفريقيا كالفولانيين والبرنو والبرقو. فاق تعداد سكّان أمدرمان المهدية المئة وخمسين ألف (١٥٠،٠٠٠) نسمة، ويقال إن السكان وصل تعدادهم الأربعمائة الف (٤٠٠،٠٠) نسمة.
سياسات الخليفة التعايشي كانت تقتضي إسكان أكبر عدد ممكن من المجموعات القبلية بالقرب منه، حيث أنه تطلّب قوة عسكرية كبرى في وقت قصير جداً، ليس فقط للغزو وتوسيع دولته ولكن لحماية حدود عاصمته التي كان يحدّق بها الخطر من كل جانب. حول الخليفة أمدرمان إلى مدينة حملت على عاتقها دور الخرطوم السابق، فأضحت المجلس الإداري والبيروقراطي المطلوب لإنجاز مختَلَف المهام الإدارية والعسكرية للدولة.
بدأت أمدرمان بالتشكّل تبعاً لاستراتيجيات الخليفة التعايشي، فكان هو من أخذ القرارات التخطيطية للمدينة، وقام بإحالة تلك القرى المبعثرة -التي كانت في أمدرمان قبلاً- إلى عاصمة دولته. فرضت عملية الوعي التخطيطي هذه خلْق طُرُقات وساحات أمدرمان الرئيسة، موقع السوق، المسجد، الجدران الدفاعية وغيرها. مواد التشييد ايضاً أكدت على هيبة و سيادة الخليفة، فالطوب الأحمر المنتزع من بيوت الأتراك في الخرطوم استخدم، بالاستعانة بمهندسين وفنيين مهرة، في بناء قبة المهدي الشامخة ومجمع بيوت الخليفة. ايضاً، تم احاطة مركز المدينة -الذي به مصالح ودور الدولة، بالإضافة لمنزل الخليفة و حرسه و أهل عصيبته- بسور عظيم من الحجر. لا تزال أجزاء من هذا السور موجودة حتى اليوم حيث استغرق بناءه قرابة عمر الدولة المهدية.
بين عامي ١٨٨٥ إلى ١٨٩٨ برزت مجاورات أمدرمان السكنية تتشكّل في نسَق عربي إسلامي وكانت السمة البارزة بها التمسك بتراث الحوش (الفناء الواسع) في مختلف الفراغات. هذه النشأة أخذت شكل الأنماط العضوية التقليدية كعالم متاهي عسير الفهم، والذي يصفع القادم من خارج المدينة على حين غرّة، فقد قام الخليفة ببناء أمدرمان على نمط شبكي الذي ربما يشبه إلى حد كبير الفراغات الدينية للإسلام الكلاسيكي. فقد أخذت المدينة طبيعة تلقائية يمكن مشاهدتها في النمو غير المنظّم للنسيج السكني المُساق بالأعراف والعادات الاجتماعية، والمباديء البسيطة للعمارة الشعبية.
إن نهج الخليفة السلفي ومحاربته للطرق الصوفية انعكس على العمارة وتجلى بتحريم الزخرفة في المباني باستثناء النصوص القرآنية، فتراث البيت النوبي ذو الواجهات المزخرفة مثلاً لم يجد مساحة في أمدرمان المهدية ذات الثقافة الاحادية بالرغم من تواجد النوبيين في المدينة. وعلى النقيض من مجمع الخليفة المتقدم ذو المواد المتينة، فإن بيوت أمدرمان المهدية اتسم أغلبها بالبساطة، فبيوت القبائل النيلية تم تشييدها بمواد شديدة الهشاشة كالتراب والطين، فلم يتبقى منها الكثير. وبجانب آخر، فإن القبائل الرحل من غرب السودان الذين سكنوا أمدرمان، بطبيعة نمط حياتهم اليومية وتدني ثقافتهم المادية، شيدوا مساكن شبه مؤقتة اندثرت ايضاً مع مرور الزمن.
أمدرمان كانت ذات شوارع ضيقة وأزقّة مُصْمَتة، وتميزت طرقاتها بشخصية منعزلة ممانِعة. كان التنقّل بين البيوت والأحياء يعتمد على حركة المشاة في الأساس، إلى جانب الحمير والخيول والكارِكّات، الأمر الذي انعكس على تخطيطها وتصميمها العضوي.
كان العنصر البنيوي والحضري الرئيس لأمدرمان هو السوق. في الحقيقة إن قيام سوق أمدرمان سانَدَ تعزيز حركة التجارة فيها؛ ففي عهد الخليفة تم تحويل الأسواق الموسمية الصغيرة التي تعتمد على المنتجات الزراعية إلى سوق دائمة. وإلى جانب أنه بات مقصداً لمختلف الجماعات والقبائل السودانية وانضمام مجموعات عديدة من الشمال والجنوب والغرب والشرق، فقد انضم إليه كذلك تجار وحرفيون مهرة من بلدان مجاورة.
قوافل الحج تلك القادمة من بلاد غرب إفريقيا كان لابد لهم من التوقف عند سوق أمدرمان، فغدا هذا خط حركة ثابتاً، وتوافد التجار ايضاً من مصر والهند واستقروا بأمدرمان للعمل في السوق. الحركة النهرية كانت حيّة بسبب كثرة القوارب التي كانت رائجة الصنع في ذلك الوقت، فغدت أمدرمان وجهة لجميع القبائل الساحلية من النيل الأزرق والأبيض ونهر النيل. معظم الطرقات في أمدرمان القديمة، وخصوصاً في القطاع الشمالي الغربي، كانت تؤدي إلى السوق. فيمكننا القول أن سوق أمدرمان كان ركيزة الحركة في المدينة، والنقطة التي تتقاطع بها كل الخطوط المرسومة من كل الاتجاهات.
كان المقِبلون من بلاد غرب أفریقیا یرتحلون شرقًا قاصدین مكة من دون اقتنائهم ما یكفي لتغطیة تكالیف السفر، فقد كانوا یقیمون في أماكن على طول الطریق رغبًة في العمل، وكانوا یعملون لیجنوا نفقات السفر والترحال. أمدرمان واقعٌة على درب رحلتهم إلى الحج، فاستوعبتهم المدينة وحاولت توفير الحماية لهم، إلا أنه كان للدولة المهدية وللخليفة التعايشي ميل لتطويع هؤلاء الرحالة في الجيش.
***
واجهت الدولة المهدية الجديدة الكثير من المعارك مع جهات متعددة، حيث تلقت تهديداتٍ من الحدود المصرية والأثيوبية، إلى جانب العديد من الصراعات الداخلية. و بالتالي لتقوية وزيادة جيوشه ولانعدام ثقته بالقبائل الأخرى التي لم تبارِك خلافته وسيادته أصدر الخليفة التعايشي بياناً يطالب فيه باجتلاب قبيلتي التعايشة والبقارة من دارفور، قسراً، إلى أمدرمان. لكن هذا القرار كان له أثر جسيم على الوضع الاقتصادي و السياسي في أمدرمان وربما في كل البلاد.
الجدير بالذكر أن التعايشة والبقارة هم قبائل رحّل يمتهن أغلبهم الرعي و الزراعة، ولكن قرار الخليفة التعايشي بترحيلهم لأمدرمان غيّر من ذلك؛ فأحالهم الخليفة من فئة منتجة في الدولة إلى جنود صف أول معتمدين في جيشه. لكن في طريقهم عبر كردفان استنفذوا مخزون الذرة نسبة لأعدادهم الكبيرة واعتمادهم على الدولة. أما عند وصولهم إلى أمدرمان فقد غدوا فئة ذات امتيازات نسبة لولائهم للخليفة، فتمّت إعانتهم بكافة أنواع المؤن والغذاء، الامر الذي أدى لاستنزاف مدّخرات الدولة. تزامن ارتحالهم نحو أمدرمان –والذي استمر قرابة العام- مع موسم حصاد متدنٍ جداً لعام ١٨٨٩ نسبة للجفاف في العام السابق، فضربت البلاد واحدة من اسوأ المجاعات في تاريخها، مجاعة سنة ٦ (١٣٠٦هـ/١٨٩٠م).
فشل الدولة المهدية في إغاثة مجاعة سكانها نسبة لنداء الجهاد وعسكرة الدولة، وضعها في مأزق عجزت فيه عن توفير احتياجات السكان جنباً بجنب مع اقتصاد الحرب الذي فُرض على الدولة منذ نشأتها. سياسة الدولة الاقتصادية والمقاطعة مع مصر وتدنّي حركة التجارة كل ذلك قاسَمَ في الشأن، فلم يتبصّر الخليفة في أبعاد سياساته تأثيرها على دولته المتأرجحة اقتصادياً. وكانت لهجرة البقّارة و التعايشة عواقب سياسية واجتماعية؛ فلم يكن لدى الجماعات التي تسكن في أمدرمان، خصوصاً أولاد البحر وآل المهدي الأشراف -الذين كانوا يرون أنهم أحقّ بخلافة المهدي- أيّ سبب يدعوهم إلى التصرّف على وجه حسَن مع القادمين الجدد، فالخليفة لم يُخفِ حتى اعتماده على أقاربه القَبَلِيِّين، وقام باستخدامهم في تهدئة المعارضة من أهل البحر والأشراف، ونظّم قوة مسلحة جديدة وضعضع قادة المعارضة هؤلاء.
***
بالرغم من عمل بعض النساء في السوق وإنشاء قسم مخصص لهن فيه، لكنّنا لا ندري حقاً كيف عاشت النساء حياتهن في أمدرمان ذلك الزمان، فلم يتم التوثيق لهن بشكل كافٍ، فقد كانت للدولة المهدية سياسات تقتضي بمكوثهن في البيوت، حتى أن تلك السياسات ربما انعكست على عمارة السكن في أمدرمان القديمة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن ننظر "للنفّاج"، المعبر الذي يربط بين بيوت عائلات أمدرمان، كعنصر معماري ساعد في تعزيز بقائهن في المنزل وتجنب تواجدهن في الشوارع.
وما يثير الاهتمام حقاً أنه في كثير من الأحيان كانت أمدرمان "مدينة نسائية"، حالما كانت تخلو من الذكور في المعارك، الأمر الذي أنعش دورهن في التجارة والأعمال الحرفية في السوق. كانت أمدرمان خصوصاً بعد معركة كرري الدامية -التي توفي بها اكثر من ١١ الف من جيوش الخليفة- تقريباً تحت حكم نسائي، ولكن غيَّر المستعمر من ذلك لاحقاً واكتفى بالرجال في تعاملاته وسياساته، فلم يكن يعترف بالنساء في مواضع القيادة حتى في بلده الأم. لكن هذا لم يمنعهن من طرْح حراك نسائي فيما بعد، نما وازدهر في أمدرمان بطبيعة الحال.
***
بعد سقوط أمدرمان المهدية على يد الحكم الإنجليزي-المصري في عام ١٨٩٨، عادت معظم القبائل من السكان إلى دُورها، وكان ذلك وفقاً لسياسات المستعمر لتفريغ العاصمة من "الأفواه عديمة الفائدة"، فشهدت كردفان و منطقة الجزيرة انتعاشاً لعودة سكانها، ولنذكّر بأن قدومهم إلى أمدرمان كان في الغالب مرغماً في المقام الأول من قبل الخليفة. البعض أُرغِموا على الرحيل من المدينة بعد معركة كرري، والبعض الآخر استقروا في أمدرمان وجعلوا منها موطناً. أما الخرطوم، عاصمة المستعمر لمرة ثانية، قامت من أنقاضها ولم تستوعب خارطتها الجديدة سكّان وطنيين ماعدا الأطراف الشبه عشوائية، وحقيقةً لم يكن هذا الأمر يؤرّق المستعمر من الأساس.
تخطيط الخرطوم عُني بالنخبة الأجنبية التي استغلت الواجهة البحرية في المواقع الشمالية والوسطى بشوارعها المتقاطعة (في شكل العلم البريطاني)، الأمر الذي سهل السيطرة عليها عسكرياً ضد اي نوع من المقاومة، وتم عزْل السكان الأصليين في مدن الصفيح خارج جسر السكك الحديدية وغابة السنط. صُمّمت الخرطوم كمدينة أوروبية، بينما أمدرمان تم تجاهلها تماماً من قِبل المستعمِر، فأعطاها المجال لكي تنمو بشكل عرَضيّ، لتصبح النموذج البدائي الخارج عن السيطرة الذي يناقض المدينة في تحضّرها، في رؤية المستعمرعلى الأقل. ومن المفارقات أن الإنجليز (والأوروبيون في العموم) أظهروا فيما بعد اهتماماً بأمدرمان لكونِها "مغايِرة وأكثر محليّة"، الشيء الذي يجذب الكثير من المستشرقين على الدوام.
حينما بدأ التفكير في تخطيط أمدرمان التي برغم الهجرات منها ظلت تجمع عدداً مقدّراً من السكان (٤٣ ألفاً في عام ١٩١٠). لم يكن من السهل للمستعمر تنظيم أمدرمان بأزقتها المتاهية التي يضيع بها القادم من خارجها، إلى جانب تمسّك الأمدرمانيين بأراضيهم السكنيّة، مما دفع الإنجليز لأخذ طريقٍ حذر يختلف تماماً عن ذلك في الخرطوم. كانت معظم عمليات تخطيط الإنجليز في أمدرمان مقتصرة على توسعة واعادة تأهيل شبكة الطرق، بالاضافة الى إعادة تخطيط المناطق والأحياء التي لم تكن مأهولة بشكل عظيم او تلك التي دُمرت خلال الغزو. حي الملازمين الذي دمر في معركة كرري تم اعادة تخطيطه وبُنيَ بعد عقودٍ لاحقة.
بعد تعيين البريطاني جيمس برامبل محافظاً لأمدرمان، قام في عام ١٩٢٨ بتحويل بيت الخليفة إلى متحف تاريخي وأُضيفت بعض المَعارض من الحقبة المهدية، حيثما باتت طليعة استحداث الهوية الثقافية لأمدرمان. في تلك الحقبة، عمل الإنجليز على تنويع الأنشطة في أمدرمان حيث تم تقديم الأنشطة الثقافية والتعليمية والصحية والترفيهية مثل المسجد الكبير ومستشفى أمدرمان ومعهد أمدرمان العلمي، وأُنشِيء أيضاً مبنى إذاعة أمدرمان بموقعها الاول بمبانى البوستة (١٩٤٠) وسينما برامبل والسينما الوطنية.
بما أن الخرطوم أُنشئت كمدينة كولونيالية في عهد المستعمر، فإنّ أمدرمان تمّ اتخاذها العاصمة الوطنية، فكانت ملاذاً للوطنيين ولكل من ينشد التمرد على كلّ ما في الخرطوم الكولونيالية. نسبه لذلك قامت بالمدينة في فترة الحكم الثنائي رئاسة مؤتمر الخريجين، إلى جانب معظم رئاسات الأحزاب السياسية الوطنية. بالقرب منها، ازدهر سوق أمدرمان، وتم توسعته وتنظيمه وإعادة تخطيط شبكة طرقاته، وضمّ مقاهي عدّة كجورج مشرقي، وود الآغا، والزئبق، ويوسف الفكي. تلك المقاهي كانت بمثابة قلب المدينة النابض بمنتدياتها الأدبية والفنية واحتضنت الفنانين والشعراء –خصوصاً شعراء ومطربي الحقيبة– وكانت مركزاً لثورة فكرية و سياسية في القرن الماضي تبلورت في الحركة الوطنية.
إن سياسات المستعمر عملت على الحد من هجرات السكان الداخلية، فبعد السودان من الاستعمار ورفع تلك المعيقات للحركة تسارعت الهجرات في الفترات اللاحقة. استمرت أمدرمان في التوسع بعد الاستقلال، وظهرت فيها أحياء حديثة عدة مثل الثورات وأمبدة والصالحة والمهندسين والروضة ومدينة النيل، والتي أصبحت في ذاتها مدناً جديدة بامتداداتها الواسعة. لكن تسارع توسع المدينة في العقود اللاحقة لأسباب عدة، مما أدى لصعوبة مواكبة تخطيط المدينة لهذا التوسع الشاسع.
أسفرَتْ الهجرات الاقتصادية من الريف للحضر نسبة لجاذبية العاصمة عن قدوم آلاف عديدة إلى أمدرمان، لكن التغيير الحقيقي في التعداد السكاني للعاصمة المثلثة كان نسبة لقدوم أعداد ضخمة من النازحين الذين استقروا في الأطراف. هنالك أسباب عدة دفعت المواطنين من جميع انحاء السودان للنزوح للعاصمة، حيث في أوائل الثمانينات، ضربت البلاد سلسلة من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الجفاف والمجاعة في الغرب والشرق، وقد أدى ذلك لنزوح آلاف المشردين داخلياً إلى العاصمة، بمن فيهم ١٢٠ ألف شخص من دارفور وكردفان. في الوقت نفسه، إزاء اشتعال الحرب الاهلية الثانية ما بين ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥، لجأ كثيرون من الهاربين من الحرب إلى الخرطوم وأمدرمان. كما أدى النزاع في دارفور منذ سنة ٢٠٠٣ إلى تدفّق المزيد من النازحين. نسبه لذلك، صنف السودان عالمياً في التسعينات و الالفينات كأكبر دولة تحتوي على نازحين داخلياً، وفي عام ٢٠٠٥ وصل عدد النازحين لذروته بحوالي ٦.١ مليون نازح. بالرغم من انخفاض هذه الأرقام، لا يزال السودان يتصدر قائمة النازحين داخلياً في العالم بحوالي ٢ مليون نازح.
قوبلت تلك الأعداد الهائلة من النازحين الذين قدموا للعاصمة –فيما عُرف "بالحزام الأسود"– بالإنكار والعداء الصريح من قبل الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينيات؛ نُظر إليهم باعتبارهم تهديداً للاستقرار السياسي وعبئاً على الاقتصاد ومصدراً للتوتر الاجتماعي والثقافي، كما انه صعب عليهم الحصول على مأوى وخدمات اجتماعية. أما الرئيس نميري (١٩٦٩-١٩٨٥) فقد وضع سياسة إعادة التوطين القسري (الكَشّة)، عن طريق إلقاء القبض على النازحين عشوائياً وإرجاعهم إكراهاً إلى أماكنهم الأصلية في غرب وجنوب السودان، أو نقلهم إلى مواقع الإنتاج في وسط السودان.
في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، قامت حكومة الإنقاذ (١٩٨٩-٢٠١٩) ببعض المبادرات لمجابهة الفقر والتهميش، وتم دمج أعداد ضخمة من السكان ذوي الدخل المنخفض في الأحياء الشعبية حول الخرطوم؛ إلا أن تلك المبادرات اتّسمَت بعدة مآزِق بسبب عمليات الإخلاء العشوائية وغير الإنسانية المتكررة والتي أثارت شكاوى كثيرة بشأن حقوق الإنسان.
إن معظم النازحين استقرّوا في مساكن غير رسمية (عشوائية) على أطراف المدن. مبادرات التخطيط منذ التسعينيات تمثّلت في إفراد قطع أراضٍ على أطراف المدينة، فكانت ظاهرياً مصمّمة لتخفيف الضغط على مناطق السكن غير النظامي المكتظّة، فهُدّمت مساكنهم من قِبل قوات الأمن، ثم تمّ نقلهم جبراً للمناطق الجديدة التي تُعرف بمخيمات النازحين، مثل مخيميّ دار السلام وود البشير في أمدرمان. الباحثة الحضرية د. هناء معتصم أجرت مقابلات مع النازحين الذين تم إسكانهم في معسكر دار السلام ووجدت ان كثير منهم كانوا يقطنون في منطقة "القماير" في أمدرمان المتواجدة في منتصف المدينة. عندما شيد معسكر دار السلام، قامت الحكومة بازالة منازلهم من دون أن توفر لهم أي تعويضات وأعادت تخطيط "القماير" لقطع درجة اولى وتم إعادة تسميتها لــ(الثورة الحارة السادسة).
النازحون للمدينة هم أكثر مَن يعاني من شح الخدمات وفرص العيش لأن السلطات تعمل على أن يتم وضعهم في الهامش بعيداً عن أعين سكان وسط المدينة. انعكس هذا الواقع المؤلم للمخيمات في أمدرمان على الأسماء التي تُعطى لها من جانب المجتمعات المحليّة التي تعيش فيها. ومن الأمثلة على ذلك مخيم السلام، الذي يشار إليه دائماً باسم "جَبَرونا." سَعَت الحكومة إلى استبدال تلك الأسماء مثل مخيم "زقلونا" والذي يعني "رُمينا خارجاً" والذي تمت إعادة تسميته "للثورة ١٥."
بالرغم من محاولة الحكومة لتمليك النازحين اراضي في العاصمة عبر إنشاء مواقع اعادة الاسكان في "الفتح" على بعد ٤٠ كلم شمال أمدرمان، إلا أن هذه المواقع قللت من جودة معيشتهم نسبة لبعدها الشديد من منتصف المدينة وعدم توفر الخدمات وفرص العيش فيها. تلك العوامل دفعت كثير من النازحين لترك الفتح والنزوح لأماكن أخرى مجدداً.
لابد من النظر لمخيمات النازحين ومواقع اعادة الاسكان وحتى المساكن العشوائية للنازحين بعينٍ ناقدة وكيف تنتقل قضايا الهامش للمدينة، والتوقف عند استيعاب المدينة لهم، فقد أصبحوا جزء لا يتجزأ من تكوين الخرطوم عبر الزمن. لا شك أن التمدّن هو اتجاه عالمي اليوم، ودائماً ما يرتحل الناس للمدن، لكن بالتأكيد يجب على المدن أن تكون قادرة على توقّع واستيعاب هذا النمو خاصة تجاه النازحين قسرياً بدلاً من ان يتم تهميشهم ووضعهم في ظروف تحتم عليهم العيش في حلقة متواصلة من الفقر والنزوح.
***
ان التجانس العرقي والثقافي في أمدرمان الذي خُلق في فترة الاستعمار كان نتاجاً لتجارب مريرة خاضها سكان المدينة، حيث أن أمدرمان المهدية نالت نصيبها من التوترات القبلية التى زعزعت المدينة بين اهل الخليفة التعايشي، اولاد الغرب، واهل المهدي الاشراف واولاد البحر. لكن الاطاحة بالدولة المهدية والهزيمة المؤلمة في كرري وحدا سكان أمدرمان ضد المستعمر، الامر الذي سمح للمدينة بأن تتماسك و يتمازج سكانها. تلك العوامل أدت لإطلاق الحركة الوطنية سعياً إلى التحرر من قبضة المستعمر، وبالتالي تم خلق هوية أمدرمان، ملجأ القوميين.
ولكن إذا كانت أمدرمان تُرى كرمز للتكامل الوطني، وهي التي شكّلت الشخصية الوطنية السودانية من خلال حركة الثقافة المهيمنة التي ابتدأت منذ الحقبة الكولونيالية، فإن بعض الآراء المعارِضة تحسَب أن هذا الأمر ليس دقيقاً، ومضلّل في الواقع، لأن ثقافة أمدرمان همّشت واستبعدت ثقافات جماعات وأفراد آخرين بحجة انهم غير أمدرمانيين. فالبعض يرى أن الهجرات العديدة في الثمانينيات كانت بداية فقدان صورة تلك "الهوية الوطنية." في الحقيقة هذا يبعث على التساؤل عن هذه الصورة؛ هل قامت بعكس التكامل الوطني الذي تفرضه على المستوى الكلي للسودان؟ يقول بروفيسور إدريس سالم أن الأمدرمانيين سيقولون نعم، لأن صورة أمدرمان "كسودان مصغّر" ما هي إلا في أذهانهم فقط.
إن تلك الهوية القومية لأمدرمان بالتأكيد تُختبر منذ الثمانينيات وما بعدها. "انا أمدرمان انا السودان" صار لها معانٍ أخرى، فالسودان منذ استقلاله لم يشهد أي نوع من الاستقرار في جميع أنحائه التي هُمشت لصالح تنمية المركز. النازحون قدموا من تلك المناطق المهمشة حاملين مظالمهم و زعزعوا استقرار الخرطوم -وبالتالي أمدرمان- وصورتها المنفصلة عن الواقع. بالاحرى، ان صورة أمدرمان كسودان مصغر لم تمثل الواقع الا بعد ان ضمت أشخاصاً من جميع أنحاء البلاد بعد ان تم اقصائهم مجدداً لهامش المدينة في ظل رفض اجتماعي من الأمدرمانيين القدامى.
في مواجهة هذا التحدي الجديد للهوية الأمدرمانية، لا يوجد عدو مشترك يوحد بين سكان أمدرمان، فقد أصبح العدو أحدهما الآخر تماماً مثلما كان الوضع في المهدية. بالحتم، لا يوجد شك أن الحل الأمثل لمسألة النزوح هو إيجاد حل جذري لدوافع النزوح في السودان، لكن تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي الحالي يولد صعوبة حقيقية تحول دون الوصول لهذا الحل الجذري في المستقبل القريب. في خضم هذه التعقيدات، ربما الخيار المتاح هو معالجة مشاكل النازحين على مستوى المدينة، على الأقل بتغيير سياسات الدولة الاقصائية تجاههم. أمدرمان الآن امام فرصة فريدة من نوعها، إذ أن صورتها كسودان مصغر لها القدرة أن تستخدم كمثال واقعي للتغيير والوصول للتماسك الاجتماعي بدلاً من أن يتم استخدام صورتها لتمييز أُناسٍ فوق بعضهم. فاذا استطاعت أمدرمان ان تخلق مساواة حقيقية في كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لجميع سكانها في المستقبل، ربما سيشكل ذلك معبراً لإيجاد حلول حقيقية على أرض الواقع للمشاكل التي تقسم السودان منذ استقلاله.