حياة المدينة
المدن كائنات حية تعيش وتنمو وتموت من خلال وجود وازدهار الثقافة والتراث داخلها. يتناول هذا القسم كيفية تطور المدن ونموها وارتباطها بالحركة البشرية ومجالات السلطة السياسية.
أفلام مدن
أفلام مدن
أم درمان القديمة
فيلم أرشيفي ملون وأبيض وأسود من أرشيف جامعة دورهام يعرض لقطات من سوق أم درمان بين العامين ١٩٥٤ و١٩٥٥ بالإضافة إلى صناعة القوارب بجوار نهر النيل والحياة على نهر النيل، كما يمكن رؤية جسر أم درمان، الذي تم بناؤه عام ١٩٢٦. صور الفلم ج. كارمايكل، مسؤول مشروع الجزيرة في ذلك الوقت.
تغنى لها الفرجوني وسمية حسن بكلمات عبد الله محمد زين:
أنا أم دُرمـــــان.. أنا الســـــودان
أنا الـــــــدُرة البزيــن بـــــــلدي
خرطوم القديمة
فيلم أرشيفي من أرشيف جامعة دورهام يظهر لقطات من الخرطوم عام ١٩٤١ تظهر العديد من مباني المدينة التي أزيلت بعد الاستقلال مثل التماثيل وبرج جرس الكاتدرائية وكذلك السوق القديم. يعطي الفيلم لمحة عن حياة المدينة في ذلك الوقت.
تغنى لها الكابلي بكلمات عبد الرحمن الريح:
مغناها الجميل
يا حرير أرض النيل
ألوان الزهور
الأبيض القديمة
فيلم أرشيفي من أرشيف جامعة دورهام يعرض أفلامًا من مدينة الأبيض بين العامين ١٩٣٢ و١٩٣٥ تظهر السوق ومحطات القطار وخزان المياه بالمدينة بالإضافة إلى مبنى المديرية، أقدم مبنى حكومي باقي في السودان، تم بناؤه أثناء الحكم التركي على السودان. صور الفلم ايدورد فرانسيس
تغنى لها عبدالقادر سالم بكلمات الطيب عبد الرحمن حامد:
"مكتــــول هواك يا كردفــــــــــــان
مكتــــول هواك أنا من زمــــــــان
صورة الغلاف: احتفالات المولد النبوي الشريف، أم درمان، ١٩٢٠/٣٠ التقطت الصورة بواسطة Wolff, M. E. and G. L. © أرشيف السودان بجامعة درهام
أم درمان القديمة
فيلم أرشيفي ملون وأبيض وأسود من أرشيف جامعة دورهام يعرض لقطات من سوق أم درمان بين العامين ١٩٥٤ و١٩٥٥ بالإضافة إلى صناعة القوارب بجوار نهر النيل والحياة على نهر النيل، كما يمكن رؤية جسر أم درمان، الذي تم بناؤه عام ١٩٢٦. صور الفلم ج. كارمايكل، مسؤول مشروع الجزيرة في ذلك الوقت.
تغنى لها الفرجوني وسمية حسن بكلمات عبد الله محمد زين:
أنا أم دُرمـــــان.. أنا الســـــودان
أنا الـــــــدُرة البزيــن بـــــــلدي
خرطوم القديمة
فيلم أرشيفي من أرشيف جامعة دورهام يظهر لقطات من الخرطوم عام ١٩٤١ تظهر العديد من مباني المدينة التي أزيلت بعد الاستقلال مثل التماثيل وبرج جرس الكاتدرائية وكذلك السوق القديم. يعطي الفيلم لمحة عن حياة المدينة في ذلك الوقت.
تغنى لها الكابلي بكلمات عبد الرحمن الريح:
مغناها الجميل
يا حرير أرض النيل
ألوان الزهور
الأبيض القديمة
فيلم أرشيفي من أرشيف جامعة دورهام يعرض أفلامًا من مدينة الأبيض بين العامين ١٩٣٢ و١٩٣٥ تظهر السوق ومحطات القطار وخزان المياه بالمدينة بالإضافة إلى مبنى المديرية، أقدم مبنى حكومي باقي في السودان، تم بناؤه أثناء الحكم التركي على السودان. صور الفلم ايدورد فرانسيس
تغنى لها عبدالقادر سالم بكلمات الطيب عبد الرحمن حامد:
"مكتــــول هواك يا كردفــــــــــــان
مكتــــول هواك أنا من زمــــــــان
صورة الغلاف: احتفالات المولد النبوي الشريف، أم درمان، ١٩٢٠/٣٠ التقطت الصورة بواسطة Wolff, M. E. and G. L. © أرشيف السودان بجامعة درهام
أم درمان القديمة
فيلم أرشيفي ملون وأبيض وأسود من أرشيف جامعة دورهام يعرض لقطات من سوق أم درمان بين العامين ١٩٥٤ و١٩٥٥ بالإضافة إلى صناعة القوارب بجوار نهر النيل والحياة على نهر النيل، كما يمكن رؤية جسر أم درمان، الذي تم بناؤه عام ١٩٢٦. صور الفلم ج. كارمايكل، مسؤول مشروع الجزيرة في ذلك الوقت.
تغنى لها الفرجوني وسمية حسن بكلمات عبد الله محمد زين:
أنا أم دُرمـــــان.. أنا الســـــودان
أنا الـــــــدُرة البزيــن بـــــــلدي
خرطوم القديمة
فيلم أرشيفي من أرشيف جامعة دورهام يظهر لقطات من الخرطوم عام ١٩٤١ تظهر العديد من مباني المدينة التي أزيلت بعد الاستقلال مثل التماثيل وبرج جرس الكاتدرائية وكذلك السوق القديم. يعطي الفيلم لمحة عن حياة المدينة في ذلك الوقت.
تغنى لها الكابلي بكلمات عبد الرحمن الريح:
مغناها الجميل
يا حرير أرض النيل
ألوان الزهور
الأبيض القديمة
فيلم أرشيفي من أرشيف جامعة دورهام يعرض أفلامًا من مدينة الأبيض بين العامين ١٩٣٢ و١٩٣٥ تظهر السوق ومحطات القطار وخزان المياه بالمدينة بالإضافة إلى مبنى المديرية، أقدم مبنى حكومي باقي في السودان، تم بناؤه أثناء الحكم التركي على السودان. صور الفلم ايدورد فرانسيس
تغنى لها عبدالقادر سالم بكلمات الطيب عبد الرحمن حامد:
"مكتــــول هواك يا كردفــــــــــــان
مكتــــول هواك أنا من زمــــــــان
صورة الغلاف: احتفالات المولد النبوي الشريف، أم درمان، ١٩٢٠/٣٠ التقطت الصورة بواسطة Wolff, M. E. and G. L. © أرشيف السودان بجامعة درهام
الخرطوم في عهد غردون
الخرطوم في عهد غردون
مجموعة صور لمدينة الخرطوم كانت جزء من العرض الأولي لمتحف بيت الخليفة من تصوير ريتشارد بوختا وهو مصوّر نمساويّ، ويُعد صاحب أول رحلة توثيقية في منطقة أواسط أفريقيا (١٨٧٨م و١٨٨٠م). زار بوختا السودان عام ١٨٧٨م برفقة الرَّحَّالة والمستكشف الإيطالي رومولو جيسي؛ وكان الأخير حاكماً لبحر الغزال وصديقاً لحكمدار السودان غردون باشا. ونُشِرت صوره في عام ١٨٨١م.
- تزامن اندلاع الثورة المهديّة في السودان مع مغادرة بوختا؛ وعمت أخبارها العالم، فمثّلت صوره المرجع المرئي الأساسي والوحيد للسودان، وظهرت في العديد من المنشورات المهمة في ذلك الوقت.
مجموعة صور لمدينة الخرطوم كانت جزء من العرض الأولي لمتحف بيت الخليفة من تصوير ريتشارد بوختا وهو مصوّر نمساويّ، ويُعد صاحب أول رحلة توثيقية في منطقة أواسط أفريقيا (١٨٧٨م و١٨٨٠م). زار بوختا السودان عام ١٨٧٨م برفقة الرَّحَّالة والمستكشف الإيطالي رومولو جيسي؛ وكان الأخير حاكماً لبحر الغزال وصديقاً لحكمدار السودان غردون باشا. ونُشِرت صوره في عام ١٨٨١م.
- تزامن اندلاع الثورة المهديّة في السودان مع مغادرة بوختا؛ وعمت أخبارها العالم، فمثّلت صوره المرجع المرئي الأساسي والوحيد للسودان، وظهرت في العديد من المنشورات المهمة في ذلك الوقت.
مجموعة صور لمدينة الخرطوم كانت جزء من العرض الأولي لمتحف بيت الخليفة من تصوير ريتشارد بوختا وهو مصوّر نمساويّ، ويُعد صاحب أول رحلة توثيقية في منطقة أواسط أفريقيا (١٨٧٨م و١٨٨٠م). زار بوختا السودان عام ١٨٧٨م برفقة الرَّحَّالة والمستكشف الإيطالي رومولو جيسي؛ وكان الأخير حاكماً لبحر الغزال وصديقاً لحكمدار السودان غردون باشا. ونُشِرت صوره في عام ١٨٨١م.
- تزامن اندلاع الثورة المهديّة في السودان مع مغادرة بوختا؛ وعمت أخبارها العالم، فمثّلت صوره المرجع المرئي الأساسي والوحيد للسودان، وظهرت في العديد من المنشورات المهمة في ذلك الوقت.
كيف تنمو المدن
كيف تنمو المدن
تشتهر أم درمان بصورتها كعاصمة وطنية، وكسودان مصغر، وهي صورة مرتبطة بتاريخ طويل من الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية المتجذرة في المدينة. صورة أم درمان هي محور هذه الحلقة، فكيف تشكلت هذه الصورة؟ وهل هي متخيلة أم حقيقية؟
نناقش البدايات المبكرة لأم درمان خلال الدولة المهدية وكيف خطط الخليفة المدينة كعاصمة له من خلال النظر في العوامل الاجتماعية والسياسية التي أثرت على تشكل المدينة. مع صعود الاستعمار الإنجليزي المصري، انتقل مقر السلطة إلى الخرطوم، مما سمح لأم درمان بدخول عصر جديد عرف بإنتاجه الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي بلغ ذروته في الحركة الوطنية.
منذ الاستقلال، أثرت موجات الهجرة المتعددة وكذلك النزوح إلى المدينة على تلك الهوية الثقافية وأصبحت بمثابة تحد لها. ففي هذه الحلقة نناقش كيف تؤثر هذه التطورات الأخيرة على صورة وهوية المدينة ككل.
هذه هي الحلقة الأولى من الخرطوم بودكاست وهو عبارة عن سلسلة من الحلقات التي تستكشف مدينة الخرطوم والجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة من خلال عدسات متخصصين حضريين وفنانين وغيرهم من سكان المدينة. يناقش البودكاست العلاقة بين الناس والثقافة والتاريخ للحصول على فهم أفضل لكيفية تشكيل المدينة باستمرار في الحياة اليومية.
تم إنتاج هذه الحلقة ستوديو ايربان لصالح مشروع السودان يتحرك، وهو مشروع بدأه وموله معهد جوته في السودان.
الضيوف:
الدكتور هاشم خليفة محجوب، أستاذ وباحث ومحلل معماري. عمل سابقاً بقسم العمارة بوزارة الأشغال وقسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، بالاضافة الى عمله بالعديد من الجامعات السودانية.
البروفيسور إدريس سالم الحسن، عميد كلية الآداب بجامعة أفريقيا العالمية، والأستاذ سابقاً بجامعة الخرطوم بقسم الاجتماع لما يزيد عن خمسة و عشرين عاماً بها اصبح عميداً لكلية الدراسات التقنية و التنمية ثم عميداً لمشروعات الجامعة.
البروفيسور منزول عسل، أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في كلية الاقتصاد في قسم علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم. عمل سابقاً في جامعة الخرطوم كمدير لادارة شؤون الخريجين ومعهد أبحاث السلام.
تسنيم ناجي، باحثة حضرية ومؤسسة المشروع الحضري والمحاضرة سابقاً بجامعة الخرطوم بكلية العمارة.
فريق إنتاج هذه الحلقة هم:
باحثة ومنتجة: مي أبو صالح
المقدمة: عزة محمد
السيناريو: حسام هلالي ومي أبو صالح
الموسيقى: زين ريكوردز
السرد والمزج الصوتي: طارق سليمان
مدير المشروع: زينب جعفر
المعدات والمساعدة الفنية: المصطبة تي في
استوديو التسجيل: مختبر ريفت الرقمي
تشتهر أم درمان بصورتها كعاصمة وطنية، وكسودان مصغر، وهي صورة مرتبطة بتاريخ طويل من الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية المتجذرة في المدينة. صورة أم درمان هي محور هذه الحلقة، فكيف تشكلت هذه الصورة؟ وهل هي متخيلة أم حقيقية؟
نناقش البدايات المبكرة لأم درمان خلال الدولة المهدية وكيف خطط الخليفة المدينة كعاصمة له من خلال النظر في العوامل الاجتماعية والسياسية التي أثرت على تشكل المدينة. مع صعود الاستعمار الإنجليزي المصري، انتقل مقر السلطة إلى الخرطوم، مما سمح لأم درمان بدخول عصر جديد عرف بإنتاجه الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي بلغ ذروته في الحركة الوطنية.
منذ الاستقلال، أثرت موجات الهجرة المتعددة وكذلك النزوح إلى المدينة على تلك الهوية الثقافية وأصبحت بمثابة تحد لها. ففي هذه الحلقة نناقش كيف تؤثر هذه التطورات الأخيرة على صورة وهوية المدينة ككل.
هذه هي الحلقة الأولى من الخرطوم بودكاست وهو عبارة عن سلسلة من الحلقات التي تستكشف مدينة الخرطوم والجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة من خلال عدسات متخصصين حضريين وفنانين وغيرهم من سكان المدينة. يناقش البودكاست العلاقة بين الناس والثقافة والتاريخ للحصول على فهم أفضل لكيفية تشكيل المدينة باستمرار في الحياة اليومية.
تم إنتاج هذه الحلقة ستوديو ايربان لصالح مشروع السودان يتحرك، وهو مشروع بدأه وموله معهد جوته في السودان.
الضيوف:
الدكتور هاشم خليفة محجوب، أستاذ وباحث ومحلل معماري. عمل سابقاً بقسم العمارة بوزارة الأشغال وقسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، بالاضافة الى عمله بالعديد من الجامعات السودانية.
البروفيسور إدريس سالم الحسن، عميد كلية الآداب بجامعة أفريقيا العالمية، والأستاذ سابقاً بجامعة الخرطوم بقسم الاجتماع لما يزيد عن خمسة و عشرين عاماً بها اصبح عميداً لكلية الدراسات التقنية و التنمية ثم عميداً لمشروعات الجامعة.
البروفيسور منزول عسل، أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في كلية الاقتصاد في قسم علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم. عمل سابقاً في جامعة الخرطوم كمدير لادارة شؤون الخريجين ومعهد أبحاث السلام.
تسنيم ناجي، باحثة حضرية ومؤسسة المشروع الحضري والمحاضرة سابقاً بجامعة الخرطوم بكلية العمارة.
فريق إنتاج هذه الحلقة هم:
باحثة ومنتجة: مي أبو صالح
المقدمة: عزة محمد
السيناريو: حسام هلالي ومي أبو صالح
الموسيقى: زين ريكوردز
السرد والمزج الصوتي: طارق سليمان
مدير المشروع: زينب جعفر
المعدات والمساعدة الفنية: المصطبة تي في
استوديو التسجيل: مختبر ريفت الرقمي
تشتهر أم درمان بصورتها كعاصمة وطنية، وكسودان مصغر، وهي صورة مرتبطة بتاريخ طويل من الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية المتجذرة في المدينة. صورة أم درمان هي محور هذه الحلقة، فكيف تشكلت هذه الصورة؟ وهل هي متخيلة أم حقيقية؟
نناقش البدايات المبكرة لأم درمان خلال الدولة المهدية وكيف خطط الخليفة المدينة كعاصمة له من خلال النظر في العوامل الاجتماعية والسياسية التي أثرت على تشكل المدينة. مع صعود الاستعمار الإنجليزي المصري، انتقل مقر السلطة إلى الخرطوم، مما سمح لأم درمان بدخول عصر جديد عرف بإنتاجه الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي بلغ ذروته في الحركة الوطنية.
منذ الاستقلال، أثرت موجات الهجرة المتعددة وكذلك النزوح إلى المدينة على تلك الهوية الثقافية وأصبحت بمثابة تحد لها. ففي هذه الحلقة نناقش كيف تؤثر هذه التطورات الأخيرة على صورة وهوية المدينة ككل.
هذه هي الحلقة الأولى من الخرطوم بودكاست وهو عبارة عن سلسلة من الحلقات التي تستكشف مدينة الخرطوم والجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة من خلال عدسات متخصصين حضريين وفنانين وغيرهم من سكان المدينة. يناقش البودكاست العلاقة بين الناس والثقافة والتاريخ للحصول على فهم أفضل لكيفية تشكيل المدينة باستمرار في الحياة اليومية.
تم إنتاج هذه الحلقة ستوديو ايربان لصالح مشروع السودان يتحرك، وهو مشروع بدأه وموله معهد جوته في السودان.
الضيوف:
الدكتور هاشم خليفة محجوب، أستاذ وباحث ومحلل معماري. عمل سابقاً بقسم العمارة بوزارة الأشغال وقسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، بالاضافة الى عمله بالعديد من الجامعات السودانية.
البروفيسور إدريس سالم الحسن، عميد كلية الآداب بجامعة أفريقيا العالمية، والأستاذ سابقاً بجامعة الخرطوم بقسم الاجتماع لما يزيد عن خمسة و عشرين عاماً بها اصبح عميداً لكلية الدراسات التقنية و التنمية ثم عميداً لمشروعات الجامعة.
البروفيسور منزول عسل، أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في كلية الاقتصاد في قسم علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم. عمل سابقاً في جامعة الخرطوم كمدير لادارة شؤون الخريجين ومعهد أبحاث السلام.
تسنيم ناجي، باحثة حضرية ومؤسسة المشروع الحضري والمحاضرة سابقاً بجامعة الخرطوم بكلية العمارة.
فريق إنتاج هذه الحلقة هم:
باحثة ومنتجة: مي أبو صالح
المقدمة: عزة محمد
السيناريو: حسام هلالي ومي أبو صالح
الموسيقى: زين ريكوردز
السرد والمزج الصوتي: طارق سليمان
مدير المشروع: زينب جعفر
المعدات والمساعدة الفنية: المصطبة تي في
استوديو التسجيل: مختبر ريفت الرقمي
خطوط القوى
خطوط القوى
أم درمان قبل المهدية
وُجدت أم درمان منذ العصور الحجرية، لكن التاريخ المكتوب لم يذكرها حتى القرن السابع عشر؛ فظهرت في مخطوطة طبقات ود ضيف الله (١٦٤٦م-١٧٣٠م) كقرية للفقيه حمد ود أم مريوم ولم يمكث فيها طويلاً، ثم توارد ذكرها في كتابات الرحّالة. وبعد دخول المستعمر التركي عام ١٨٢١م، سكنها عدد من التجار، لمرور أحد أهم طرق التجارة في إفريقيا بها (لاحظ اتجاه السهم)، فقد ربط الطريق غرب إفريقيا وغرب السودان بشرق السودان، ومنه إلى العالم، كذلك استعمل الأتراك أم درمان لاحقا كمحطّة نهريّة للعبور إلى الخرطوم، و كقاعدة عسكرية صغيرة.
حصار وتحرير الخرطوم
أراد المهدي طرد المستعمر وإعلان العهد الجديد للأمة الإسلامية؛ فخطط لتحرير الخرطوم في مرحلتين؛ أولا، عزلها عن بقية أنحاء السودان وعن العالم الخارجي؛ فعيَّن الأمير عثمان دقنة لقطع طريق بربر-سواكن، وأمَر الأمير محمد خير عبد الله بقطع التلغراف بين بربر والخرطوم، ثم بين مصر وبربر. وتمثلت المرحلة الثانية في أن يحاصر الخرطوم حصاراً مباشراً، امتد سنة كاملة، وتحررت في ٢٦ من يناير عام ١٨٨٥م. كان الأمير محمد عثمان أبو قرجة في قيادة الشيوخ، وحاصر الشيخ العبيد ود بدر الخرطوم من الجهة الشرقية، وأحكم عبد الرحمن النجومي الحصار بعد هزيمة الأنصار في بري والجريف غرب، كما حاصر الأمير حمدان أبوعنجة حامية أم درمان حتى الاستسلام.
أم درمان في عهد الخليفة
بعد وفاة المهدي، أمَر الخليفة عبد الله المواطنين بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى أم درمان، ثم أمر أبناء قبيلته بالهجرة من غرب السودان إلى أم درمان ليتقوّى بهم.
اختلف المؤرخون في أسباب هذا الإنتقال، لكنهم رجّحوا أنّ الخليفة أراد الابتعاد عن عاصمة الأعداء، وفضّل أم درمان لطبيعتها الجغرافية الجيدة، ولموقعها الاستراتيجيّ المميز في طريق التجارة والحج. كذلك أراد حصر الأجانب المنتقلين من الخرطوم في أحياء خاصة لتسهيل مراقبتهم.
معركة كرري
أراد المستعمر البريطاني المصري عند دخول السودان السيطرة على مجرى النيل، وحمايته من الشمال وحتى جنوب السودان؛ وكان إسقاط أم درمان بالانتصار في معركة كرري يعني إثبات سلطة المستعمر البريطاني المصري كحاكم للسودان.
أبلى الأنصار بلاءً حسناً في كرري، وأظهروا قدراً كبيراً من السؤدد والجسارة، لكنهم لم يصمدوا أمام الأسلحة النارية البريطانية. بعد الانتصار في كرري واصل الإنجليز جنوباً لحماية مجرى النيل، ولمطاردة الخليفة عبد الله المتراجِع جنوباً حتى قضوا عليه في أم دبيكرات.
أم درمان في العهد البريطاني المصري
تميزت هذه الفترة بإنشاء طرق سكة الحديد، ونشاط طرق النقل النهري، حيث اهتمّ المستعمر بإنشاء هذه الطرق لدورها الكبير كعمود فقري للقوة الاقتصادية، فقد سهّلت التنقل بين أجزاء السودان، والاستفادة من الخيرات الزراعية والطبيعية، ونقلها من مختلف الأنحاء إلى الشمال.
تركز نشاط المستعمر ومن معه من السودانيين في العاصمة الخرطوم، وترُكت أم درمان كعاصمة وطنية ومعبراً للخرطوم ومرسىً للسفن فقط.
أم درمان قبل المهدية
وُجدت أم درمان منذ العصور الحجرية، لكن التاريخ المكتوب لم يذكرها حتى القرن السابع عشر؛ فظهرت في مخطوطة طبقات ود ضيف الله (١٦٤٦م-١٧٣٠م) كقرية للفقيه حمد ود أم مريوم ولم يمكث فيها طويلاً، ثم توارد ذكرها في كتابات الرحّالة. وبعد دخول المستعمر التركي عام ١٨٢١م، سكنها عدد من التجار، لمرور أحد أهم طرق التجارة في إفريقيا بها (لاحظ اتجاه السهم)، فقد ربط الطريق غرب إفريقيا وغرب السودان بشرق السودان، ومنه إلى العالم، كذلك استعمل الأتراك أم درمان لاحقا كمحطّة نهريّة للعبور إلى الخرطوم، و كقاعدة عسكرية صغيرة.
حصار وتحرير الخرطوم
أراد المهدي طرد المستعمر وإعلان العهد الجديد للأمة الإسلامية؛ فخطط لتحرير الخرطوم في مرحلتين؛ أولا، عزلها عن بقية أنحاء السودان وعن العالم الخارجي؛ فعيَّن الأمير عثمان دقنة لقطع طريق بربر-سواكن، وأمَر الأمير محمد خير عبد الله بقطع التلغراف بين بربر والخرطوم، ثم بين مصر وبربر. وتمثلت المرحلة الثانية في أن يحاصر الخرطوم حصاراً مباشراً، امتد سنة كاملة، وتحررت في ٢٦ من يناير عام ١٨٨٥م. كان الأمير محمد عثمان أبو قرجة في قيادة الشيوخ، وحاصر الشيخ العبيد ود بدر الخرطوم من الجهة الشرقية، وأحكم عبد الرحمن النجومي الحصار بعد هزيمة الأنصار في بري والجريف غرب، كما حاصر الأمير حمدان أبوعنجة حامية أم درمان حتى الاستسلام.
أم درمان في عهد الخليفة
بعد وفاة المهدي، أمَر الخليفة عبد الله المواطنين بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى أم درمان، ثم أمر أبناء قبيلته بالهجرة من غرب السودان إلى أم درمان ليتقوّى بهم.
اختلف المؤرخون في أسباب هذا الإنتقال، لكنهم رجّحوا أنّ الخليفة أراد الابتعاد عن عاصمة الأعداء، وفضّل أم درمان لطبيعتها الجغرافية الجيدة، ولموقعها الاستراتيجيّ المميز في طريق التجارة والحج. كذلك أراد حصر الأجانب المنتقلين من الخرطوم في أحياء خاصة لتسهيل مراقبتهم.
معركة كرري
أراد المستعمر البريطاني المصري عند دخول السودان السيطرة على مجرى النيل، وحمايته من الشمال وحتى جنوب السودان؛ وكان إسقاط أم درمان بالانتصار في معركة كرري يعني إثبات سلطة المستعمر البريطاني المصري كحاكم للسودان.
أبلى الأنصار بلاءً حسناً في كرري، وأظهروا قدراً كبيراً من السؤدد والجسارة، لكنهم لم يصمدوا أمام الأسلحة النارية البريطانية. بعد الانتصار في كرري واصل الإنجليز جنوباً لحماية مجرى النيل، ولمطاردة الخليفة عبد الله المتراجِع جنوباً حتى قضوا عليه في أم دبيكرات.
أم درمان في العهد البريطاني المصري
تميزت هذه الفترة بإنشاء طرق سكة الحديد، ونشاط طرق النقل النهري، حيث اهتمّ المستعمر بإنشاء هذه الطرق لدورها الكبير كعمود فقري للقوة الاقتصادية، فقد سهّلت التنقل بين أجزاء السودان، والاستفادة من الخيرات الزراعية والطبيعية، ونقلها من مختلف الأنحاء إلى الشمال.
تركز نشاط المستعمر ومن معه من السودانيين في العاصمة الخرطوم، وترُكت أم درمان كعاصمة وطنية ومعبراً للخرطوم ومرسىً للسفن فقط.
أم درمان قبل المهدية
وُجدت أم درمان منذ العصور الحجرية، لكن التاريخ المكتوب لم يذكرها حتى القرن السابع عشر؛ فظهرت في مخطوطة طبقات ود ضيف الله (١٦٤٦م-١٧٣٠م) كقرية للفقيه حمد ود أم مريوم ولم يمكث فيها طويلاً، ثم توارد ذكرها في كتابات الرحّالة. وبعد دخول المستعمر التركي عام ١٨٢١م، سكنها عدد من التجار، لمرور أحد أهم طرق التجارة في إفريقيا بها (لاحظ اتجاه السهم)، فقد ربط الطريق غرب إفريقيا وغرب السودان بشرق السودان، ومنه إلى العالم، كذلك استعمل الأتراك أم درمان لاحقا كمحطّة نهريّة للعبور إلى الخرطوم، و كقاعدة عسكرية صغيرة.
حصار وتحرير الخرطوم
أراد المهدي طرد المستعمر وإعلان العهد الجديد للأمة الإسلامية؛ فخطط لتحرير الخرطوم في مرحلتين؛ أولا، عزلها عن بقية أنحاء السودان وعن العالم الخارجي؛ فعيَّن الأمير عثمان دقنة لقطع طريق بربر-سواكن، وأمَر الأمير محمد خير عبد الله بقطع التلغراف بين بربر والخرطوم، ثم بين مصر وبربر. وتمثلت المرحلة الثانية في أن يحاصر الخرطوم حصاراً مباشراً، امتد سنة كاملة، وتحررت في ٢٦ من يناير عام ١٨٨٥م. كان الأمير محمد عثمان أبو قرجة في قيادة الشيوخ، وحاصر الشيخ العبيد ود بدر الخرطوم من الجهة الشرقية، وأحكم عبد الرحمن النجومي الحصار بعد هزيمة الأنصار في بري والجريف غرب، كما حاصر الأمير حمدان أبوعنجة حامية أم درمان حتى الاستسلام.
أم درمان في عهد الخليفة
بعد وفاة المهدي، أمَر الخليفة عبد الله المواطنين بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى أم درمان، ثم أمر أبناء قبيلته بالهجرة من غرب السودان إلى أم درمان ليتقوّى بهم.
اختلف المؤرخون في أسباب هذا الإنتقال، لكنهم رجّحوا أنّ الخليفة أراد الابتعاد عن عاصمة الأعداء، وفضّل أم درمان لطبيعتها الجغرافية الجيدة، ولموقعها الاستراتيجيّ المميز في طريق التجارة والحج. كذلك أراد حصر الأجانب المنتقلين من الخرطوم في أحياء خاصة لتسهيل مراقبتهم.
معركة كرري
أراد المستعمر البريطاني المصري عند دخول السودان السيطرة على مجرى النيل، وحمايته من الشمال وحتى جنوب السودان؛ وكان إسقاط أم درمان بالانتصار في معركة كرري يعني إثبات سلطة المستعمر البريطاني المصري كحاكم للسودان.
أبلى الأنصار بلاءً حسناً في كرري، وأظهروا قدراً كبيراً من السؤدد والجسارة، لكنهم لم يصمدوا أمام الأسلحة النارية البريطانية. بعد الانتصار في كرري واصل الإنجليز جنوباً لحماية مجرى النيل، ولمطاردة الخليفة عبد الله المتراجِع جنوباً حتى قضوا عليه في أم دبيكرات.
أم درمان في العهد البريطاني المصري
تميزت هذه الفترة بإنشاء طرق سكة الحديد، ونشاط طرق النقل النهري، حيث اهتمّ المستعمر بإنشاء هذه الطرق لدورها الكبير كعمود فقري للقوة الاقتصادية، فقد سهّلت التنقل بين أجزاء السودان، والاستفادة من الخيرات الزراعية والطبيعية، ونقلها من مختلف الأنحاء إلى الشمال.
تركز نشاط المستعمر ومن معه من السودانيين في العاصمة الخرطوم، وترُكت أم درمان كعاصمة وطنية ومعبراً للخرطوم ومرسىً للسفن فقط.
أحياء أم درمان
أحياء أم درمان
كيف تكوّنت مدينة أم درمان؟
أم درمان هي البقعة التي اختارها المهدي ليُعسكر فيها عند حصاره للخرطوم، وانتقل إليها بعد تحريرها. وكان للمهدي غرفة صغيرة مجاورة لفضاء مسجده بأم درمان وأصبحت لاحقاً قبةً دُفن فيها.
ابتدأ تكوّن مدينة أم درمان في عهد الخليفة عبدالله ، إذ كان مسجد الإمام المهدي نواةً تشكّلت حولها المدينة. فقد بادر الخليفة ببناء قبة للمهدي، ثم بنى بيته جوارها، وسارع الناس في بناء منازلهم بالطين والطوب حولها لكسب البركة.
كان أبناء القبيلة الواحدة يفضّلون السكن في بيوت متجاورة، فأدى ذلك لتكون الأحياء على الإتجاهات الأربعة؛ كل حيّ مكون من قبيلة واحدة، وكل قسم من أقسام المدينة مكوّن من القبائل ذات الصلة. وامتدت المدينة شمالاً وجنوباً بمحاذاة النيل، حيث كانت معظم النشاطات اليومية تُقضى على المشارع والمراسي.
كيف تكوّنت مدينة أم درمان؟
أم درمان هي البقعة التي اختارها المهدي ليُعسكر فيها عند حصاره للخرطوم، وانتقل إليها بعد تحريرها. وكان للمهدي غرفة صغيرة مجاورة لفضاء مسجده بأم درمان وأصبحت لاحقاً قبةً دُفن فيها.
ابتدأ تكوّن مدينة أم درمان في عهد الخليفة عبدالله ، إذ كان مسجد الإمام المهدي نواةً تشكّلت حولها المدينة. فقد بادر الخليفة ببناء قبة للمهدي، ثم بنى بيته جوارها، وسارع الناس في بناء منازلهم بالطين والطوب حولها لكسب البركة.
كان أبناء القبيلة الواحدة يفضّلون السكن في بيوت متجاورة، فأدى ذلك لتكون الأحياء على الإتجاهات الأربعة؛ كل حيّ مكون من قبيلة واحدة، وكل قسم من أقسام المدينة مكوّن من القبائل ذات الصلة. وامتدت المدينة شمالاً وجنوباً بمحاذاة النيل، حيث كانت معظم النشاطات اليومية تُقضى على المشارع والمراسي.
كيف تكوّنت مدينة أم درمان؟
أم درمان هي البقعة التي اختارها المهدي ليُعسكر فيها عند حصاره للخرطوم، وانتقل إليها بعد تحريرها. وكان للمهدي غرفة صغيرة مجاورة لفضاء مسجده بأم درمان وأصبحت لاحقاً قبةً دُفن فيها.
ابتدأ تكوّن مدينة أم درمان في عهد الخليفة عبدالله ، إذ كان مسجد الإمام المهدي نواةً تشكّلت حولها المدينة. فقد بادر الخليفة ببناء قبة للمهدي، ثم بنى بيته جوارها، وسارع الناس في بناء منازلهم بالطين والطوب حولها لكسب البركة.
كان أبناء القبيلة الواحدة يفضّلون السكن في بيوت متجاورة، فأدى ذلك لتكون الأحياء على الإتجاهات الأربعة؛ كل حيّ مكون من قبيلة واحدة، وكل قسم من أقسام المدينة مكوّن من القبائل ذات الصلة. وامتدت المدينة شمالاً وجنوباً بمحاذاة النيل، حيث كانت معظم النشاطات اليومية تُقضى على المشارع والمراسي.
أمدرمان عَبرَ الزمَان
أمدرمان عَبرَ الزمَان
"أﻧﺎ أﻣﺪﺭﻣﺎﻥ أﻧﺎ ﺍلأﻣﺔ
ﻭﺻﻮﺕ ﺍلأﻣﺔ ﻭاﺣﺴﺎﺳا
أﻧﺎ ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﺑَﻲ ﺗﻢَّ
ﻭأﻧﺎ ﺍﻟﻠّﻤﻴﺖ ﺷَﺘَﺎﺕ ﻧَﺎﺳَﺎ
ﻣَﺰَﺟﺖ ﺷﻤَﺎﻻَ ﺑﺠَﻨُﻮﺑَﺎ
ﻭﺳَﻜَﺒْﺖ ﺷُﺮُﻭﻗَﺎ ﻓﻲ ﻏُﺮُﻭﺑَا
ﻭﺯَرَﻋْﺖَ ﺍﻟﻄّﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺩْﺭُﻭﺑَﺎ
ﻭﻃَﺎﺑَﺖ ﻋِﺰﺓ للأﻭﻃﺎﻥ"
عبد الله محمد زين، "أنا أمدرمان أنا السودان"
"من فِتِيح للخور للمَغَالِق
من علاَيل أبروف للمزالق
قَدْلَة يا مولاي خَافِي حَالق
بالطريق الشاقِّيه التّرام"
- خليل فرح، "ما هو عارف قَدَمُه المُفارِق"
لطالما كانت تُعرف أمدرمان بالمدينة الوطنية، كمقام يحتضن كل الخلفيات الإثنية والقبلية والجغرافية والثقافية، برغم الاختلافات الداخلية، السياسية والاقتصادية. تتضارب الآراء بين ممجّدٍ ومُجَرِّم لهذه الهوية الوطنية التي تَحْمِلُها أو التي، ربما، حُمِّلتْ لها. في استعراضنا لتاريخ المدينة الحضري سنتناول الأوضاع والمناخات التي ساهمت في قيام المدينة مستصحبين معنا قضية الهجرة وتأثيرها على النسيج الحضري، باعتبارها من أهم القضايا، وربما الأهم على الإطلاق، التي صنعت أمدرمان اليوم. لن تأتي قضية الهجرة وحدها من دون التطرّق إلى كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت وتأثّرت بها مروراً بكل الحقَب الزمنية التي مرت بأمدرمان.
***
يصطدم الزائر لأمدرمان في مرّتِه الأولى بميزة المكان البائنة، فقد كانت مستندة على الصحراء الغربية القاحلة على مدّ البصر، والنيل واهب الحياة من الجهة الأخرى بحركته البطيئة المتجهة شمالاً إلى المتوسط، بسمائها المتّسعة وأرضِها الحجرية، كل ذلك اجتمع في بهاء الموقع، الذي اختاره المهدي يوماً بنيّة إقامة معسكر، فقط لا غير في حملته ضد الاستعمار التركي-المصري، لكن كل تلك السمات ما كان لها إلا أن تخلق مدينة متكاملة بعبق تاريخي وثقافي.
تاريخ الاستيطان بأمدرمان يعطي دلائل لأهمية الموقع، فالحفريات في منطقة خور ابو عنجة كشفت عن آثار تعود للعصر الحجري القديم، ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة شبه مأهولة وسكنتها جماعات متفرقة عبر الزمن. اما أمدرمان كما نعرفها اليوم ربما بدأت بمحض الصدفة، فلم يكن مبرماً لها باديء الأمر أن تغدو أكثر من معسكر لجيوش المهدية، ولكن بعد تلك البداية لن نتمكّن من القول أن نموّ المدينة وتطورها كان مصادفةً؛ فقد كانت عمليات التخطيط التي تعاقبت على أمدرمان عن قصد ودراية، بما في ذلك الطبيعة العفوية لعمارة المدينة.
محمد أحمد المهدي شخصية مثيرة للاهتمام حتماً وللجدل أيضاً. كان لديه إيمان عميق بنبوءة "المهدي" وكان هذا المحرّك الرئيس لحركته فيما بعد. المهدي اتخذ من النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) قدوةً ونموذجاً يحذو حذوه، ولابد من التوقف عند المقاربة بين شخصية المهدي والنبيّ (ص)، لأن فَهْم هذه العلاقة يفسّر المقاصد التي استند عليها المهدي في رسالته وتكوين دولته. فالمقصد الأكبر للمهدي كان تحرير البلاد والمسلمين السودانيين و"فتح" بلاد أخرى -مثل مصر- تماماً كرسالة الإسلام الأولى. من أكثر القصص إثارة للاهتمام وإحتذاءاً بالنبي (عليه الصلاة والسلام) في تاريخ أمدرمان هي قصة اختيار المهدي لموضع بيته، فقد ترك المهمّة لدابته التي سكنت إلى ذلك المكان، بيته الذي كان حجرة من الطين، ثم اعتلته قبّة بعد وفاته هي قبّة المهدي القابعة إلى يومنا هذا.
خرج الإمام المهدي من الرهد قاصداً الخرطوم في اغسطس ١٨٨٤، وأمر أتباعه بالزحف شرقاً لتحرير العاصمة الخرطوم من المستعمر. استجاب الكثيرون لندائه في هجرة جماعية، وكانت تلك بداية الهجرة إلى أمدرمان. مقام أمدرمان في أنفس المهدي وأنصاره برز في الأسماء التى أطلقت عليها مثل البقعة، البقعة الطاهرة ودار الهجرة، و هذا الأخير نُقِش على العملة التي ضُربت في عهده. إلى جانب ذلك تأتي الغاية العسكرية؛ فهذا المكان العفوي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى معسكر كبير؛ تهافتَ الأنصار له وشيّدوا المساكن بالقش والجلد والشكاب وابتُعِث هذا التجمّع المدني إلى الحياة.
حملات المهدي ضد الاستعمار التركي-المصري في السودان منذ ١٨٨١ توجت بتحرير الخرطوم عاصمة الترك في يناير ١٨٨٥. لكن الإمام المهدي لم يسعفه الوقت وتوفي عقب انتقاله لأمدرمان بقليل، فخلفه عبد الله التعايشي، الذي أسفرت خلافته عن كتابة تاريخ جديد لمدينة أمدرمان، بدايةً من أعلان الخليفة لأمدرمان عاصمةً للدولة المهدية. فكيف نمت المدينة في ذلك الوقت الوجيز لتسع رقعة تزيد عن العشرين ميلاً مربعاً؟
في مايو ١٨٨٥، أمر الخليفة بإجلاء الخرطوم ونقل جميع سكانها إلى أمدرمان، لدحض أي منافسة لعاصمته الجديدة، فدُمّرت منازل الخرطوم ونُقلت مواد البناء الخاصة بها لبناء منازل جديدة لأمدرمان. اجتماع الأقاليم الجغرافية في أمدرمان من بر وبحر صاحبته علاقات مناخية و إثنية و ثقافية شتّى، فأمدرمان في عهد المهدية كانت تضمّ حشداً من كل الجماعات القبلية السودانية، إلى جانب الكثير من المصريين، الهنود، وعرب مكة، السوريين، اليونانيين، الإيطاليين، الأتراك، الأثيوبيين، اليهود، بالإضافة لجماعات أصلها من غرب إفريقيا كالفولانيين والبرنو والبرقو. فاق تعداد سكّان أمدرمان المهدية المئة وخمسين ألف (١٥٠،٠٠٠) نسمة، ويقال إن السكان وصل تعدادهم الأربعمائة الف (٤٠٠،٠٠) نسمة.
سياسات الخليفة التعايشي كانت تقتضي إسكان أكبر عدد ممكن من المجموعات القبلية بالقرب منه، حيث أنه تطلّب قوة عسكرية كبرى في وقت قصير جداً، ليس فقط للغزو وتوسيع دولته ولكن لحماية حدود عاصمته التي كان يحدّق بها الخطر من كل جانب. حول الخليفة أمدرمان إلى مدينة حملت على عاتقها دور الخرطوم السابق، فأضحت المجلس الإداري والبيروقراطي المطلوب لإنجاز مختَلَف المهام الإدارية والعسكرية للدولة.
بدأت أمدرمان بالتشكّل تبعاً لاستراتيجيات الخليفة التعايشي، فكان هو من أخذ القرارات التخطيطية للمدينة، وقام بإحالة تلك القرى المبعثرة -التي كانت في أمدرمان قبلاً- إلى عاصمة دولته. فرضت عملية الوعي التخطيطي هذه خلْق طُرُقات وساحات أمدرمان الرئيسة، موقع السوق، المسجد، الجدران الدفاعية وغيرها. مواد التشييد ايضاً أكدت على هيبة و سيادة الخليفة، فالطوب الأحمر المنتزع من بيوت الأتراك في الخرطوم استخدم، بالاستعانة بمهندسين وفنيين مهرة، في بناء قبة المهدي الشامخة ومجمع بيوت الخليفة. ايضاً، تم احاطة مركز المدينة -الذي به مصالح ودور الدولة، بالإضافة لمنزل الخليفة و حرسه و أهل عصيبته- بسور عظيم من الحجر. لا تزال أجزاء من هذا السور موجودة حتى اليوم حيث استغرق بناءه قرابة عمر الدولة المهدية.
بين عامي ١٨٨٥ إلى ١٨٩٨ برزت مجاورات أمدرمان السكنية تتشكّل في نسَق عربي إسلامي وكانت السمة البارزة بها التمسك بتراث الحوش (الفناء الواسع) في مختلف الفراغات. هذه النشأة أخذت شكل الأنماط العضوية التقليدية كعالم متاهي عسير الفهم، والذي يصفع القادم من خارج المدينة على حين غرّة، فقد قام الخليفة ببناء أمدرمان على نمط شبكي الذي ربما يشبه إلى حد كبير الفراغات الدينية للإسلام الكلاسيكي. فقد أخذت المدينة طبيعة تلقائية يمكن مشاهدتها في النمو غير المنظّم للنسيج السكني المُساق بالأعراف والعادات الاجتماعية، والمباديء البسيطة للعمارة الشعبية.
إن نهج الخليفة السلفي ومحاربته للطرق الصوفية انعكس على العمارة وتجلى بتحريم الزخرفة في المباني باستثناء النصوص القرآنية، فتراث البيت النوبي ذو الواجهات المزخرفة مثلاً لم يجد مساحة في أمدرمان المهدية ذات الثقافة الاحادية بالرغم من تواجد النوبيين في المدينة. وعلى النقيض من مجمع الخليفة المتقدم ذو المواد المتينة، فإن بيوت أمدرمان المهدية اتسم أغلبها بالبساطة، فبيوت القبائل النيلية تم تشييدها بمواد شديدة الهشاشة كالتراب والطين، فلم يتبقى منها الكثير. وبجانب آخر، فإن القبائل الرحل من غرب السودان الذين سكنوا أمدرمان، بطبيعة نمط حياتهم اليومية وتدني ثقافتهم المادية، شيدوا مساكن شبه مؤقتة اندثرت ايضاً مع مرور الزمن.
أمدرمان كانت ذات شوارع ضيقة وأزقّة مُصْمَتة، وتميزت طرقاتها بشخصية منعزلة ممانِعة. كان التنقّل بين البيوت والأحياء يعتمد على حركة المشاة في الأساس، إلى جانب الحمير والخيول والكارِكّات، الأمر الذي انعكس على تخطيطها وتصميمها العضوي.
كان العنصر البنيوي والحضري الرئيس لأمدرمان هو السوق. في الحقيقة إن قيام سوق أمدرمان سانَدَ تعزيز حركة التجارة فيها؛ ففي عهد الخليفة تم تحويل الأسواق الموسمية الصغيرة التي تعتمد على المنتجات الزراعية إلى سوق دائمة. وإلى جانب أنه بات مقصداً لمختلف الجماعات والقبائل السودانية وانضمام مجموعات عديدة من الشمال والجنوب والغرب والشرق، فقد انضم إليه كذلك تجار وحرفيون مهرة من بلدان مجاورة.
قوافل الحج تلك القادمة من بلاد غرب إفريقيا كان لابد لهم من التوقف عند سوق أمدرمان، فغدا هذا خط حركة ثابتاً، وتوافد التجار ايضاً من مصر والهند واستقروا بأمدرمان للعمل في السوق. الحركة النهرية كانت حيّة بسبب كثرة القوارب التي كانت رائجة الصنع في ذلك الوقت، فغدت أمدرمان وجهة لجميع القبائل الساحلية من النيل الأزرق والأبيض ونهر النيل. معظم الطرقات في أمدرمان القديمة، وخصوصاً في القطاع الشمالي الغربي، كانت تؤدي إلى السوق. فيمكننا القول أن سوق أمدرمان كان ركيزة الحركة في المدينة، والنقطة التي تتقاطع بها كل الخطوط المرسومة من كل الاتجاهات.
كان المقِبلون من بلاد غرب أفریقیا یرتحلون شرقًا قاصدین مكة من دون اقتنائهم ما یكفي لتغطیة تكالیف السفر، فقد كانوا یقیمون في أماكن على طول الطریق رغبًة في العمل، وكانوا یعملون لیجنوا نفقات السفر والترحال. أمدرمان واقعٌة على درب رحلتهم إلى الحج، فاستوعبتهم المدينة وحاولت توفير الحماية لهم، إلا أنه كان للدولة المهدية وللخليفة التعايشي ميل لتطويع هؤلاء الرحالة في الجيش.
***
واجهت الدولة المهدية الجديدة الكثير من المعارك مع جهات متعددة، حيث تلقت تهديداتٍ من الحدود المصرية والأثيوبية، إلى جانب العديد من الصراعات الداخلية. و بالتالي لتقوية وزيادة جيوشه ولانعدام ثقته بالقبائل الأخرى التي لم تبارِك خلافته وسيادته أصدر الخليفة التعايشي بياناً يطالب فيه باجتلاب قبيلتي التعايشة والبقارة من دارفور، قسراً، إلى أمدرمان. لكن هذا القرار كان له أثر جسيم على الوضع الاقتصادي و السياسي في أمدرمان وربما في كل البلاد.
الجدير بالذكر أن التعايشة والبقارة هم قبائل رحّل يمتهن أغلبهم الرعي و الزراعة، ولكن قرار الخليفة التعايشي بترحيلهم لأمدرمان غيّر من ذلك؛ فأحالهم الخليفة من فئة منتجة في الدولة إلى جنود صف أول معتمدين في جيشه. لكن في طريقهم عبر كردفان استنفذوا مخزون الذرة نسبة لأعدادهم الكبيرة واعتمادهم على الدولة. أما عند وصولهم إلى أمدرمان فقد غدوا فئة ذات امتيازات نسبة لولائهم للخليفة، فتمّت إعانتهم بكافة أنواع المؤن والغذاء، الامر الذي أدى لاستنزاف مدّخرات الدولة. تزامن ارتحالهم نحو أمدرمان –والذي استمر قرابة العام- مع موسم حصاد متدنٍ جداً لعام ١٨٨٩ نسبة للجفاف في العام السابق، فضربت البلاد واحدة من اسوأ المجاعات في تاريخها، مجاعة سنة ٦ (١٣٠٦هـ/١٨٩٠م).
فشل الدولة المهدية في إغاثة مجاعة سكانها نسبة لنداء الجهاد وعسكرة الدولة، وضعها في مأزق عجزت فيه عن توفير احتياجات السكان جنباً بجنب مع اقتصاد الحرب الذي فُرض على الدولة منذ نشأتها. سياسة الدولة الاقتصادية والمقاطعة مع مصر وتدنّي حركة التجارة كل ذلك قاسَمَ في الشأن، فلم يتبصّر الخليفة في أبعاد سياساته تأثيرها على دولته المتأرجحة اقتصادياً. وكانت لهجرة البقّارة و التعايشة عواقب سياسية واجتماعية؛ فلم يكن لدى الجماعات التي تسكن في أمدرمان، خصوصاً أولاد البحر وآل المهدي الأشراف -الذين كانوا يرون أنهم أحقّ بخلافة المهدي- أيّ سبب يدعوهم إلى التصرّف على وجه حسَن مع القادمين الجدد، فالخليفة لم يُخفِ حتى اعتماده على أقاربه القَبَلِيِّين، وقام باستخدامهم في تهدئة المعارضة من أهل البحر والأشراف، ونظّم قوة مسلحة جديدة وضعضع قادة المعارضة هؤلاء.
***
بالرغم من عمل بعض النساء في السوق وإنشاء قسم مخصص لهن فيه، لكنّنا لا ندري حقاً كيف عاشت النساء حياتهن في أمدرمان ذلك الزمان، فلم يتم التوثيق لهن بشكل كافٍ، فقد كانت للدولة المهدية سياسات تقتضي بمكوثهن في البيوت، حتى أن تلك السياسات ربما انعكست على عمارة السكن في أمدرمان القديمة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن ننظر "للنفّاج"، المعبر الذي يربط بين بيوت عائلات أمدرمان، كعنصر معماري ساعد في تعزيز بقائهن في المنزل وتجنب تواجدهن في الشوارع.
وما يثير الاهتمام حقاً أنه في كثير من الأحيان كانت أمدرمان "مدينة نسائية"، حالما كانت تخلو من الذكور في المعارك، الأمر الذي أنعش دورهن في التجارة والأعمال الحرفية في السوق. كانت أمدرمان خصوصاً بعد معركة كرري الدامية -التي توفي بها اكثر من ١١ الف من جيوش الخليفة- تقريباً تحت حكم نسائي، ولكن غيَّر المستعمر من ذلك لاحقاً واكتفى بالرجال في تعاملاته وسياساته، فلم يكن يعترف بالنساء في مواضع القيادة حتى في بلده الأم. لكن هذا لم يمنعهن من طرْح حراك نسائي فيما بعد، نما وازدهر في أمدرمان بطبيعة الحال.
***
بعد سقوط أمدرمان المهدية على يد الحكم الإنجليزي-المصري في عام ١٨٩٨، عادت معظم القبائل من السكان إلى دُورها، وكان ذلك وفقاً لسياسات المستعمر لتفريغ العاصمة من "الأفواه عديمة الفائدة"، فشهدت كردفان و منطقة الجزيرة انتعاشاً لعودة سكانها، ولنذكّر بأن قدومهم إلى أمدرمان كان في الغالب مرغماً في المقام الأول من قبل الخليفة. البعض أُرغِموا على الرحيل من المدينة بعد معركة كرري، والبعض الآخر استقروا في أمدرمان وجعلوا منها موطناً. أما الخرطوم، عاصمة المستعمر لمرة ثانية، قامت من أنقاضها ولم تستوعب خارطتها الجديدة سكّان وطنيين ماعدا الأطراف الشبه عشوائية، وحقيقةً لم يكن هذا الأمر يؤرّق المستعمر من الأساس.
تخطيط الخرطوم عُني بالنخبة الأجنبية التي استغلت الواجهة البحرية في المواقع الشمالية والوسطى بشوارعها المتقاطعة (في شكل العلم البريطاني)، الأمر الذي سهل السيطرة عليها عسكرياً ضد اي نوع من المقاومة، وتم عزْل السكان الأصليين في مدن الصفيح خارج جسر السكك الحديدية وغابة السنط. صُمّمت الخرطوم كمدينة أوروبية، بينما أمدرمان تم تجاهلها تماماً من قِبل المستعمِر، فأعطاها المجال لكي تنمو بشكل عرَضيّ، لتصبح النموذج البدائي الخارج عن السيطرة الذي يناقض المدينة في تحضّرها، في رؤية المستعمرعلى الأقل. ومن المفارقات أن الإنجليز (والأوروبيون في العموم) أظهروا فيما بعد اهتماماً بأمدرمان لكونِها "مغايِرة وأكثر محليّة"، الشيء الذي يجذب الكثير من المستشرقين على الدوام.
حينما بدأ التفكير في تخطيط أمدرمان التي برغم الهجرات منها ظلت تجمع عدداً مقدّراً من السكان (٤٣ ألفاً في عام ١٩١٠). لم يكن من السهل للمستعمر تنظيم أمدرمان بأزقتها المتاهية التي يضيع بها القادم من خارجها، إلى جانب تمسّك الأمدرمانيين بأراضيهم السكنيّة، مما دفع الإنجليز لأخذ طريقٍ حذر يختلف تماماً عن ذلك في الخرطوم. كانت معظم عمليات تخطيط الإنجليز في أمدرمان مقتصرة على توسعة واعادة تأهيل شبكة الطرق، بالاضافة الى إعادة تخطيط المناطق والأحياء التي لم تكن مأهولة بشكل عظيم او تلك التي دُمرت خلال الغزو. حي الملازمين الذي دمر في معركة كرري تم اعادة تخطيطه وبُنيَ بعد عقودٍ لاحقة.
بعد تعيين البريطاني جيمس برامبل محافظاً لأمدرمان، قام في عام ١٩٢٨ بتحويل بيت الخليفة إلى متحف تاريخي وأُضيفت بعض المَعارض من الحقبة المهدية، حيثما باتت طليعة استحداث الهوية الثقافية لأمدرمان. في تلك الحقبة، عمل الإنجليز على تنويع الأنشطة في أمدرمان حيث تم تقديم الأنشطة الثقافية والتعليمية والصحية والترفيهية مثل المسجد الكبير ومستشفى أمدرمان ومعهد أمدرمان العلمي، وأُنشِيء أيضاً مبنى إذاعة أمدرمان بموقعها الاول بمبانى البوستة (١٩٤٠) وسينما برامبل والسينما الوطنية.
بما أن الخرطوم أُنشئت كمدينة كولونيالية في عهد المستعمر، فإنّ أمدرمان تمّ اتخاذها العاصمة الوطنية، فكانت ملاذاً للوطنيين ولكل من ينشد التمرد على كلّ ما في الخرطوم الكولونيالية. نسبه لذلك قامت بالمدينة في فترة الحكم الثنائي رئاسة مؤتمر الخريجين، إلى جانب معظم رئاسات الأحزاب السياسية الوطنية. بالقرب منها، ازدهر سوق أمدرمان، وتم توسعته وتنظيمه وإعادة تخطيط شبكة طرقاته، وضمّ مقاهي عدّة كجورج مشرقي، وود الآغا، والزئبق، ويوسف الفكي. تلك المقاهي كانت بمثابة قلب المدينة النابض بمنتدياتها الأدبية والفنية واحتضنت الفنانين والشعراء –خصوصاً شعراء ومطربي الحقيبة– وكانت مركزاً لثورة فكرية و سياسية في القرن الماضي تبلورت في الحركة الوطنية.
إن سياسات المستعمر عملت على الحد من هجرات السكان الداخلية، فبعد السودان من الاستعمار ورفع تلك المعيقات للحركة تسارعت الهجرات في الفترات اللاحقة. استمرت أمدرمان في التوسع بعد الاستقلال، وظهرت فيها أحياء حديثة عدة مثل الثورات وأمبدة والصالحة والمهندسين والروضة ومدينة النيل، والتي أصبحت في ذاتها مدناً جديدة بامتداداتها الواسعة. لكن تسارع توسع المدينة في العقود اللاحقة لأسباب عدة، مما أدى لصعوبة مواكبة تخطيط المدينة لهذا التوسع الشاسع.
أسفرَتْ الهجرات الاقتصادية من الريف للحضر نسبة لجاذبية العاصمة عن قدوم آلاف عديدة إلى أمدرمان، لكن التغيير الحقيقي في التعداد السكاني للعاصمة المثلثة كان نسبة لقدوم أعداد ضخمة من النازحين الذين استقروا في الأطراف. هنالك أسباب عدة دفعت المواطنين من جميع انحاء السودان للنزوح للعاصمة، حيث في أوائل الثمانينات، ضربت البلاد سلسلة من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الجفاف والمجاعة في الغرب والشرق، وقد أدى ذلك لنزوح آلاف المشردين داخلياً إلى العاصمة، بمن فيهم ١٢٠ ألف شخص من دارفور وكردفان. في الوقت نفسه، إزاء اشتعال الحرب الاهلية الثانية ما بين ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥، لجأ كثيرون من الهاربين من الحرب إلى الخرطوم وأمدرمان. كما أدى النزاع في دارفور منذ سنة ٢٠٠٣ إلى تدفّق المزيد من النازحين. نسبه لذلك، صنف السودان عالمياً في التسعينات و الالفينات كأكبر دولة تحتوي على نازحين داخلياً، وفي عام ٢٠٠٥ وصل عدد النازحين لذروته بحوالي ٦.١ مليون نازح. بالرغم من انخفاض هذه الأرقام، لا يزال السودان يتصدر قائمة النازحين داخلياً في العالم بحوالي ٢ مليون نازح.
قوبلت تلك الأعداد الهائلة من النازحين الذين قدموا للعاصمة –فيما عُرف "بالحزام الأسود"– بالإنكار والعداء الصريح من قبل الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينيات؛ نُظر إليهم باعتبارهم تهديداً للاستقرار السياسي وعبئاً على الاقتصاد ومصدراً للتوتر الاجتماعي والثقافي، كما انه صعب عليهم الحصول على مأوى وخدمات اجتماعية. أما الرئيس نميري (١٩٦٩-١٩٨٥) فقد وضع سياسة إعادة التوطين القسري (الكَشّة)، عن طريق إلقاء القبض على النازحين عشوائياً وإرجاعهم إكراهاً إلى أماكنهم الأصلية في غرب وجنوب السودان، أو نقلهم إلى مواقع الإنتاج في وسط السودان.
في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، قامت حكومة الإنقاذ (١٩٨٩-٢٠١٩) ببعض المبادرات لمجابهة الفقر والتهميش، وتم دمج أعداد ضخمة من السكان ذوي الدخل المنخفض في الأحياء الشعبية حول الخرطوم؛ إلا أن تلك المبادرات اتّسمَت بعدة مآزِق بسبب عمليات الإخلاء العشوائية وغير الإنسانية المتكررة والتي أثارت شكاوى كثيرة بشأن حقوق الإنسان.
إن معظم النازحين استقرّوا في مساكن غير رسمية (عشوائية) على أطراف المدن. مبادرات التخطيط منذ التسعينيات تمثّلت في إفراد قطع أراضٍ على أطراف المدينة، فكانت ظاهرياً مصمّمة لتخفيف الضغط على مناطق السكن غير النظامي المكتظّة، فهُدّمت مساكنهم من قِبل قوات الأمن، ثم تمّ نقلهم جبراً للمناطق الجديدة التي تُعرف بمخيمات النازحين، مثل مخيميّ دار السلام وود البشير في أمدرمان. الباحثة الحضرية د. هناء معتصم أجرت مقابلات مع النازحين الذين تم إسكانهم في معسكر دار السلام ووجدت ان كثير منهم كانوا يقطنون في منطقة "القماير" في أمدرمان المتواجدة في منتصف المدينة. عندما شيد معسكر دار السلام، قامت الحكومة بازالة منازلهم من دون أن توفر لهم أي تعويضات وأعادت تخطيط "القماير" لقطع درجة اولى وتم إعادة تسميتها لــ(الثورة الحارة السادسة).
النازحون للمدينة هم أكثر مَن يعاني من شح الخدمات وفرص العيش لأن السلطات تعمل على أن يتم وضعهم في الهامش بعيداً عن أعين سكان وسط المدينة. انعكس هذا الواقع المؤلم للمخيمات في أمدرمان على الأسماء التي تُعطى لها من جانب المجتمعات المحليّة التي تعيش فيها. ومن الأمثلة على ذلك مخيم السلام، الذي يشار إليه دائماً باسم "جَبَرونا." سَعَت الحكومة إلى استبدال تلك الأسماء مثل مخيم "زقلونا" والذي يعني "رُمينا خارجاً" والذي تمت إعادة تسميته "للثورة ١٥."
بالرغم من محاولة الحكومة لتمليك النازحين اراضي في العاصمة عبر إنشاء مواقع اعادة الاسكان في "الفتح" على بعد ٤٠ كلم شمال أمدرمان، إلا أن هذه المواقع قللت من جودة معيشتهم نسبة لبعدها الشديد من منتصف المدينة وعدم توفر الخدمات وفرص العيش فيها. تلك العوامل دفعت كثير من النازحين لترك الفتح والنزوح لأماكن أخرى مجدداً.
لابد من النظر لمخيمات النازحين ومواقع اعادة الاسكان وحتى المساكن العشوائية للنازحين بعينٍ ناقدة وكيف تنتقل قضايا الهامش للمدينة، والتوقف عند استيعاب المدينة لهم، فقد أصبحوا جزء لا يتجزأ من تكوين الخرطوم عبر الزمن. لا شك أن التمدّن هو اتجاه عالمي اليوم، ودائماً ما يرتحل الناس للمدن، لكن بالتأكيد يجب على المدن أن تكون قادرة على توقّع واستيعاب هذا النمو خاصة تجاه النازحين قسرياً بدلاً من ان يتم تهميشهم ووضعهم في ظروف تحتم عليهم العيش في حلقة متواصلة من الفقر والنزوح.
***
ان التجانس العرقي والثقافي في أمدرمان الذي خُلق في فترة الاستعمار كان نتاجاً لتجارب مريرة خاضها سكان المدينة، حيث أن أمدرمان المهدية نالت نصيبها من التوترات القبلية التى زعزعت المدينة بين اهل الخليفة التعايشي، اولاد الغرب، واهل المهدي الاشراف واولاد البحر. لكن الاطاحة بالدولة المهدية والهزيمة المؤلمة في كرري وحدا سكان أمدرمان ضد المستعمر، الامر الذي سمح للمدينة بأن تتماسك و يتمازج سكانها. تلك العوامل أدت لإطلاق الحركة الوطنية سعياً إلى التحرر من قبضة المستعمر، وبالتالي تم خلق هوية أمدرمان، ملجأ القوميين.
ولكن إذا كانت أمدرمان تُرى كرمز للتكامل الوطني، وهي التي شكّلت الشخصية الوطنية السودانية من خلال حركة الثقافة المهيمنة التي ابتدأت منذ الحقبة الكولونيالية، فإن بعض الآراء المعارِضة تحسَب أن هذا الأمر ليس دقيقاً، ومضلّل في الواقع، لأن ثقافة أمدرمان همّشت واستبعدت ثقافات جماعات وأفراد آخرين بحجة انهم غير أمدرمانيين. فالبعض يرى أن الهجرات العديدة في الثمانينيات كانت بداية فقدان صورة تلك "الهوية الوطنية." في الحقيقة هذا يبعث على التساؤل عن هذه الصورة؛ هل قامت بعكس التكامل الوطني الذي تفرضه على المستوى الكلي للسودان؟ يقول بروفيسور إدريس سالم أن الأمدرمانيين سيقولون نعم، لأن صورة أمدرمان "كسودان مصغّر" ما هي إلا في أذهانهم فقط.
إن تلك الهوية القومية لأمدرمان بالتأكيد تُختبر منذ الثمانينيات وما بعدها. "انا أمدرمان انا السودان" صار لها معانٍ أخرى، فالسودان منذ استقلاله لم يشهد أي نوع من الاستقرار في جميع أنحائه التي هُمشت لصالح تنمية المركز. النازحون قدموا من تلك المناطق المهمشة حاملين مظالمهم و زعزعوا استقرار الخرطوم -وبالتالي أمدرمان- وصورتها المنفصلة عن الواقع. بالاحرى، ان صورة أمدرمان كسودان مصغر لم تمثل الواقع الا بعد ان ضمت أشخاصاً من جميع أنحاء البلاد بعد ان تم اقصائهم مجدداً لهامش المدينة في ظل رفض اجتماعي من الأمدرمانيين القدامى.
في مواجهة هذا التحدي الجديد للهوية الأمدرمانية، لا يوجد عدو مشترك يوحد بين سكان أمدرمان، فقد أصبح العدو أحدهما الآخر تماماً مثلما كان الوضع في المهدية. بالحتم، لا يوجد شك أن الحل الأمثل لمسألة النزوح هو إيجاد حل جذري لدوافع النزوح في السودان، لكن تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي الحالي يولد صعوبة حقيقية تحول دون الوصول لهذا الحل الجذري في المستقبل القريب. في خضم هذه التعقيدات، ربما الخيار المتاح هو معالجة مشاكل النازحين على مستوى المدينة، على الأقل بتغيير سياسات الدولة الاقصائية تجاههم. أمدرمان الآن امام فرصة فريدة من نوعها، إذ أن صورتها كسودان مصغر لها القدرة أن تستخدم كمثال واقعي للتغيير والوصول للتماسك الاجتماعي بدلاً من أن يتم استخدام صورتها لتمييز أُناسٍ فوق بعضهم. فاذا استطاعت أمدرمان ان تخلق مساواة حقيقية في كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لجميع سكانها في المستقبل، ربما سيشكل ذلك معبراً لإيجاد حلول حقيقية على أرض الواقع للمشاكل التي تقسم السودان منذ استقلاله.
"أﻧﺎ أﻣﺪﺭﻣﺎﻥ أﻧﺎ ﺍلأﻣﺔ
ﻭﺻﻮﺕ ﺍلأﻣﺔ ﻭاﺣﺴﺎﺳا
أﻧﺎ ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﺑَﻲ ﺗﻢَّ
ﻭأﻧﺎ ﺍﻟﻠّﻤﻴﺖ ﺷَﺘَﺎﺕ ﻧَﺎﺳَﺎ
ﻣَﺰَﺟﺖ ﺷﻤَﺎﻻَ ﺑﺠَﻨُﻮﺑَﺎ
ﻭﺳَﻜَﺒْﺖ ﺷُﺮُﻭﻗَﺎ ﻓﻲ ﻏُﺮُﻭﺑَا
ﻭﺯَرَﻋْﺖَ ﺍﻟﻄّﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺩْﺭُﻭﺑَﺎ
ﻭﻃَﺎﺑَﺖ ﻋِﺰﺓ للأﻭﻃﺎﻥ"
عبد الله محمد زين، "أنا أمدرمان أنا السودان"
"من فِتِيح للخور للمَغَالِق
من علاَيل أبروف للمزالق
قَدْلَة يا مولاي خَافِي حَالق
بالطريق الشاقِّيه التّرام"
- خليل فرح، "ما هو عارف قَدَمُه المُفارِق"
لطالما كانت تُعرف أمدرمان بالمدينة الوطنية، كمقام يحتضن كل الخلفيات الإثنية والقبلية والجغرافية والثقافية، برغم الاختلافات الداخلية، السياسية والاقتصادية. تتضارب الآراء بين ممجّدٍ ومُجَرِّم لهذه الهوية الوطنية التي تَحْمِلُها أو التي، ربما، حُمِّلتْ لها. في استعراضنا لتاريخ المدينة الحضري سنتناول الأوضاع والمناخات التي ساهمت في قيام المدينة مستصحبين معنا قضية الهجرة وتأثيرها على النسيج الحضري، باعتبارها من أهم القضايا، وربما الأهم على الإطلاق، التي صنعت أمدرمان اليوم. لن تأتي قضية الهجرة وحدها من دون التطرّق إلى كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت وتأثّرت بها مروراً بكل الحقَب الزمنية التي مرت بأمدرمان.
***
يصطدم الزائر لأمدرمان في مرّتِه الأولى بميزة المكان البائنة، فقد كانت مستندة على الصحراء الغربية القاحلة على مدّ البصر، والنيل واهب الحياة من الجهة الأخرى بحركته البطيئة المتجهة شمالاً إلى المتوسط، بسمائها المتّسعة وأرضِها الحجرية، كل ذلك اجتمع في بهاء الموقع، الذي اختاره المهدي يوماً بنيّة إقامة معسكر، فقط لا غير في حملته ضد الاستعمار التركي-المصري، لكن كل تلك السمات ما كان لها إلا أن تخلق مدينة متكاملة بعبق تاريخي وثقافي.
تاريخ الاستيطان بأمدرمان يعطي دلائل لأهمية الموقع، فالحفريات في منطقة خور ابو عنجة كشفت عن آثار تعود للعصر الحجري القديم، ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة شبه مأهولة وسكنتها جماعات متفرقة عبر الزمن. اما أمدرمان كما نعرفها اليوم ربما بدأت بمحض الصدفة، فلم يكن مبرماً لها باديء الأمر أن تغدو أكثر من معسكر لجيوش المهدية، ولكن بعد تلك البداية لن نتمكّن من القول أن نموّ المدينة وتطورها كان مصادفةً؛ فقد كانت عمليات التخطيط التي تعاقبت على أمدرمان عن قصد ودراية، بما في ذلك الطبيعة العفوية لعمارة المدينة.
محمد أحمد المهدي شخصية مثيرة للاهتمام حتماً وللجدل أيضاً. كان لديه إيمان عميق بنبوءة "المهدي" وكان هذا المحرّك الرئيس لحركته فيما بعد. المهدي اتخذ من النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) قدوةً ونموذجاً يحذو حذوه، ولابد من التوقف عند المقاربة بين شخصية المهدي والنبيّ (ص)، لأن فَهْم هذه العلاقة يفسّر المقاصد التي استند عليها المهدي في رسالته وتكوين دولته. فالمقصد الأكبر للمهدي كان تحرير البلاد والمسلمين السودانيين و"فتح" بلاد أخرى -مثل مصر- تماماً كرسالة الإسلام الأولى. من أكثر القصص إثارة للاهتمام وإحتذاءاً بالنبي (عليه الصلاة والسلام) في تاريخ أمدرمان هي قصة اختيار المهدي لموضع بيته، فقد ترك المهمّة لدابته التي سكنت إلى ذلك المكان، بيته الذي كان حجرة من الطين، ثم اعتلته قبّة بعد وفاته هي قبّة المهدي القابعة إلى يومنا هذا.
خرج الإمام المهدي من الرهد قاصداً الخرطوم في اغسطس ١٨٨٤، وأمر أتباعه بالزحف شرقاً لتحرير العاصمة الخرطوم من المستعمر. استجاب الكثيرون لندائه في هجرة جماعية، وكانت تلك بداية الهجرة إلى أمدرمان. مقام أمدرمان في أنفس المهدي وأنصاره برز في الأسماء التى أطلقت عليها مثل البقعة، البقعة الطاهرة ودار الهجرة، و هذا الأخير نُقِش على العملة التي ضُربت في عهده. إلى جانب ذلك تأتي الغاية العسكرية؛ فهذا المكان العفوي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى معسكر كبير؛ تهافتَ الأنصار له وشيّدوا المساكن بالقش والجلد والشكاب وابتُعِث هذا التجمّع المدني إلى الحياة.
حملات المهدي ضد الاستعمار التركي-المصري في السودان منذ ١٨٨١ توجت بتحرير الخرطوم عاصمة الترك في يناير ١٨٨٥. لكن الإمام المهدي لم يسعفه الوقت وتوفي عقب انتقاله لأمدرمان بقليل، فخلفه عبد الله التعايشي، الذي أسفرت خلافته عن كتابة تاريخ جديد لمدينة أمدرمان، بدايةً من أعلان الخليفة لأمدرمان عاصمةً للدولة المهدية. فكيف نمت المدينة في ذلك الوقت الوجيز لتسع رقعة تزيد عن العشرين ميلاً مربعاً؟
في مايو ١٨٨٥، أمر الخليفة بإجلاء الخرطوم ونقل جميع سكانها إلى أمدرمان، لدحض أي منافسة لعاصمته الجديدة، فدُمّرت منازل الخرطوم ونُقلت مواد البناء الخاصة بها لبناء منازل جديدة لأمدرمان. اجتماع الأقاليم الجغرافية في أمدرمان من بر وبحر صاحبته علاقات مناخية و إثنية و ثقافية شتّى، فأمدرمان في عهد المهدية كانت تضمّ حشداً من كل الجماعات القبلية السودانية، إلى جانب الكثير من المصريين، الهنود، وعرب مكة، السوريين، اليونانيين، الإيطاليين، الأتراك، الأثيوبيين، اليهود، بالإضافة لجماعات أصلها من غرب إفريقيا كالفولانيين والبرنو والبرقو. فاق تعداد سكّان أمدرمان المهدية المئة وخمسين ألف (١٥٠،٠٠٠) نسمة، ويقال إن السكان وصل تعدادهم الأربعمائة الف (٤٠٠،٠٠) نسمة.
سياسات الخليفة التعايشي كانت تقتضي إسكان أكبر عدد ممكن من المجموعات القبلية بالقرب منه، حيث أنه تطلّب قوة عسكرية كبرى في وقت قصير جداً، ليس فقط للغزو وتوسيع دولته ولكن لحماية حدود عاصمته التي كان يحدّق بها الخطر من كل جانب. حول الخليفة أمدرمان إلى مدينة حملت على عاتقها دور الخرطوم السابق، فأضحت المجلس الإداري والبيروقراطي المطلوب لإنجاز مختَلَف المهام الإدارية والعسكرية للدولة.
بدأت أمدرمان بالتشكّل تبعاً لاستراتيجيات الخليفة التعايشي، فكان هو من أخذ القرارات التخطيطية للمدينة، وقام بإحالة تلك القرى المبعثرة -التي كانت في أمدرمان قبلاً- إلى عاصمة دولته. فرضت عملية الوعي التخطيطي هذه خلْق طُرُقات وساحات أمدرمان الرئيسة، موقع السوق، المسجد، الجدران الدفاعية وغيرها. مواد التشييد ايضاً أكدت على هيبة و سيادة الخليفة، فالطوب الأحمر المنتزع من بيوت الأتراك في الخرطوم استخدم، بالاستعانة بمهندسين وفنيين مهرة، في بناء قبة المهدي الشامخة ومجمع بيوت الخليفة. ايضاً، تم احاطة مركز المدينة -الذي به مصالح ودور الدولة، بالإضافة لمنزل الخليفة و حرسه و أهل عصيبته- بسور عظيم من الحجر. لا تزال أجزاء من هذا السور موجودة حتى اليوم حيث استغرق بناءه قرابة عمر الدولة المهدية.
بين عامي ١٨٨٥ إلى ١٨٩٨ برزت مجاورات أمدرمان السكنية تتشكّل في نسَق عربي إسلامي وكانت السمة البارزة بها التمسك بتراث الحوش (الفناء الواسع) في مختلف الفراغات. هذه النشأة أخذت شكل الأنماط العضوية التقليدية كعالم متاهي عسير الفهم، والذي يصفع القادم من خارج المدينة على حين غرّة، فقد قام الخليفة ببناء أمدرمان على نمط شبكي الذي ربما يشبه إلى حد كبير الفراغات الدينية للإسلام الكلاسيكي. فقد أخذت المدينة طبيعة تلقائية يمكن مشاهدتها في النمو غير المنظّم للنسيج السكني المُساق بالأعراف والعادات الاجتماعية، والمباديء البسيطة للعمارة الشعبية.
إن نهج الخليفة السلفي ومحاربته للطرق الصوفية انعكس على العمارة وتجلى بتحريم الزخرفة في المباني باستثناء النصوص القرآنية، فتراث البيت النوبي ذو الواجهات المزخرفة مثلاً لم يجد مساحة في أمدرمان المهدية ذات الثقافة الاحادية بالرغم من تواجد النوبيين في المدينة. وعلى النقيض من مجمع الخليفة المتقدم ذو المواد المتينة، فإن بيوت أمدرمان المهدية اتسم أغلبها بالبساطة، فبيوت القبائل النيلية تم تشييدها بمواد شديدة الهشاشة كالتراب والطين، فلم يتبقى منها الكثير. وبجانب آخر، فإن القبائل الرحل من غرب السودان الذين سكنوا أمدرمان، بطبيعة نمط حياتهم اليومية وتدني ثقافتهم المادية، شيدوا مساكن شبه مؤقتة اندثرت ايضاً مع مرور الزمن.
أمدرمان كانت ذات شوارع ضيقة وأزقّة مُصْمَتة، وتميزت طرقاتها بشخصية منعزلة ممانِعة. كان التنقّل بين البيوت والأحياء يعتمد على حركة المشاة في الأساس، إلى جانب الحمير والخيول والكارِكّات، الأمر الذي انعكس على تخطيطها وتصميمها العضوي.
كان العنصر البنيوي والحضري الرئيس لأمدرمان هو السوق. في الحقيقة إن قيام سوق أمدرمان سانَدَ تعزيز حركة التجارة فيها؛ ففي عهد الخليفة تم تحويل الأسواق الموسمية الصغيرة التي تعتمد على المنتجات الزراعية إلى سوق دائمة. وإلى جانب أنه بات مقصداً لمختلف الجماعات والقبائل السودانية وانضمام مجموعات عديدة من الشمال والجنوب والغرب والشرق، فقد انضم إليه كذلك تجار وحرفيون مهرة من بلدان مجاورة.
قوافل الحج تلك القادمة من بلاد غرب إفريقيا كان لابد لهم من التوقف عند سوق أمدرمان، فغدا هذا خط حركة ثابتاً، وتوافد التجار ايضاً من مصر والهند واستقروا بأمدرمان للعمل في السوق. الحركة النهرية كانت حيّة بسبب كثرة القوارب التي كانت رائجة الصنع في ذلك الوقت، فغدت أمدرمان وجهة لجميع القبائل الساحلية من النيل الأزرق والأبيض ونهر النيل. معظم الطرقات في أمدرمان القديمة، وخصوصاً في القطاع الشمالي الغربي، كانت تؤدي إلى السوق. فيمكننا القول أن سوق أمدرمان كان ركيزة الحركة في المدينة، والنقطة التي تتقاطع بها كل الخطوط المرسومة من كل الاتجاهات.
كان المقِبلون من بلاد غرب أفریقیا یرتحلون شرقًا قاصدین مكة من دون اقتنائهم ما یكفي لتغطیة تكالیف السفر، فقد كانوا یقیمون في أماكن على طول الطریق رغبًة في العمل، وكانوا یعملون لیجنوا نفقات السفر والترحال. أمدرمان واقعٌة على درب رحلتهم إلى الحج، فاستوعبتهم المدينة وحاولت توفير الحماية لهم، إلا أنه كان للدولة المهدية وللخليفة التعايشي ميل لتطويع هؤلاء الرحالة في الجيش.
***
واجهت الدولة المهدية الجديدة الكثير من المعارك مع جهات متعددة، حيث تلقت تهديداتٍ من الحدود المصرية والأثيوبية، إلى جانب العديد من الصراعات الداخلية. و بالتالي لتقوية وزيادة جيوشه ولانعدام ثقته بالقبائل الأخرى التي لم تبارِك خلافته وسيادته أصدر الخليفة التعايشي بياناً يطالب فيه باجتلاب قبيلتي التعايشة والبقارة من دارفور، قسراً، إلى أمدرمان. لكن هذا القرار كان له أثر جسيم على الوضع الاقتصادي و السياسي في أمدرمان وربما في كل البلاد.
الجدير بالذكر أن التعايشة والبقارة هم قبائل رحّل يمتهن أغلبهم الرعي و الزراعة، ولكن قرار الخليفة التعايشي بترحيلهم لأمدرمان غيّر من ذلك؛ فأحالهم الخليفة من فئة منتجة في الدولة إلى جنود صف أول معتمدين في جيشه. لكن في طريقهم عبر كردفان استنفذوا مخزون الذرة نسبة لأعدادهم الكبيرة واعتمادهم على الدولة. أما عند وصولهم إلى أمدرمان فقد غدوا فئة ذات امتيازات نسبة لولائهم للخليفة، فتمّت إعانتهم بكافة أنواع المؤن والغذاء، الامر الذي أدى لاستنزاف مدّخرات الدولة. تزامن ارتحالهم نحو أمدرمان –والذي استمر قرابة العام- مع موسم حصاد متدنٍ جداً لعام ١٨٨٩ نسبة للجفاف في العام السابق، فضربت البلاد واحدة من اسوأ المجاعات في تاريخها، مجاعة سنة ٦ (١٣٠٦هـ/١٨٩٠م).
فشل الدولة المهدية في إغاثة مجاعة سكانها نسبة لنداء الجهاد وعسكرة الدولة، وضعها في مأزق عجزت فيه عن توفير احتياجات السكان جنباً بجنب مع اقتصاد الحرب الذي فُرض على الدولة منذ نشأتها. سياسة الدولة الاقتصادية والمقاطعة مع مصر وتدنّي حركة التجارة كل ذلك قاسَمَ في الشأن، فلم يتبصّر الخليفة في أبعاد سياساته تأثيرها على دولته المتأرجحة اقتصادياً. وكانت لهجرة البقّارة و التعايشة عواقب سياسية واجتماعية؛ فلم يكن لدى الجماعات التي تسكن في أمدرمان، خصوصاً أولاد البحر وآل المهدي الأشراف -الذين كانوا يرون أنهم أحقّ بخلافة المهدي- أيّ سبب يدعوهم إلى التصرّف على وجه حسَن مع القادمين الجدد، فالخليفة لم يُخفِ حتى اعتماده على أقاربه القَبَلِيِّين، وقام باستخدامهم في تهدئة المعارضة من أهل البحر والأشراف، ونظّم قوة مسلحة جديدة وضعضع قادة المعارضة هؤلاء.
***
بالرغم من عمل بعض النساء في السوق وإنشاء قسم مخصص لهن فيه، لكنّنا لا ندري حقاً كيف عاشت النساء حياتهن في أمدرمان ذلك الزمان، فلم يتم التوثيق لهن بشكل كافٍ، فقد كانت للدولة المهدية سياسات تقتضي بمكوثهن في البيوت، حتى أن تلك السياسات ربما انعكست على عمارة السكن في أمدرمان القديمة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن ننظر "للنفّاج"، المعبر الذي يربط بين بيوت عائلات أمدرمان، كعنصر معماري ساعد في تعزيز بقائهن في المنزل وتجنب تواجدهن في الشوارع.
وما يثير الاهتمام حقاً أنه في كثير من الأحيان كانت أمدرمان "مدينة نسائية"، حالما كانت تخلو من الذكور في المعارك، الأمر الذي أنعش دورهن في التجارة والأعمال الحرفية في السوق. كانت أمدرمان خصوصاً بعد معركة كرري الدامية -التي توفي بها اكثر من ١١ الف من جيوش الخليفة- تقريباً تحت حكم نسائي، ولكن غيَّر المستعمر من ذلك لاحقاً واكتفى بالرجال في تعاملاته وسياساته، فلم يكن يعترف بالنساء في مواضع القيادة حتى في بلده الأم. لكن هذا لم يمنعهن من طرْح حراك نسائي فيما بعد، نما وازدهر في أمدرمان بطبيعة الحال.
***
بعد سقوط أمدرمان المهدية على يد الحكم الإنجليزي-المصري في عام ١٨٩٨، عادت معظم القبائل من السكان إلى دُورها، وكان ذلك وفقاً لسياسات المستعمر لتفريغ العاصمة من "الأفواه عديمة الفائدة"، فشهدت كردفان و منطقة الجزيرة انتعاشاً لعودة سكانها، ولنذكّر بأن قدومهم إلى أمدرمان كان في الغالب مرغماً في المقام الأول من قبل الخليفة. البعض أُرغِموا على الرحيل من المدينة بعد معركة كرري، والبعض الآخر استقروا في أمدرمان وجعلوا منها موطناً. أما الخرطوم، عاصمة المستعمر لمرة ثانية، قامت من أنقاضها ولم تستوعب خارطتها الجديدة سكّان وطنيين ماعدا الأطراف الشبه عشوائية، وحقيقةً لم يكن هذا الأمر يؤرّق المستعمر من الأساس.
تخطيط الخرطوم عُني بالنخبة الأجنبية التي استغلت الواجهة البحرية في المواقع الشمالية والوسطى بشوارعها المتقاطعة (في شكل العلم البريطاني)، الأمر الذي سهل السيطرة عليها عسكرياً ضد اي نوع من المقاومة، وتم عزْل السكان الأصليين في مدن الصفيح خارج جسر السكك الحديدية وغابة السنط. صُمّمت الخرطوم كمدينة أوروبية، بينما أمدرمان تم تجاهلها تماماً من قِبل المستعمِر، فأعطاها المجال لكي تنمو بشكل عرَضيّ، لتصبح النموذج البدائي الخارج عن السيطرة الذي يناقض المدينة في تحضّرها، في رؤية المستعمرعلى الأقل. ومن المفارقات أن الإنجليز (والأوروبيون في العموم) أظهروا فيما بعد اهتماماً بأمدرمان لكونِها "مغايِرة وأكثر محليّة"، الشيء الذي يجذب الكثير من المستشرقين على الدوام.
حينما بدأ التفكير في تخطيط أمدرمان التي برغم الهجرات منها ظلت تجمع عدداً مقدّراً من السكان (٤٣ ألفاً في عام ١٩١٠). لم يكن من السهل للمستعمر تنظيم أمدرمان بأزقتها المتاهية التي يضيع بها القادم من خارجها، إلى جانب تمسّك الأمدرمانيين بأراضيهم السكنيّة، مما دفع الإنجليز لأخذ طريقٍ حذر يختلف تماماً عن ذلك في الخرطوم. كانت معظم عمليات تخطيط الإنجليز في أمدرمان مقتصرة على توسعة واعادة تأهيل شبكة الطرق، بالاضافة الى إعادة تخطيط المناطق والأحياء التي لم تكن مأهولة بشكل عظيم او تلك التي دُمرت خلال الغزو. حي الملازمين الذي دمر في معركة كرري تم اعادة تخطيطه وبُنيَ بعد عقودٍ لاحقة.
بعد تعيين البريطاني جيمس برامبل محافظاً لأمدرمان، قام في عام ١٩٢٨ بتحويل بيت الخليفة إلى متحف تاريخي وأُضيفت بعض المَعارض من الحقبة المهدية، حيثما باتت طليعة استحداث الهوية الثقافية لأمدرمان. في تلك الحقبة، عمل الإنجليز على تنويع الأنشطة في أمدرمان حيث تم تقديم الأنشطة الثقافية والتعليمية والصحية والترفيهية مثل المسجد الكبير ومستشفى أمدرمان ومعهد أمدرمان العلمي، وأُنشِيء أيضاً مبنى إذاعة أمدرمان بموقعها الاول بمبانى البوستة (١٩٤٠) وسينما برامبل والسينما الوطنية.
بما أن الخرطوم أُنشئت كمدينة كولونيالية في عهد المستعمر، فإنّ أمدرمان تمّ اتخاذها العاصمة الوطنية، فكانت ملاذاً للوطنيين ولكل من ينشد التمرد على كلّ ما في الخرطوم الكولونيالية. نسبه لذلك قامت بالمدينة في فترة الحكم الثنائي رئاسة مؤتمر الخريجين، إلى جانب معظم رئاسات الأحزاب السياسية الوطنية. بالقرب منها، ازدهر سوق أمدرمان، وتم توسعته وتنظيمه وإعادة تخطيط شبكة طرقاته، وضمّ مقاهي عدّة كجورج مشرقي، وود الآغا، والزئبق، ويوسف الفكي. تلك المقاهي كانت بمثابة قلب المدينة النابض بمنتدياتها الأدبية والفنية واحتضنت الفنانين والشعراء –خصوصاً شعراء ومطربي الحقيبة– وكانت مركزاً لثورة فكرية و سياسية في القرن الماضي تبلورت في الحركة الوطنية.
إن سياسات المستعمر عملت على الحد من هجرات السكان الداخلية، فبعد السودان من الاستعمار ورفع تلك المعيقات للحركة تسارعت الهجرات في الفترات اللاحقة. استمرت أمدرمان في التوسع بعد الاستقلال، وظهرت فيها أحياء حديثة عدة مثل الثورات وأمبدة والصالحة والمهندسين والروضة ومدينة النيل، والتي أصبحت في ذاتها مدناً جديدة بامتداداتها الواسعة. لكن تسارع توسع المدينة في العقود اللاحقة لأسباب عدة، مما أدى لصعوبة مواكبة تخطيط المدينة لهذا التوسع الشاسع.
أسفرَتْ الهجرات الاقتصادية من الريف للحضر نسبة لجاذبية العاصمة عن قدوم آلاف عديدة إلى أمدرمان، لكن التغيير الحقيقي في التعداد السكاني للعاصمة المثلثة كان نسبة لقدوم أعداد ضخمة من النازحين الذين استقروا في الأطراف. هنالك أسباب عدة دفعت المواطنين من جميع انحاء السودان للنزوح للعاصمة، حيث في أوائل الثمانينات، ضربت البلاد سلسلة من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الجفاف والمجاعة في الغرب والشرق، وقد أدى ذلك لنزوح آلاف المشردين داخلياً إلى العاصمة، بمن فيهم ١٢٠ ألف شخص من دارفور وكردفان. في الوقت نفسه، إزاء اشتعال الحرب الاهلية الثانية ما بين ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥، لجأ كثيرون من الهاربين من الحرب إلى الخرطوم وأمدرمان. كما أدى النزاع في دارفور منذ سنة ٢٠٠٣ إلى تدفّق المزيد من النازحين. نسبه لذلك، صنف السودان عالمياً في التسعينات و الالفينات كأكبر دولة تحتوي على نازحين داخلياً، وفي عام ٢٠٠٥ وصل عدد النازحين لذروته بحوالي ٦.١ مليون نازح. بالرغم من انخفاض هذه الأرقام، لا يزال السودان يتصدر قائمة النازحين داخلياً في العالم بحوالي ٢ مليون نازح.
قوبلت تلك الأعداد الهائلة من النازحين الذين قدموا للعاصمة –فيما عُرف "بالحزام الأسود"– بالإنكار والعداء الصريح من قبل الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينيات؛ نُظر إليهم باعتبارهم تهديداً للاستقرار السياسي وعبئاً على الاقتصاد ومصدراً للتوتر الاجتماعي والثقافي، كما انه صعب عليهم الحصول على مأوى وخدمات اجتماعية. أما الرئيس نميري (١٩٦٩-١٩٨٥) فقد وضع سياسة إعادة التوطين القسري (الكَشّة)، عن طريق إلقاء القبض على النازحين عشوائياً وإرجاعهم إكراهاً إلى أماكنهم الأصلية في غرب وجنوب السودان، أو نقلهم إلى مواقع الإنتاج في وسط السودان.
في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، قامت حكومة الإنقاذ (١٩٨٩-٢٠١٩) ببعض المبادرات لمجابهة الفقر والتهميش، وتم دمج أعداد ضخمة من السكان ذوي الدخل المنخفض في الأحياء الشعبية حول الخرطوم؛ إلا أن تلك المبادرات اتّسمَت بعدة مآزِق بسبب عمليات الإخلاء العشوائية وغير الإنسانية المتكررة والتي أثارت شكاوى كثيرة بشأن حقوق الإنسان.
إن معظم النازحين استقرّوا في مساكن غير رسمية (عشوائية) على أطراف المدن. مبادرات التخطيط منذ التسعينيات تمثّلت في إفراد قطع أراضٍ على أطراف المدينة، فكانت ظاهرياً مصمّمة لتخفيف الضغط على مناطق السكن غير النظامي المكتظّة، فهُدّمت مساكنهم من قِبل قوات الأمن، ثم تمّ نقلهم جبراً للمناطق الجديدة التي تُعرف بمخيمات النازحين، مثل مخيميّ دار السلام وود البشير في أمدرمان. الباحثة الحضرية د. هناء معتصم أجرت مقابلات مع النازحين الذين تم إسكانهم في معسكر دار السلام ووجدت ان كثير منهم كانوا يقطنون في منطقة "القماير" في أمدرمان المتواجدة في منتصف المدينة. عندما شيد معسكر دار السلام، قامت الحكومة بازالة منازلهم من دون أن توفر لهم أي تعويضات وأعادت تخطيط "القماير" لقطع درجة اولى وتم إعادة تسميتها لــ(الثورة الحارة السادسة).
النازحون للمدينة هم أكثر مَن يعاني من شح الخدمات وفرص العيش لأن السلطات تعمل على أن يتم وضعهم في الهامش بعيداً عن أعين سكان وسط المدينة. انعكس هذا الواقع المؤلم للمخيمات في أمدرمان على الأسماء التي تُعطى لها من جانب المجتمعات المحليّة التي تعيش فيها. ومن الأمثلة على ذلك مخيم السلام، الذي يشار إليه دائماً باسم "جَبَرونا." سَعَت الحكومة إلى استبدال تلك الأسماء مثل مخيم "زقلونا" والذي يعني "رُمينا خارجاً" والذي تمت إعادة تسميته "للثورة ١٥."
بالرغم من محاولة الحكومة لتمليك النازحين اراضي في العاصمة عبر إنشاء مواقع اعادة الاسكان في "الفتح" على بعد ٤٠ كلم شمال أمدرمان، إلا أن هذه المواقع قللت من جودة معيشتهم نسبة لبعدها الشديد من منتصف المدينة وعدم توفر الخدمات وفرص العيش فيها. تلك العوامل دفعت كثير من النازحين لترك الفتح والنزوح لأماكن أخرى مجدداً.
لابد من النظر لمخيمات النازحين ومواقع اعادة الاسكان وحتى المساكن العشوائية للنازحين بعينٍ ناقدة وكيف تنتقل قضايا الهامش للمدينة، والتوقف عند استيعاب المدينة لهم، فقد أصبحوا جزء لا يتجزأ من تكوين الخرطوم عبر الزمن. لا شك أن التمدّن هو اتجاه عالمي اليوم، ودائماً ما يرتحل الناس للمدن، لكن بالتأكيد يجب على المدن أن تكون قادرة على توقّع واستيعاب هذا النمو خاصة تجاه النازحين قسرياً بدلاً من ان يتم تهميشهم ووضعهم في ظروف تحتم عليهم العيش في حلقة متواصلة من الفقر والنزوح.
***
ان التجانس العرقي والثقافي في أمدرمان الذي خُلق في فترة الاستعمار كان نتاجاً لتجارب مريرة خاضها سكان المدينة، حيث أن أمدرمان المهدية نالت نصيبها من التوترات القبلية التى زعزعت المدينة بين اهل الخليفة التعايشي، اولاد الغرب، واهل المهدي الاشراف واولاد البحر. لكن الاطاحة بالدولة المهدية والهزيمة المؤلمة في كرري وحدا سكان أمدرمان ضد المستعمر، الامر الذي سمح للمدينة بأن تتماسك و يتمازج سكانها. تلك العوامل أدت لإطلاق الحركة الوطنية سعياً إلى التحرر من قبضة المستعمر، وبالتالي تم خلق هوية أمدرمان، ملجأ القوميين.
ولكن إذا كانت أمدرمان تُرى كرمز للتكامل الوطني، وهي التي شكّلت الشخصية الوطنية السودانية من خلال حركة الثقافة المهيمنة التي ابتدأت منذ الحقبة الكولونيالية، فإن بعض الآراء المعارِضة تحسَب أن هذا الأمر ليس دقيقاً، ومضلّل في الواقع، لأن ثقافة أمدرمان همّشت واستبعدت ثقافات جماعات وأفراد آخرين بحجة انهم غير أمدرمانيين. فالبعض يرى أن الهجرات العديدة في الثمانينيات كانت بداية فقدان صورة تلك "الهوية الوطنية." في الحقيقة هذا يبعث على التساؤل عن هذه الصورة؛ هل قامت بعكس التكامل الوطني الذي تفرضه على المستوى الكلي للسودان؟ يقول بروفيسور إدريس سالم أن الأمدرمانيين سيقولون نعم، لأن صورة أمدرمان "كسودان مصغّر" ما هي إلا في أذهانهم فقط.
إن تلك الهوية القومية لأمدرمان بالتأكيد تُختبر منذ الثمانينيات وما بعدها. "انا أمدرمان انا السودان" صار لها معانٍ أخرى، فالسودان منذ استقلاله لم يشهد أي نوع من الاستقرار في جميع أنحائه التي هُمشت لصالح تنمية المركز. النازحون قدموا من تلك المناطق المهمشة حاملين مظالمهم و زعزعوا استقرار الخرطوم -وبالتالي أمدرمان- وصورتها المنفصلة عن الواقع. بالاحرى، ان صورة أمدرمان كسودان مصغر لم تمثل الواقع الا بعد ان ضمت أشخاصاً من جميع أنحاء البلاد بعد ان تم اقصائهم مجدداً لهامش المدينة في ظل رفض اجتماعي من الأمدرمانيين القدامى.
في مواجهة هذا التحدي الجديد للهوية الأمدرمانية، لا يوجد عدو مشترك يوحد بين سكان أمدرمان، فقد أصبح العدو أحدهما الآخر تماماً مثلما كان الوضع في المهدية. بالحتم، لا يوجد شك أن الحل الأمثل لمسألة النزوح هو إيجاد حل جذري لدوافع النزوح في السودان، لكن تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي الحالي يولد صعوبة حقيقية تحول دون الوصول لهذا الحل الجذري في المستقبل القريب. في خضم هذه التعقيدات، ربما الخيار المتاح هو معالجة مشاكل النازحين على مستوى المدينة، على الأقل بتغيير سياسات الدولة الاقصائية تجاههم. أمدرمان الآن امام فرصة فريدة من نوعها، إذ أن صورتها كسودان مصغر لها القدرة أن تستخدم كمثال واقعي للتغيير والوصول للتماسك الاجتماعي بدلاً من أن يتم استخدام صورتها لتمييز أُناسٍ فوق بعضهم. فاذا استطاعت أمدرمان ان تخلق مساواة حقيقية في كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لجميع سكانها في المستقبل، ربما سيشكل ذلك معبراً لإيجاد حلول حقيقية على أرض الواقع للمشاكل التي تقسم السودان منذ استقلاله.
"أﻧﺎ أﻣﺪﺭﻣﺎﻥ أﻧﺎ ﺍلأﻣﺔ
ﻭﺻﻮﺕ ﺍلأﻣﺔ ﻭاﺣﺴﺎﺳا
أﻧﺎ ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﺑَﻲ ﺗﻢَّ
ﻭأﻧﺎ ﺍﻟﻠّﻤﻴﺖ ﺷَﺘَﺎﺕ ﻧَﺎﺳَﺎ
ﻣَﺰَﺟﺖ ﺷﻤَﺎﻻَ ﺑﺠَﻨُﻮﺑَﺎ
ﻭﺳَﻜَﺒْﺖ ﺷُﺮُﻭﻗَﺎ ﻓﻲ ﻏُﺮُﻭﺑَا
ﻭﺯَرَﻋْﺖَ ﺍﻟﻄّﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺩْﺭُﻭﺑَﺎ
ﻭﻃَﺎﺑَﺖ ﻋِﺰﺓ للأﻭﻃﺎﻥ"
عبد الله محمد زين، "أنا أمدرمان أنا السودان"
"من فِتِيح للخور للمَغَالِق
من علاَيل أبروف للمزالق
قَدْلَة يا مولاي خَافِي حَالق
بالطريق الشاقِّيه التّرام"
- خليل فرح، "ما هو عارف قَدَمُه المُفارِق"
لطالما كانت تُعرف أمدرمان بالمدينة الوطنية، كمقام يحتضن كل الخلفيات الإثنية والقبلية والجغرافية والثقافية، برغم الاختلافات الداخلية، السياسية والاقتصادية. تتضارب الآراء بين ممجّدٍ ومُجَرِّم لهذه الهوية الوطنية التي تَحْمِلُها أو التي، ربما، حُمِّلتْ لها. في استعراضنا لتاريخ المدينة الحضري سنتناول الأوضاع والمناخات التي ساهمت في قيام المدينة مستصحبين معنا قضية الهجرة وتأثيرها على النسيج الحضري، باعتبارها من أهم القضايا، وربما الأهم على الإطلاق، التي صنعت أمدرمان اليوم. لن تأتي قضية الهجرة وحدها من دون التطرّق إلى كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت وتأثّرت بها مروراً بكل الحقَب الزمنية التي مرت بأمدرمان.
***
يصطدم الزائر لأمدرمان في مرّتِه الأولى بميزة المكان البائنة، فقد كانت مستندة على الصحراء الغربية القاحلة على مدّ البصر، والنيل واهب الحياة من الجهة الأخرى بحركته البطيئة المتجهة شمالاً إلى المتوسط، بسمائها المتّسعة وأرضِها الحجرية، كل ذلك اجتمع في بهاء الموقع، الذي اختاره المهدي يوماً بنيّة إقامة معسكر، فقط لا غير في حملته ضد الاستعمار التركي-المصري، لكن كل تلك السمات ما كان لها إلا أن تخلق مدينة متكاملة بعبق تاريخي وثقافي.
تاريخ الاستيطان بأمدرمان يعطي دلائل لأهمية الموقع، فالحفريات في منطقة خور ابو عنجة كشفت عن آثار تعود للعصر الحجري القديم، ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة شبه مأهولة وسكنتها جماعات متفرقة عبر الزمن. اما أمدرمان كما نعرفها اليوم ربما بدأت بمحض الصدفة، فلم يكن مبرماً لها باديء الأمر أن تغدو أكثر من معسكر لجيوش المهدية، ولكن بعد تلك البداية لن نتمكّن من القول أن نموّ المدينة وتطورها كان مصادفةً؛ فقد كانت عمليات التخطيط التي تعاقبت على أمدرمان عن قصد ودراية، بما في ذلك الطبيعة العفوية لعمارة المدينة.
محمد أحمد المهدي شخصية مثيرة للاهتمام حتماً وللجدل أيضاً. كان لديه إيمان عميق بنبوءة "المهدي" وكان هذا المحرّك الرئيس لحركته فيما بعد. المهدي اتخذ من النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) قدوةً ونموذجاً يحذو حذوه، ولابد من التوقف عند المقاربة بين شخصية المهدي والنبيّ (ص)، لأن فَهْم هذه العلاقة يفسّر المقاصد التي استند عليها المهدي في رسالته وتكوين دولته. فالمقصد الأكبر للمهدي كان تحرير البلاد والمسلمين السودانيين و"فتح" بلاد أخرى -مثل مصر- تماماً كرسالة الإسلام الأولى. من أكثر القصص إثارة للاهتمام وإحتذاءاً بالنبي (عليه الصلاة والسلام) في تاريخ أمدرمان هي قصة اختيار المهدي لموضع بيته، فقد ترك المهمّة لدابته التي سكنت إلى ذلك المكان، بيته الذي كان حجرة من الطين، ثم اعتلته قبّة بعد وفاته هي قبّة المهدي القابعة إلى يومنا هذا.
خرج الإمام المهدي من الرهد قاصداً الخرطوم في اغسطس ١٨٨٤، وأمر أتباعه بالزحف شرقاً لتحرير العاصمة الخرطوم من المستعمر. استجاب الكثيرون لندائه في هجرة جماعية، وكانت تلك بداية الهجرة إلى أمدرمان. مقام أمدرمان في أنفس المهدي وأنصاره برز في الأسماء التى أطلقت عليها مثل البقعة، البقعة الطاهرة ودار الهجرة، و هذا الأخير نُقِش على العملة التي ضُربت في عهده. إلى جانب ذلك تأتي الغاية العسكرية؛ فهذا المكان العفوي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى معسكر كبير؛ تهافتَ الأنصار له وشيّدوا المساكن بالقش والجلد والشكاب وابتُعِث هذا التجمّع المدني إلى الحياة.
حملات المهدي ضد الاستعمار التركي-المصري في السودان منذ ١٨٨١ توجت بتحرير الخرطوم عاصمة الترك في يناير ١٨٨٥. لكن الإمام المهدي لم يسعفه الوقت وتوفي عقب انتقاله لأمدرمان بقليل، فخلفه عبد الله التعايشي، الذي أسفرت خلافته عن كتابة تاريخ جديد لمدينة أمدرمان، بدايةً من أعلان الخليفة لأمدرمان عاصمةً للدولة المهدية. فكيف نمت المدينة في ذلك الوقت الوجيز لتسع رقعة تزيد عن العشرين ميلاً مربعاً؟
في مايو ١٨٨٥، أمر الخليفة بإجلاء الخرطوم ونقل جميع سكانها إلى أمدرمان، لدحض أي منافسة لعاصمته الجديدة، فدُمّرت منازل الخرطوم ونُقلت مواد البناء الخاصة بها لبناء منازل جديدة لأمدرمان. اجتماع الأقاليم الجغرافية في أمدرمان من بر وبحر صاحبته علاقات مناخية و إثنية و ثقافية شتّى، فأمدرمان في عهد المهدية كانت تضمّ حشداً من كل الجماعات القبلية السودانية، إلى جانب الكثير من المصريين، الهنود، وعرب مكة، السوريين، اليونانيين، الإيطاليين، الأتراك، الأثيوبيين، اليهود، بالإضافة لجماعات أصلها من غرب إفريقيا كالفولانيين والبرنو والبرقو. فاق تعداد سكّان أمدرمان المهدية المئة وخمسين ألف (١٥٠،٠٠٠) نسمة، ويقال إن السكان وصل تعدادهم الأربعمائة الف (٤٠٠،٠٠) نسمة.
سياسات الخليفة التعايشي كانت تقتضي إسكان أكبر عدد ممكن من المجموعات القبلية بالقرب منه، حيث أنه تطلّب قوة عسكرية كبرى في وقت قصير جداً، ليس فقط للغزو وتوسيع دولته ولكن لحماية حدود عاصمته التي كان يحدّق بها الخطر من كل جانب. حول الخليفة أمدرمان إلى مدينة حملت على عاتقها دور الخرطوم السابق، فأضحت المجلس الإداري والبيروقراطي المطلوب لإنجاز مختَلَف المهام الإدارية والعسكرية للدولة.
بدأت أمدرمان بالتشكّل تبعاً لاستراتيجيات الخليفة التعايشي، فكان هو من أخذ القرارات التخطيطية للمدينة، وقام بإحالة تلك القرى المبعثرة -التي كانت في أمدرمان قبلاً- إلى عاصمة دولته. فرضت عملية الوعي التخطيطي هذه خلْق طُرُقات وساحات أمدرمان الرئيسة، موقع السوق، المسجد، الجدران الدفاعية وغيرها. مواد التشييد ايضاً أكدت على هيبة و سيادة الخليفة، فالطوب الأحمر المنتزع من بيوت الأتراك في الخرطوم استخدم، بالاستعانة بمهندسين وفنيين مهرة، في بناء قبة المهدي الشامخة ومجمع بيوت الخليفة. ايضاً، تم احاطة مركز المدينة -الذي به مصالح ودور الدولة، بالإضافة لمنزل الخليفة و حرسه و أهل عصيبته- بسور عظيم من الحجر. لا تزال أجزاء من هذا السور موجودة حتى اليوم حيث استغرق بناءه قرابة عمر الدولة المهدية.
بين عامي ١٨٨٥ إلى ١٨٩٨ برزت مجاورات أمدرمان السكنية تتشكّل في نسَق عربي إسلامي وكانت السمة البارزة بها التمسك بتراث الحوش (الفناء الواسع) في مختلف الفراغات. هذه النشأة أخذت شكل الأنماط العضوية التقليدية كعالم متاهي عسير الفهم، والذي يصفع القادم من خارج المدينة على حين غرّة، فقد قام الخليفة ببناء أمدرمان على نمط شبكي الذي ربما يشبه إلى حد كبير الفراغات الدينية للإسلام الكلاسيكي. فقد أخذت المدينة طبيعة تلقائية يمكن مشاهدتها في النمو غير المنظّم للنسيج السكني المُساق بالأعراف والعادات الاجتماعية، والمباديء البسيطة للعمارة الشعبية.
إن نهج الخليفة السلفي ومحاربته للطرق الصوفية انعكس على العمارة وتجلى بتحريم الزخرفة في المباني باستثناء النصوص القرآنية، فتراث البيت النوبي ذو الواجهات المزخرفة مثلاً لم يجد مساحة في أمدرمان المهدية ذات الثقافة الاحادية بالرغم من تواجد النوبيين في المدينة. وعلى النقيض من مجمع الخليفة المتقدم ذو المواد المتينة، فإن بيوت أمدرمان المهدية اتسم أغلبها بالبساطة، فبيوت القبائل النيلية تم تشييدها بمواد شديدة الهشاشة كالتراب والطين، فلم يتبقى منها الكثير. وبجانب آخر، فإن القبائل الرحل من غرب السودان الذين سكنوا أمدرمان، بطبيعة نمط حياتهم اليومية وتدني ثقافتهم المادية، شيدوا مساكن شبه مؤقتة اندثرت ايضاً مع مرور الزمن.
أمدرمان كانت ذات شوارع ضيقة وأزقّة مُصْمَتة، وتميزت طرقاتها بشخصية منعزلة ممانِعة. كان التنقّل بين البيوت والأحياء يعتمد على حركة المشاة في الأساس، إلى جانب الحمير والخيول والكارِكّات، الأمر الذي انعكس على تخطيطها وتصميمها العضوي.
كان العنصر البنيوي والحضري الرئيس لأمدرمان هو السوق. في الحقيقة إن قيام سوق أمدرمان سانَدَ تعزيز حركة التجارة فيها؛ ففي عهد الخليفة تم تحويل الأسواق الموسمية الصغيرة التي تعتمد على المنتجات الزراعية إلى سوق دائمة. وإلى جانب أنه بات مقصداً لمختلف الجماعات والقبائل السودانية وانضمام مجموعات عديدة من الشمال والجنوب والغرب والشرق، فقد انضم إليه كذلك تجار وحرفيون مهرة من بلدان مجاورة.
قوافل الحج تلك القادمة من بلاد غرب إفريقيا كان لابد لهم من التوقف عند سوق أمدرمان، فغدا هذا خط حركة ثابتاً، وتوافد التجار ايضاً من مصر والهند واستقروا بأمدرمان للعمل في السوق. الحركة النهرية كانت حيّة بسبب كثرة القوارب التي كانت رائجة الصنع في ذلك الوقت، فغدت أمدرمان وجهة لجميع القبائل الساحلية من النيل الأزرق والأبيض ونهر النيل. معظم الطرقات في أمدرمان القديمة، وخصوصاً في القطاع الشمالي الغربي، كانت تؤدي إلى السوق. فيمكننا القول أن سوق أمدرمان كان ركيزة الحركة في المدينة، والنقطة التي تتقاطع بها كل الخطوط المرسومة من كل الاتجاهات.
كان المقِبلون من بلاد غرب أفریقیا یرتحلون شرقًا قاصدین مكة من دون اقتنائهم ما یكفي لتغطیة تكالیف السفر، فقد كانوا یقیمون في أماكن على طول الطریق رغبًة في العمل، وكانوا یعملون لیجنوا نفقات السفر والترحال. أمدرمان واقعٌة على درب رحلتهم إلى الحج، فاستوعبتهم المدينة وحاولت توفير الحماية لهم، إلا أنه كان للدولة المهدية وللخليفة التعايشي ميل لتطويع هؤلاء الرحالة في الجيش.
***
واجهت الدولة المهدية الجديدة الكثير من المعارك مع جهات متعددة، حيث تلقت تهديداتٍ من الحدود المصرية والأثيوبية، إلى جانب العديد من الصراعات الداخلية. و بالتالي لتقوية وزيادة جيوشه ولانعدام ثقته بالقبائل الأخرى التي لم تبارِك خلافته وسيادته أصدر الخليفة التعايشي بياناً يطالب فيه باجتلاب قبيلتي التعايشة والبقارة من دارفور، قسراً، إلى أمدرمان. لكن هذا القرار كان له أثر جسيم على الوضع الاقتصادي و السياسي في أمدرمان وربما في كل البلاد.
الجدير بالذكر أن التعايشة والبقارة هم قبائل رحّل يمتهن أغلبهم الرعي و الزراعة، ولكن قرار الخليفة التعايشي بترحيلهم لأمدرمان غيّر من ذلك؛ فأحالهم الخليفة من فئة منتجة في الدولة إلى جنود صف أول معتمدين في جيشه. لكن في طريقهم عبر كردفان استنفذوا مخزون الذرة نسبة لأعدادهم الكبيرة واعتمادهم على الدولة. أما عند وصولهم إلى أمدرمان فقد غدوا فئة ذات امتيازات نسبة لولائهم للخليفة، فتمّت إعانتهم بكافة أنواع المؤن والغذاء، الامر الذي أدى لاستنزاف مدّخرات الدولة. تزامن ارتحالهم نحو أمدرمان –والذي استمر قرابة العام- مع موسم حصاد متدنٍ جداً لعام ١٨٨٩ نسبة للجفاف في العام السابق، فضربت البلاد واحدة من اسوأ المجاعات في تاريخها، مجاعة سنة ٦ (١٣٠٦هـ/١٨٩٠م).
فشل الدولة المهدية في إغاثة مجاعة سكانها نسبة لنداء الجهاد وعسكرة الدولة، وضعها في مأزق عجزت فيه عن توفير احتياجات السكان جنباً بجنب مع اقتصاد الحرب الذي فُرض على الدولة منذ نشأتها. سياسة الدولة الاقتصادية والمقاطعة مع مصر وتدنّي حركة التجارة كل ذلك قاسَمَ في الشأن، فلم يتبصّر الخليفة في أبعاد سياساته تأثيرها على دولته المتأرجحة اقتصادياً. وكانت لهجرة البقّارة و التعايشة عواقب سياسية واجتماعية؛ فلم يكن لدى الجماعات التي تسكن في أمدرمان، خصوصاً أولاد البحر وآل المهدي الأشراف -الذين كانوا يرون أنهم أحقّ بخلافة المهدي- أيّ سبب يدعوهم إلى التصرّف على وجه حسَن مع القادمين الجدد، فالخليفة لم يُخفِ حتى اعتماده على أقاربه القَبَلِيِّين، وقام باستخدامهم في تهدئة المعارضة من أهل البحر والأشراف، ونظّم قوة مسلحة جديدة وضعضع قادة المعارضة هؤلاء.
***
بالرغم من عمل بعض النساء في السوق وإنشاء قسم مخصص لهن فيه، لكنّنا لا ندري حقاً كيف عاشت النساء حياتهن في أمدرمان ذلك الزمان، فلم يتم التوثيق لهن بشكل كافٍ، فقد كانت للدولة المهدية سياسات تقتضي بمكوثهن في البيوت، حتى أن تلك السياسات ربما انعكست على عمارة السكن في أمدرمان القديمة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن ننظر "للنفّاج"، المعبر الذي يربط بين بيوت عائلات أمدرمان، كعنصر معماري ساعد في تعزيز بقائهن في المنزل وتجنب تواجدهن في الشوارع.
وما يثير الاهتمام حقاً أنه في كثير من الأحيان كانت أمدرمان "مدينة نسائية"، حالما كانت تخلو من الذكور في المعارك، الأمر الذي أنعش دورهن في التجارة والأعمال الحرفية في السوق. كانت أمدرمان خصوصاً بعد معركة كرري الدامية -التي توفي بها اكثر من ١١ الف من جيوش الخليفة- تقريباً تحت حكم نسائي، ولكن غيَّر المستعمر من ذلك لاحقاً واكتفى بالرجال في تعاملاته وسياساته، فلم يكن يعترف بالنساء في مواضع القيادة حتى في بلده الأم. لكن هذا لم يمنعهن من طرْح حراك نسائي فيما بعد، نما وازدهر في أمدرمان بطبيعة الحال.
***
بعد سقوط أمدرمان المهدية على يد الحكم الإنجليزي-المصري في عام ١٨٩٨، عادت معظم القبائل من السكان إلى دُورها، وكان ذلك وفقاً لسياسات المستعمر لتفريغ العاصمة من "الأفواه عديمة الفائدة"، فشهدت كردفان و منطقة الجزيرة انتعاشاً لعودة سكانها، ولنذكّر بأن قدومهم إلى أمدرمان كان في الغالب مرغماً في المقام الأول من قبل الخليفة. البعض أُرغِموا على الرحيل من المدينة بعد معركة كرري، والبعض الآخر استقروا في أمدرمان وجعلوا منها موطناً. أما الخرطوم، عاصمة المستعمر لمرة ثانية، قامت من أنقاضها ولم تستوعب خارطتها الجديدة سكّان وطنيين ماعدا الأطراف الشبه عشوائية، وحقيقةً لم يكن هذا الأمر يؤرّق المستعمر من الأساس.
تخطيط الخرطوم عُني بالنخبة الأجنبية التي استغلت الواجهة البحرية في المواقع الشمالية والوسطى بشوارعها المتقاطعة (في شكل العلم البريطاني)، الأمر الذي سهل السيطرة عليها عسكرياً ضد اي نوع من المقاومة، وتم عزْل السكان الأصليين في مدن الصفيح خارج جسر السكك الحديدية وغابة السنط. صُمّمت الخرطوم كمدينة أوروبية، بينما أمدرمان تم تجاهلها تماماً من قِبل المستعمِر، فأعطاها المجال لكي تنمو بشكل عرَضيّ، لتصبح النموذج البدائي الخارج عن السيطرة الذي يناقض المدينة في تحضّرها، في رؤية المستعمرعلى الأقل. ومن المفارقات أن الإنجليز (والأوروبيون في العموم) أظهروا فيما بعد اهتماماً بأمدرمان لكونِها "مغايِرة وأكثر محليّة"، الشيء الذي يجذب الكثير من المستشرقين على الدوام.
حينما بدأ التفكير في تخطيط أمدرمان التي برغم الهجرات منها ظلت تجمع عدداً مقدّراً من السكان (٤٣ ألفاً في عام ١٩١٠). لم يكن من السهل للمستعمر تنظيم أمدرمان بأزقتها المتاهية التي يضيع بها القادم من خارجها، إلى جانب تمسّك الأمدرمانيين بأراضيهم السكنيّة، مما دفع الإنجليز لأخذ طريقٍ حذر يختلف تماماً عن ذلك في الخرطوم. كانت معظم عمليات تخطيط الإنجليز في أمدرمان مقتصرة على توسعة واعادة تأهيل شبكة الطرق، بالاضافة الى إعادة تخطيط المناطق والأحياء التي لم تكن مأهولة بشكل عظيم او تلك التي دُمرت خلال الغزو. حي الملازمين الذي دمر في معركة كرري تم اعادة تخطيطه وبُنيَ بعد عقودٍ لاحقة.
بعد تعيين البريطاني جيمس برامبل محافظاً لأمدرمان، قام في عام ١٩٢٨ بتحويل بيت الخليفة إلى متحف تاريخي وأُضيفت بعض المَعارض من الحقبة المهدية، حيثما باتت طليعة استحداث الهوية الثقافية لأمدرمان. في تلك الحقبة، عمل الإنجليز على تنويع الأنشطة في أمدرمان حيث تم تقديم الأنشطة الثقافية والتعليمية والصحية والترفيهية مثل المسجد الكبير ومستشفى أمدرمان ومعهد أمدرمان العلمي، وأُنشِيء أيضاً مبنى إذاعة أمدرمان بموقعها الاول بمبانى البوستة (١٩٤٠) وسينما برامبل والسينما الوطنية.
بما أن الخرطوم أُنشئت كمدينة كولونيالية في عهد المستعمر، فإنّ أمدرمان تمّ اتخاذها العاصمة الوطنية، فكانت ملاذاً للوطنيين ولكل من ينشد التمرد على كلّ ما في الخرطوم الكولونيالية. نسبه لذلك قامت بالمدينة في فترة الحكم الثنائي رئاسة مؤتمر الخريجين، إلى جانب معظم رئاسات الأحزاب السياسية الوطنية. بالقرب منها، ازدهر سوق أمدرمان، وتم توسعته وتنظيمه وإعادة تخطيط شبكة طرقاته، وضمّ مقاهي عدّة كجورج مشرقي، وود الآغا، والزئبق، ويوسف الفكي. تلك المقاهي كانت بمثابة قلب المدينة النابض بمنتدياتها الأدبية والفنية واحتضنت الفنانين والشعراء –خصوصاً شعراء ومطربي الحقيبة– وكانت مركزاً لثورة فكرية و سياسية في القرن الماضي تبلورت في الحركة الوطنية.
إن سياسات المستعمر عملت على الحد من هجرات السكان الداخلية، فبعد السودان من الاستعمار ورفع تلك المعيقات للحركة تسارعت الهجرات في الفترات اللاحقة. استمرت أمدرمان في التوسع بعد الاستقلال، وظهرت فيها أحياء حديثة عدة مثل الثورات وأمبدة والصالحة والمهندسين والروضة ومدينة النيل، والتي أصبحت في ذاتها مدناً جديدة بامتداداتها الواسعة. لكن تسارع توسع المدينة في العقود اللاحقة لأسباب عدة، مما أدى لصعوبة مواكبة تخطيط المدينة لهذا التوسع الشاسع.
أسفرَتْ الهجرات الاقتصادية من الريف للحضر نسبة لجاذبية العاصمة عن قدوم آلاف عديدة إلى أمدرمان، لكن التغيير الحقيقي في التعداد السكاني للعاصمة المثلثة كان نسبة لقدوم أعداد ضخمة من النازحين الذين استقروا في الأطراف. هنالك أسباب عدة دفعت المواطنين من جميع انحاء السودان للنزوح للعاصمة، حيث في أوائل الثمانينات، ضربت البلاد سلسلة من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الجفاف والمجاعة في الغرب والشرق، وقد أدى ذلك لنزوح آلاف المشردين داخلياً إلى العاصمة، بمن فيهم ١٢٠ ألف شخص من دارفور وكردفان. في الوقت نفسه، إزاء اشتعال الحرب الاهلية الثانية ما بين ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥، لجأ كثيرون من الهاربين من الحرب إلى الخرطوم وأمدرمان. كما أدى النزاع في دارفور منذ سنة ٢٠٠٣ إلى تدفّق المزيد من النازحين. نسبه لذلك، صنف السودان عالمياً في التسعينات و الالفينات كأكبر دولة تحتوي على نازحين داخلياً، وفي عام ٢٠٠٥ وصل عدد النازحين لذروته بحوالي ٦.١ مليون نازح. بالرغم من انخفاض هذه الأرقام، لا يزال السودان يتصدر قائمة النازحين داخلياً في العالم بحوالي ٢ مليون نازح.
قوبلت تلك الأعداد الهائلة من النازحين الذين قدموا للعاصمة –فيما عُرف "بالحزام الأسود"– بالإنكار والعداء الصريح من قبل الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينيات؛ نُظر إليهم باعتبارهم تهديداً للاستقرار السياسي وعبئاً على الاقتصاد ومصدراً للتوتر الاجتماعي والثقافي، كما انه صعب عليهم الحصول على مأوى وخدمات اجتماعية. أما الرئيس نميري (١٩٦٩-١٩٨٥) فقد وضع سياسة إعادة التوطين القسري (الكَشّة)، عن طريق إلقاء القبض على النازحين عشوائياً وإرجاعهم إكراهاً إلى أماكنهم الأصلية في غرب وجنوب السودان، أو نقلهم إلى مواقع الإنتاج في وسط السودان.
في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، قامت حكومة الإنقاذ (١٩٨٩-٢٠١٩) ببعض المبادرات لمجابهة الفقر والتهميش، وتم دمج أعداد ضخمة من السكان ذوي الدخل المنخفض في الأحياء الشعبية حول الخرطوم؛ إلا أن تلك المبادرات اتّسمَت بعدة مآزِق بسبب عمليات الإخلاء العشوائية وغير الإنسانية المتكررة والتي أثارت شكاوى كثيرة بشأن حقوق الإنسان.
إن معظم النازحين استقرّوا في مساكن غير رسمية (عشوائية) على أطراف المدن. مبادرات التخطيط منذ التسعينيات تمثّلت في إفراد قطع أراضٍ على أطراف المدينة، فكانت ظاهرياً مصمّمة لتخفيف الضغط على مناطق السكن غير النظامي المكتظّة، فهُدّمت مساكنهم من قِبل قوات الأمن، ثم تمّ نقلهم جبراً للمناطق الجديدة التي تُعرف بمخيمات النازحين، مثل مخيميّ دار السلام وود البشير في أمدرمان. الباحثة الحضرية د. هناء معتصم أجرت مقابلات مع النازحين الذين تم إسكانهم في معسكر دار السلام ووجدت ان كثير منهم كانوا يقطنون في منطقة "القماير" في أمدرمان المتواجدة في منتصف المدينة. عندما شيد معسكر دار السلام، قامت الحكومة بازالة منازلهم من دون أن توفر لهم أي تعويضات وأعادت تخطيط "القماير" لقطع درجة اولى وتم إعادة تسميتها لــ(الثورة الحارة السادسة).
النازحون للمدينة هم أكثر مَن يعاني من شح الخدمات وفرص العيش لأن السلطات تعمل على أن يتم وضعهم في الهامش بعيداً عن أعين سكان وسط المدينة. انعكس هذا الواقع المؤلم للمخيمات في أمدرمان على الأسماء التي تُعطى لها من جانب المجتمعات المحليّة التي تعيش فيها. ومن الأمثلة على ذلك مخيم السلام، الذي يشار إليه دائماً باسم "جَبَرونا." سَعَت الحكومة إلى استبدال تلك الأسماء مثل مخيم "زقلونا" والذي يعني "رُمينا خارجاً" والذي تمت إعادة تسميته "للثورة ١٥."
بالرغم من محاولة الحكومة لتمليك النازحين اراضي في العاصمة عبر إنشاء مواقع اعادة الاسكان في "الفتح" على بعد ٤٠ كلم شمال أمدرمان، إلا أن هذه المواقع قللت من جودة معيشتهم نسبة لبعدها الشديد من منتصف المدينة وعدم توفر الخدمات وفرص العيش فيها. تلك العوامل دفعت كثير من النازحين لترك الفتح والنزوح لأماكن أخرى مجدداً.
لابد من النظر لمخيمات النازحين ومواقع اعادة الاسكان وحتى المساكن العشوائية للنازحين بعينٍ ناقدة وكيف تنتقل قضايا الهامش للمدينة، والتوقف عند استيعاب المدينة لهم، فقد أصبحوا جزء لا يتجزأ من تكوين الخرطوم عبر الزمن. لا شك أن التمدّن هو اتجاه عالمي اليوم، ودائماً ما يرتحل الناس للمدن، لكن بالتأكيد يجب على المدن أن تكون قادرة على توقّع واستيعاب هذا النمو خاصة تجاه النازحين قسرياً بدلاً من ان يتم تهميشهم ووضعهم في ظروف تحتم عليهم العيش في حلقة متواصلة من الفقر والنزوح.
***
ان التجانس العرقي والثقافي في أمدرمان الذي خُلق في فترة الاستعمار كان نتاجاً لتجارب مريرة خاضها سكان المدينة، حيث أن أمدرمان المهدية نالت نصيبها من التوترات القبلية التى زعزعت المدينة بين اهل الخليفة التعايشي، اولاد الغرب، واهل المهدي الاشراف واولاد البحر. لكن الاطاحة بالدولة المهدية والهزيمة المؤلمة في كرري وحدا سكان أمدرمان ضد المستعمر، الامر الذي سمح للمدينة بأن تتماسك و يتمازج سكانها. تلك العوامل أدت لإطلاق الحركة الوطنية سعياً إلى التحرر من قبضة المستعمر، وبالتالي تم خلق هوية أمدرمان، ملجأ القوميين.
ولكن إذا كانت أمدرمان تُرى كرمز للتكامل الوطني، وهي التي شكّلت الشخصية الوطنية السودانية من خلال حركة الثقافة المهيمنة التي ابتدأت منذ الحقبة الكولونيالية، فإن بعض الآراء المعارِضة تحسَب أن هذا الأمر ليس دقيقاً، ومضلّل في الواقع، لأن ثقافة أمدرمان همّشت واستبعدت ثقافات جماعات وأفراد آخرين بحجة انهم غير أمدرمانيين. فالبعض يرى أن الهجرات العديدة في الثمانينيات كانت بداية فقدان صورة تلك "الهوية الوطنية." في الحقيقة هذا يبعث على التساؤل عن هذه الصورة؛ هل قامت بعكس التكامل الوطني الذي تفرضه على المستوى الكلي للسودان؟ يقول بروفيسور إدريس سالم أن الأمدرمانيين سيقولون نعم، لأن صورة أمدرمان "كسودان مصغّر" ما هي إلا في أذهانهم فقط.
إن تلك الهوية القومية لأمدرمان بالتأكيد تُختبر منذ الثمانينيات وما بعدها. "انا أمدرمان انا السودان" صار لها معانٍ أخرى، فالسودان منذ استقلاله لم يشهد أي نوع من الاستقرار في جميع أنحائه التي هُمشت لصالح تنمية المركز. النازحون قدموا من تلك المناطق المهمشة حاملين مظالمهم و زعزعوا استقرار الخرطوم -وبالتالي أمدرمان- وصورتها المنفصلة عن الواقع. بالاحرى، ان صورة أمدرمان كسودان مصغر لم تمثل الواقع الا بعد ان ضمت أشخاصاً من جميع أنحاء البلاد بعد ان تم اقصائهم مجدداً لهامش المدينة في ظل رفض اجتماعي من الأمدرمانيين القدامى.
في مواجهة هذا التحدي الجديد للهوية الأمدرمانية، لا يوجد عدو مشترك يوحد بين سكان أمدرمان، فقد أصبح العدو أحدهما الآخر تماماً مثلما كان الوضع في المهدية. بالحتم، لا يوجد شك أن الحل الأمثل لمسألة النزوح هو إيجاد حل جذري لدوافع النزوح في السودان، لكن تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي الحالي يولد صعوبة حقيقية تحول دون الوصول لهذا الحل الجذري في المستقبل القريب. في خضم هذه التعقيدات، ربما الخيار المتاح هو معالجة مشاكل النازحين على مستوى المدينة، على الأقل بتغيير سياسات الدولة الاقصائية تجاههم. أمدرمان الآن امام فرصة فريدة من نوعها، إذ أن صورتها كسودان مصغر لها القدرة أن تستخدم كمثال واقعي للتغيير والوصول للتماسك الاجتماعي بدلاً من أن يتم استخدام صورتها لتمييز أُناسٍ فوق بعضهم. فاذا استطاعت أمدرمان ان تخلق مساواة حقيقية في كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لجميع سكانها في المستقبل، ربما سيشكل ذلك معبراً لإيجاد حلول حقيقية على أرض الواقع للمشاكل التي تقسم السودان منذ استقلاله.
حياة الشارع
حياة الشارع
تُعتَبَر ستَّات "سيدات" الشاي سمة أساسية لحياة الشوارع الحضرية في السودان. وقد نشأ مصدر رزقهم من الوضع الاقتصادي المؤسف الذي واجهته العديد من النساء اللاتي نزحن إلى الخرطوم بسبب الحرب والمجاعة. كملاذٍ أخير، بدأت العديد من النساء في بيع المشروبات الساخنة في زوايا الشوارع والواجهات المائية في جميع أنحاء المدينة، مما خلق ثقافة فريدة حول الكوانين أو مواقد الفحم. يتجمَّع الأشخاص من جميع الأعمار والأجناس على بنابر "مقاعد قصيرة" للالتقاء أو الانتظار بالقرب من المستشفيات أو المكاتب الحكومية، أو قضاء الوقت أو الاستمتاع بالخدمة ببساطة. ومع الافتقار إلى البنية التحتية العامة والأثاث، فإن ستات الشاي يلبين حاجة محددة لا يلبيها أي شخص آخر، عام أو خاص.
لم تكن رحلة سيدات الشاي سهلة على الإطلاق. كان عليهم أن يتحدوا لمحاربة الظلم المستمر الذي واجهوه على مر السنين، ولعبوا أدواراً مهمة خلال اللحظات المحورية في النضال المدني في الخرطوم.
تقوم حياة بإعداد القهوة التقليدية في الشارع أمام مسجد الخليفة في أم درمان؛ حيث تقوم بتحميص الحبوب وطحنها قبل الطهي وتقديم القهوة.
هذا الفيلم هو جزء من مجموعة من الأفلام الوثائقية التي تم تصويرها وإنتاجها كجزء من مشروع المتاحف المجتمعية لغرب السودان الذي كان من المقرر أصلاً عرضه في ثلاث متاحف في جميع أنحاء السودان، متحف بيت الخليفة في أم درمان، الخرطوم، متحف شيكان في الأبيض، شمال كردفان، ومتحف دارفور في نيالا، جنوب دارفور. تعرض هذه الأفلام جوانب مختلفة لتاريخ المواقع التاريخية المهمة المتعلقة بمعارض هذه المتاحف. تم إنتاج جميع الأفلام في هذه المجموعة من قبل مارك واتمور ويوهو ميديا.
صورة الغلاف © مارك واتمور
تُعتَبَر ستَّات "سيدات" الشاي سمة أساسية لحياة الشوارع الحضرية في السودان. وقد نشأ مصدر رزقهم من الوضع الاقتصادي المؤسف الذي واجهته العديد من النساء اللاتي نزحن إلى الخرطوم بسبب الحرب والمجاعة. كملاذٍ أخير، بدأت العديد من النساء في بيع المشروبات الساخنة في زوايا الشوارع والواجهات المائية في جميع أنحاء المدينة، مما خلق ثقافة فريدة حول الكوانين أو مواقد الفحم. يتجمَّع الأشخاص من جميع الأعمار والأجناس على بنابر "مقاعد قصيرة" للالتقاء أو الانتظار بالقرب من المستشفيات أو المكاتب الحكومية، أو قضاء الوقت أو الاستمتاع بالخدمة ببساطة. ومع الافتقار إلى البنية التحتية العامة والأثاث، فإن ستات الشاي يلبين حاجة محددة لا يلبيها أي شخص آخر، عام أو خاص.
لم تكن رحلة سيدات الشاي سهلة على الإطلاق. كان عليهم أن يتحدوا لمحاربة الظلم المستمر الذي واجهوه على مر السنين، ولعبوا أدواراً مهمة خلال اللحظات المحورية في النضال المدني في الخرطوم.
تقوم حياة بإعداد القهوة التقليدية في الشارع أمام مسجد الخليفة في أم درمان؛ حيث تقوم بتحميص الحبوب وطحنها قبل الطهي وتقديم القهوة.
هذا الفيلم هو جزء من مجموعة من الأفلام الوثائقية التي تم تصويرها وإنتاجها كجزء من مشروع المتاحف المجتمعية لغرب السودان الذي كان من المقرر أصلاً عرضه في ثلاث متاحف في جميع أنحاء السودان، متحف بيت الخليفة في أم درمان، الخرطوم، متحف شيكان في الأبيض، شمال كردفان، ومتحف دارفور في نيالا، جنوب دارفور. تعرض هذه الأفلام جوانب مختلفة لتاريخ المواقع التاريخية المهمة المتعلقة بمعارض هذه المتاحف. تم إنتاج جميع الأفلام في هذه المجموعة من قبل مارك واتمور ويوهو ميديا.
صورة الغلاف © مارك واتمور
تُعتَبَر ستَّات "سيدات" الشاي سمة أساسية لحياة الشوارع الحضرية في السودان. وقد نشأ مصدر رزقهم من الوضع الاقتصادي المؤسف الذي واجهته العديد من النساء اللاتي نزحن إلى الخرطوم بسبب الحرب والمجاعة. كملاذٍ أخير، بدأت العديد من النساء في بيع المشروبات الساخنة في زوايا الشوارع والواجهات المائية في جميع أنحاء المدينة، مما خلق ثقافة فريدة حول الكوانين أو مواقد الفحم. يتجمَّع الأشخاص من جميع الأعمار والأجناس على بنابر "مقاعد قصيرة" للالتقاء أو الانتظار بالقرب من المستشفيات أو المكاتب الحكومية، أو قضاء الوقت أو الاستمتاع بالخدمة ببساطة. ومع الافتقار إلى البنية التحتية العامة والأثاث، فإن ستات الشاي يلبين حاجة محددة لا يلبيها أي شخص آخر، عام أو خاص.
لم تكن رحلة سيدات الشاي سهلة على الإطلاق. كان عليهم أن يتحدوا لمحاربة الظلم المستمر الذي واجهوه على مر السنين، ولعبوا أدواراً مهمة خلال اللحظات المحورية في النضال المدني في الخرطوم.
تقوم حياة بإعداد القهوة التقليدية في الشارع أمام مسجد الخليفة في أم درمان؛ حيث تقوم بتحميص الحبوب وطحنها قبل الطهي وتقديم القهوة.
هذا الفيلم هو جزء من مجموعة من الأفلام الوثائقية التي تم تصويرها وإنتاجها كجزء من مشروع المتاحف المجتمعية لغرب السودان الذي كان من المقرر أصلاً عرضه في ثلاث متاحف في جميع أنحاء السودان، متحف بيت الخليفة في أم درمان، الخرطوم، متحف شيكان في الأبيض، شمال كردفان، ومتحف دارفور في نيالا، جنوب دارفور. تعرض هذه الأفلام جوانب مختلفة لتاريخ المواقع التاريخية المهمة المتعلقة بمعارض هذه المتاحف. تم إنتاج جميع الأفلام في هذه المجموعة من قبل مارك واتمور ويوهو ميديا.
صورة الغلاف © مارك واتمور
سواكن
سواكن
سواكن، مكان كل بداياتنا
تتمتع سواكن بموقع مميز من خلال الخارطة الثقافيّة للسودان، لأنّها تمثل ذاكرة حاضرة للمدن المنقرضة، بالإضافة إلى كونها بوابة مهمة لدخول الإسلام السودان. لهذا وصفت من قبل السودانيّين بأنّها المكان الذي ابتدأنا منه.
تعد سواكن سيدة الموانئ البحريّة السودانيّة، وهي اليوم تحتلّ المكانة الثانية بعد ميناء بورتسودان. وبجانب التجارة، تاريخيَّاً تتمتع المدينة برابط قويّ بين الثقافة الإسلاميّة وثقافة شرق إفريقيا. وتضمّ داخلها أقدم المساجد الإسلاميّة المستخدمة حتى الآن، وهي حتى الوقت الحالي من أهم طرق الحجّ بين إفريقيا ومكة. وقد ازدهرت تجاريًّا خلال القرن ١٥ وحتى القرن ٢٠ حيث بنيت أهم مبانيها من الحجارة المرجانية. وهذه المباني تعد من أواخر الآثار التي تمثل النمط المعماري لمنطقة البحر الأحمر.
جزيرة سواكن والمدينة التاريخية
هي مرفأ ببحيرة ضحلة محاطة بسلسلة جبال البحر الأحمر، وتتكون المدينة التاريخيّة من جزيرة يربطها ممر ضيق باليابسة، تُعرف بمنطقه القيف. ومن خلال هذه الأطلال الأثريّة يتضح بأن المدينة الأصليّة قد سكنت باستمرار لفترة ٥٠٠ سنة على أقل تقدير.
هذه الجزيرة تم توسعتها بيد الإنسان ـ على الطريقه البدائيّة - فنَمَت مثل معظم المدن القديمة، مع الشوارع الضيّقة غير النظاميّة، وكُتَل من المنازل من مختلف الأشكال والأحجام، تألَّفت منها عقارات الجزيرة، وهي عبارة عن: منازل التجار الأثرياء، وكثير منها سُمِّيَت على اسم عائلات شهيرة، مثل: خورشيد أفندي، وشناوي بي، والتجار، والمكاتب التجاريّة، المتاجر والمحلات التجارية، والزوايا والمساجد، وعدد من المباني العامة. بحلول أوائل القرن العشرين كان بجزيرة سواكن ما يقرب المائتي منزل.
ثمة جزيرتان أخريان تحتلان البحيرة، مقابل مدينة سواكن التاريخية. وتعرف الجزيرة الأولى باسم جزيرة المكثف، التي احتلتها القوات البريطانيّة والأستراليّة خلال حملات المهديّة ١٨٨٥-١٨٩٦، ومدخنة مكثف طويل القامة (اختفت الآن) التي حددت اسم الجزيرة. والجزيرة الأخرى عرفت باسم (جزيرة المحجر) وقد احتوت على: محجر صحيٍّ لحجاج بيت الله الحرام بمكة، ومنازل قديمة، ومقابر مسيحيّة.
قبيلة الهدندوة هي الأعلى كثافة سكانيّة بالمدينة التاريخية المجاورة للبر الرئيسي، المعروفة باسم القيف، والمتصلة بالجزيرة بواسطة ممر؛ حيث كانت تحتوي على منازل، وزوايا، ومساجد، وعدد من المباني العامة، ومنشآت السكك الحديديّة سواكن - بربر ومحلات تجاريّة، وحانات ومنازل للشرب. وطوّقت الجيف التحصينات، في حين كانت المنطقة المحيطة بها متناثرة بدفاعات خارجيّة وعدد من الأضرحة والمقابر.
توثيق تراجع وانهيار سواكن
في أوائل القرن العشرين تم التخلي عن سواكن، واستبدالها بمدينة بورتسودان، وهي اليوم غير مأهولة كما كانت، والكثير منها في حالة خراب دون الصيانة المستمرة المطلوبة. ومع ذلك، لا تزال سواكن محاطة بالأسطورة والخرافة، وتحتوي على أكثر تواريخ السودان الحافلة بالأحداث الهامة. وعلاوة على ذلك، عادت التجارة والازدهار إلى المنطقة، بعد افتتاح ميناء سواكن الجديد في عام ١٩٩١ والنمو اللاحق لبلدة جديدة مجاورة، بالإضافة إلى استمرار طريق عبّارات الركاب من سواكن إلى جدة.
وعلى الرغم من إعادة إعمار سواكن، فقد ظلَّت معظم أطلال المدينة التاريخيّة في حالة خراب، حتى تكاد تختفي الآن. ومع ذلك، فإنّ أهميّة سواكن تجعل الحاجة إلى إنقاذ هذا التراث للأجيال القادمة أمر لا بدّ منه. وقد أدى ذلك إلى إجراء بحوث وتوثيقات واسعة النطاق للموقع لسنوات عديدة، بما في ذلك الجهود الكبيرة للمشروع الذي أنشأته المؤسسة الوطنية للآثار والمتاحف السودانية في عام ٢٠٠٠. هذه الوثائق والأبحاث هي التي تعتمدها إعادة الإعمار ثلاثية الأبعاد متسلّحة بالأمل الملهم، والخطط التي قد تأتي لمستقبل سواكن.
صورة الغلاف: سواكن المدينة مباني الميرغني، من تصوير إبراهيم محمد إبراهيم أحمد ٢٠٢٠
سواكن، مكان كل بداياتنا
تتمتع سواكن بموقع مميز من خلال الخارطة الثقافيّة للسودان، لأنّها تمثل ذاكرة حاضرة للمدن المنقرضة، بالإضافة إلى كونها بوابة مهمة لدخول الإسلام السودان. لهذا وصفت من قبل السودانيّين بأنّها المكان الذي ابتدأنا منه.
تعد سواكن سيدة الموانئ البحريّة السودانيّة، وهي اليوم تحتلّ المكانة الثانية بعد ميناء بورتسودان. وبجانب التجارة، تاريخيَّاً تتمتع المدينة برابط قويّ بين الثقافة الإسلاميّة وثقافة شرق إفريقيا. وتضمّ داخلها أقدم المساجد الإسلاميّة المستخدمة حتى الآن، وهي حتى الوقت الحالي من أهم طرق الحجّ بين إفريقيا ومكة. وقد ازدهرت تجاريًّا خلال القرن ١٥ وحتى القرن ٢٠ حيث بنيت أهم مبانيها من الحجارة المرجانية. وهذه المباني تعد من أواخر الآثار التي تمثل النمط المعماري لمنطقة البحر الأحمر.
جزيرة سواكن والمدينة التاريخية
هي مرفأ ببحيرة ضحلة محاطة بسلسلة جبال البحر الأحمر، وتتكون المدينة التاريخيّة من جزيرة يربطها ممر ضيق باليابسة، تُعرف بمنطقه القيف. ومن خلال هذه الأطلال الأثريّة يتضح بأن المدينة الأصليّة قد سكنت باستمرار لفترة ٥٠٠ سنة على أقل تقدير.
هذه الجزيرة تم توسعتها بيد الإنسان ـ على الطريقه البدائيّة - فنَمَت مثل معظم المدن القديمة، مع الشوارع الضيّقة غير النظاميّة، وكُتَل من المنازل من مختلف الأشكال والأحجام، تألَّفت منها عقارات الجزيرة، وهي عبارة عن: منازل التجار الأثرياء، وكثير منها سُمِّيَت على اسم عائلات شهيرة، مثل: خورشيد أفندي، وشناوي بي، والتجار، والمكاتب التجاريّة، المتاجر والمحلات التجارية، والزوايا والمساجد، وعدد من المباني العامة. بحلول أوائل القرن العشرين كان بجزيرة سواكن ما يقرب المائتي منزل.
ثمة جزيرتان أخريان تحتلان البحيرة، مقابل مدينة سواكن التاريخية. وتعرف الجزيرة الأولى باسم جزيرة المكثف، التي احتلتها القوات البريطانيّة والأستراليّة خلال حملات المهديّة ١٨٨٥-١٨٩٦، ومدخنة مكثف طويل القامة (اختفت الآن) التي حددت اسم الجزيرة. والجزيرة الأخرى عرفت باسم (جزيرة المحجر) وقد احتوت على: محجر صحيٍّ لحجاج بيت الله الحرام بمكة، ومنازل قديمة، ومقابر مسيحيّة.
قبيلة الهدندوة هي الأعلى كثافة سكانيّة بالمدينة التاريخية المجاورة للبر الرئيسي، المعروفة باسم القيف، والمتصلة بالجزيرة بواسطة ممر؛ حيث كانت تحتوي على منازل، وزوايا، ومساجد، وعدد من المباني العامة، ومنشآت السكك الحديديّة سواكن - بربر ومحلات تجاريّة، وحانات ومنازل للشرب. وطوّقت الجيف التحصينات، في حين كانت المنطقة المحيطة بها متناثرة بدفاعات خارجيّة وعدد من الأضرحة والمقابر.
توثيق تراجع وانهيار سواكن
في أوائل القرن العشرين تم التخلي عن سواكن، واستبدالها بمدينة بورتسودان، وهي اليوم غير مأهولة كما كانت، والكثير منها في حالة خراب دون الصيانة المستمرة المطلوبة. ومع ذلك، لا تزال سواكن محاطة بالأسطورة والخرافة، وتحتوي على أكثر تواريخ السودان الحافلة بالأحداث الهامة. وعلاوة على ذلك، عادت التجارة والازدهار إلى المنطقة، بعد افتتاح ميناء سواكن الجديد في عام ١٩٩١ والنمو اللاحق لبلدة جديدة مجاورة، بالإضافة إلى استمرار طريق عبّارات الركاب من سواكن إلى جدة.
وعلى الرغم من إعادة إعمار سواكن، فقد ظلَّت معظم أطلال المدينة التاريخيّة في حالة خراب، حتى تكاد تختفي الآن. ومع ذلك، فإنّ أهميّة سواكن تجعل الحاجة إلى إنقاذ هذا التراث للأجيال القادمة أمر لا بدّ منه. وقد أدى ذلك إلى إجراء بحوث وتوثيقات واسعة النطاق للموقع لسنوات عديدة، بما في ذلك الجهود الكبيرة للمشروع الذي أنشأته المؤسسة الوطنية للآثار والمتاحف السودانية في عام ٢٠٠٠. هذه الوثائق والأبحاث هي التي تعتمدها إعادة الإعمار ثلاثية الأبعاد متسلّحة بالأمل الملهم، والخطط التي قد تأتي لمستقبل سواكن.
صورة الغلاف: سواكن المدينة مباني الميرغني، من تصوير إبراهيم محمد إبراهيم أحمد ٢٠٢٠
سواكن، مكان كل بداياتنا
تتمتع سواكن بموقع مميز من خلال الخارطة الثقافيّة للسودان، لأنّها تمثل ذاكرة حاضرة للمدن المنقرضة، بالإضافة إلى كونها بوابة مهمة لدخول الإسلام السودان. لهذا وصفت من قبل السودانيّين بأنّها المكان الذي ابتدأنا منه.
تعد سواكن سيدة الموانئ البحريّة السودانيّة، وهي اليوم تحتلّ المكانة الثانية بعد ميناء بورتسودان. وبجانب التجارة، تاريخيَّاً تتمتع المدينة برابط قويّ بين الثقافة الإسلاميّة وثقافة شرق إفريقيا. وتضمّ داخلها أقدم المساجد الإسلاميّة المستخدمة حتى الآن، وهي حتى الوقت الحالي من أهم طرق الحجّ بين إفريقيا ومكة. وقد ازدهرت تجاريًّا خلال القرن ١٥ وحتى القرن ٢٠ حيث بنيت أهم مبانيها من الحجارة المرجانية. وهذه المباني تعد من أواخر الآثار التي تمثل النمط المعماري لمنطقة البحر الأحمر.
جزيرة سواكن والمدينة التاريخية
هي مرفأ ببحيرة ضحلة محاطة بسلسلة جبال البحر الأحمر، وتتكون المدينة التاريخيّة من جزيرة يربطها ممر ضيق باليابسة، تُعرف بمنطقه القيف. ومن خلال هذه الأطلال الأثريّة يتضح بأن المدينة الأصليّة قد سكنت باستمرار لفترة ٥٠٠ سنة على أقل تقدير.
هذه الجزيرة تم توسعتها بيد الإنسان ـ على الطريقه البدائيّة - فنَمَت مثل معظم المدن القديمة، مع الشوارع الضيّقة غير النظاميّة، وكُتَل من المنازل من مختلف الأشكال والأحجام، تألَّفت منها عقارات الجزيرة، وهي عبارة عن: منازل التجار الأثرياء، وكثير منها سُمِّيَت على اسم عائلات شهيرة، مثل: خورشيد أفندي، وشناوي بي، والتجار، والمكاتب التجاريّة، المتاجر والمحلات التجارية، والزوايا والمساجد، وعدد من المباني العامة. بحلول أوائل القرن العشرين كان بجزيرة سواكن ما يقرب المائتي منزل.
ثمة جزيرتان أخريان تحتلان البحيرة، مقابل مدينة سواكن التاريخية. وتعرف الجزيرة الأولى باسم جزيرة المكثف، التي احتلتها القوات البريطانيّة والأستراليّة خلال حملات المهديّة ١٨٨٥-١٨٩٦، ومدخنة مكثف طويل القامة (اختفت الآن) التي حددت اسم الجزيرة. والجزيرة الأخرى عرفت باسم (جزيرة المحجر) وقد احتوت على: محجر صحيٍّ لحجاج بيت الله الحرام بمكة، ومنازل قديمة، ومقابر مسيحيّة.
قبيلة الهدندوة هي الأعلى كثافة سكانيّة بالمدينة التاريخية المجاورة للبر الرئيسي، المعروفة باسم القيف، والمتصلة بالجزيرة بواسطة ممر؛ حيث كانت تحتوي على منازل، وزوايا، ومساجد، وعدد من المباني العامة، ومنشآت السكك الحديديّة سواكن - بربر ومحلات تجاريّة، وحانات ومنازل للشرب. وطوّقت الجيف التحصينات، في حين كانت المنطقة المحيطة بها متناثرة بدفاعات خارجيّة وعدد من الأضرحة والمقابر.
توثيق تراجع وانهيار سواكن
في أوائل القرن العشرين تم التخلي عن سواكن، واستبدالها بمدينة بورتسودان، وهي اليوم غير مأهولة كما كانت، والكثير منها في حالة خراب دون الصيانة المستمرة المطلوبة. ومع ذلك، لا تزال سواكن محاطة بالأسطورة والخرافة، وتحتوي على أكثر تواريخ السودان الحافلة بالأحداث الهامة. وعلاوة على ذلك، عادت التجارة والازدهار إلى المنطقة، بعد افتتاح ميناء سواكن الجديد في عام ١٩٩١ والنمو اللاحق لبلدة جديدة مجاورة، بالإضافة إلى استمرار طريق عبّارات الركاب من سواكن إلى جدة.
وعلى الرغم من إعادة إعمار سواكن، فقد ظلَّت معظم أطلال المدينة التاريخيّة في حالة خراب، حتى تكاد تختفي الآن. ومع ذلك، فإنّ أهميّة سواكن تجعل الحاجة إلى إنقاذ هذا التراث للأجيال القادمة أمر لا بدّ منه. وقد أدى ذلك إلى إجراء بحوث وتوثيقات واسعة النطاق للموقع لسنوات عديدة، بما في ذلك الجهود الكبيرة للمشروع الذي أنشأته المؤسسة الوطنية للآثار والمتاحف السودانية في عام ٢٠٠٠. هذه الوثائق والأبحاث هي التي تعتمدها إعادة الإعمار ثلاثية الأبعاد متسلّحة بالأمل الملهم، والخطط التي قد تأتي لمستقبل سواكن.
صورة الغلاف: سواكن المدينة مباني الميرغني، من تصوير إبراهيم محمد إبراهيم أحمد ٢٠٢٠
مساحات الموت في الخرطوم
مساحات الموت في الخرطوم
نُشرت مقالة "مساحات الموت في الخرطوم" لمي أبو صالح لأول مرة في مايو ٢٠٢١م، كجزء من مشاركة فريق ستوديو ايربان في مشروع معهد جوته في السودان، "السودان يتحرك".
ومنذ ذلك الحين، حَدَثت العديد من الأحداث التي غيَّرت حياة الناس، وغيرها من التطورات المهمة التي أثَّرت على مدينة الخرطوم والسودان ككل. وتمنح هذه الأحداث المقالة أهمية جديدة وأكثر إلحاحاً، وتَطرَح تحديات إضافية للطريقة التي نفكّر بها في معايير ما يُسمَّى "مساحات الموت"؛ وكيف ترتبط بالمدينة.
كان لوباء كوفيد ١٩ في عام ٢٠٢١م تأثير مدمّر على كبار السن، والسكان المعرضين للخطر في السودان، حيث تَخلَّت آلاف الوفيات المرتبطة بالوباء، في مرافق الحجر الصحي، عن طقوس الدفن التقليدية؛ بدءاً بغسل الجثث في المنزل. واكتسبت المقابر، إحدى الأنواع الثلاثة لمَنَاظِر الموت التي تمت مناقشتها في المقالة، هالةً مخيفة، وزاد الخوف من المرض بشكلٍ كبير بسبب صور أكياس الجُثث التي يتم إنزالها في القبور من قبل مسؤولي الصحة. لم تعد هذه المشاهد المميتة -أماكن التجمع الاجتماعي- كما كانت في أيام ما قبل الجائحة.
مع اندلاع الحرب في الخرطوم في أبريل ٢٠٢٣م، والعنف والدمار الذي انتشر بسرعة إلى أجزاء أخرى من السودان، اخترق "فضاء" الموت حدود مقابر الخرطوم، وامتدَّ إلى فضاء الحياة. وانتشرت صور الجثث الملقاة في الشارع وقصص الكلاب الضالة التي تلتهمها، أما بالنسبة لأولئك المحظوظين الذين دُفنوا، فقد تم ذلك في قبور مؤقتة في الساحات العامة أو في ساحات منازل الناس. وقد أصبحت اليوم هذه المقابر معالم ومواقع تذكارية بدائية، وهي نوع من مساحات الموت التي نوقشت في المقال، لتُذَكِّر الخرطوم بوحشية الحرب. وتُوَضِّح مي أبو صالح في قسم: عن الأصول التاريخية للمدينة: "لقد بُنيت الخرطوم حرفيَّاً فوق مقابر". ومن عجيب المفارقات، ونتيجةً للحرب، أن المدينة تعود إلى هذه الأصول.
إن قباب شيوخ الصوفية هي المشهد الثالث للموت الذي تستكشفه مي، إذ شَرَحت كيف أن هذا هو المشهد الوحيد للموت الذي يتحمَّل مرور الزمن، ويُقاوِم النسيان. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كانت هذه الهياكل المادية قد نَجَت من ويلات الحرب أم لا، حيث تم تدمير العديد من المباني والهياكل بالنيران أو القصف. وعندما يتوقف القتال، هل يمكن إعادة بناء القباب المدمرة أو التالفة، وبأية طريقة، وكيف سيضيف هذا طبقةً أخرى من التاريخ إلى تلك التي تراكمت على مرّ القرون؟
وأخيراً، ما هو شكل تخليد ذكرى الحرب وضحاياها في السودان والخرطوم؟ يبدو أن مثل هذه اللحظة الحاسمة والدموية في تاريخ السودان تستحقّ أكثر من تخليد الذكرى المُعتَاد الذي تصفه أبو صالح في المقال، مثل تسمية عدد قليل من الشوارع أو الساحات العامة تخليدًا لذكرى شخصٍ أو حدث.
سارة النقر، محررة وكاتبة
تخليد الذكرى ضمن مساحات الموت في الخرطوم
بقلم: مي أبو صالح – ترجمة: هالة جعفر
مساحات الموت –على النقيض لما يوحيه الاسم– هي في الواقع أماكن حيويَّة للمدينة، حيث طَوَّرت كلّ ثقافةٍ إنسانيةٍ أساليب تعبيرٍ وبناءٍ جنائزيٍّ مختلفة، تترادف مع المعتقدات والقيم المحلية، مما يعطي نظرةً عميقةً لهذه الثقافات. ولكن أهمية هذه المساحات تبقى مختفية في الغالب عن الحوار العام، حيث أنها غالباً ما تزاح جانباً ولا تعطى إلا قليلاً من التفكير والتأمل.
في هذا المقال نهتم بمعاينة المقابر في الخرطوم، بالإضافة إلى الأماكن الأخرى المرتبطة بالموت في المدينة لنفهم الأدوار التي تقوم بها بجانب الدفن. وبالتالي سيُستَخدَم مصطلح "مساحة الموت Deathscape" لتحديد متطلبات ما يمكن اعتباره "مساحة" للموت وكيفية ارتباطه بالمدينة. فمصطلح "Deathscape" نفسه حديث نسبيّاً وتم تبنّيه من الخبراء "لوصف كل الأماكن المتعلقة بالموت والموتى، وكيف تصطبغ هي بمعانٍ وأشياء ذات صلة: مثل موقع الجنازة، وأماكن المثوى الأخير وذكرى الموتى، وكل طرق التمثيل لهؤلاء." فإن تبنّي هذا المنظور أثناء معاينة العلاقات والتداخل بين الأحياء والموتى يمكّننا من رؤية المدينة بطرقٍ مختلفة، حيث أنه "لا تكون هذه الأماكن مشحونةً بالعواطف فحسب، بل هي كثيراً ما تكون خاضعةً للصراع الاجتماعي والسلطة."
لكشف الغطاء عن هذه العلاقات، ستتم معاينة ثلاثة أنواع من مساحات الموت في الخرطوم: قباب الأولياء والصالحين، المقابر، وأخيراً النصب التذكارية في المدينة. إن كلاًّ من هذه الأنواع سوف يمكِّننا من رؤية تأثير مساحات الموت عبر عدة موازين: المبنى والمشهد والموضوع. بمعاينة تاريخ هذه الأنواع وطبيعة العوالم التي تسكنها - سواءً كانت روحانية و/أو مدنية- فإن هذه المقالة تناقش بأنّ لمساحات الموت القدرة على لعب دور أرشفة ملموسة تحتفظ بتاريخ المدينة بتراكم الحكايا المرتبطة بها. وعبر هذه العملية، فإن أماكن الموتى تقاطعت مع أماكن الأحياء وصارت مواقع صراع تتجلَّى فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية في المدينة. فمنطقة وسط الخرطوم، كمثال، تَقبع فوق موقع دفنٍ قديم، تمَّ إغلاقه والبناء فوقه في بداية القرن العشرين، مع بقاء القليل جداً من آثار المقبرة القديمة. على بعد أحياء قليلة، شَهِدَت المنطقة كذلك كثيراً من مشاهد الموت ومعارك المقاومة السودانية ضدَّ حُكمَي الاستعمار التركي المصري والانجليزي المصري، بما فيها تحرير الخرطوم بواسطة الإمام المهدي في عام ١٨٨٥م، وانتفاضة جمعية اللواء الأبيض عام ١٩٢٤م. بالإضافة لذلك، شَهِدت المنطقة الوفيات التي نتجت من أحداث العنف خلال ثورتي ١٩٦٤م و١٩٨٥م الوطنيتين، وفي تاريخٍ أحدث: مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩م. هذه الوقائع السياسية العديدة حَدَثَت بالقرب من وسط الخرطوم نسبةً لعلاقتها بمقعد السلطة في الدولة، وبالتالي فإن الوفيات الناتجة عن هذه الأحداث تُمَيِّز الموقع عن غيره في العاصمة.
بالنظر إلى تأثير مساحات الموت في الخرطوم عبر الأنواع المختلفة التي سنقوم بعاينتها، يحاول هذا المقال فهم العلاقة ما بين الموت وتخليد الذكرى في المدينة للكشف عن من وما الذي تُخلّد ذكراه، وماذا يخبرنا التاريخ عن أحوال تخليد الذكرى في الخرطوم.
القُبَبُ وقُوّةُ التّأْثيرِ المِعْمَارِي:
لا يمكن أن يبدأ النقاش عن مساحات الموت في الخرطوم من دون الاعتراف بواحدة من أكثر مساحات الموت أهمية لتأثيرها المعماري والأثري، والتي حَظِيَتْ بأثرٍ عميق على المجتمع السوداني، ألا وهي القباب التي هي أماكن دفن الأولياء والصالحين.
خلال القرون الخمسة الماضية، برزت القباب برسمها لخط الأفق بمحاذاة ضفاف النيل، كمَعلَم أساسي في القرى والمدن بوسط السودان وشماله وشرقه. ويبدو أنها ظهرت مع السلالات الحاكمة الإسلامية الأولى في السودان، العبدلاب والفونج، ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين. وخلال القرون التالية، استمرت عملية البناء والمحافظة على هذه القبب متجذرة في المجتمع السوداني، والذي ينظر لها "كـمقاصد للزيارة وأماكن للتضرع الفردي والتذكر الجماعي، ومراكز للحياة الدينية في جوانبها الروحية الاجتماعية."
شهدت منطقة الخرطوم تمركزاً لرجال الصوفية والأولياء الصالحين منذ بداياتها، حيث أسس الشيخ أرباب العقائد –الذي وُلد بجزيرة توتي– أول قريةٍ سُكنت بمنطقة الخرطوم عام ١٦٩١م، والتي صارت مقصداً للعديد من أتباعه وطلابه كذلك. كما أن سياسات الفونج والعبدلاب حرصت على إقطاع الأراضي للفقهاء وإعفائهم من الضرائب حتى يتفرغوا لتدريس علوم الدين. فبفضل ذلك استقر كلٌّ من الشيخ حمد ود أم مريوم والشيخ خوجلي في منطقة بحري الحالية، والشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون، بالاضافة لعدة شيوخ آخرين. وبالتالي فإن توسع منطقة الخرطوم بالتأكيد يمكن ربطه باستقرار وانشطة هؤلاء الأولياء والصالحين.
إن قدرات الشيوخ –التي يطلق عليها الكرامات– تعتبر نِعَماً من الله لا يحدها حتى الموت، الأمر الذي يجعل مدافن هؤلاء الشيوخ أماكن حيوية للمجتمع. ولهذا السبب فإن بعضاً من القباب والأضرحة باتت معروفةً بعلاج أمراضٍ عديدة، بينما اشتهرت أخرى بمساعدة النساء في الخصوبة، وغيرها من القدرات التي تنسب إلى الشيخ قبل مماته. فهذه المعتقدات متجذرة للغاية في المجتمع السوداني، حيث تتردد تواً أسماء الأولياء على ألسنة أتباعهم في أوقات المرض، والمحن، والمخاطر، دافعةً إياهم لزيارة تلك القبب والاضرحة طلباً للبركات. وتكون القباب أكثر قابلية لأن تظل مزاراً عند ارتباطها بالخلاوي أو المسيد، وهي المراكز الدينية للطرق الصوفية والتي تعمل كمؤسسات للعبادة، والتعليم والإرشاد.
إنّ العلاقة الوثيقة التي تربط ما بين الأولياء والمجتمع هي السبب وراء تواجد القباب عادةً بالقرب من مقبرة أو داخلها، محاطةً بقبور أقرباء الولي وطلابه. فهذه المقابر تستعرض ترابطاً مثيراً للاهتمام بين الحياة والممات، إذ هي أماكن مليئة بالنشاط حيث تقام فيها الاحتفالات الدينية باستمرار. فقبة الشيخ حمد النيل في أمدرمان مثلاً تعتبر من أهم البقع السياحية في العاصمة، حيث ثُقام "النُّوبة" كل يوم جمعة، وهي حلقة ذكر تبدأ بمسيرة ما بين القبور والتي تتحول فيما بعد إلى تجمُع ترتل به الأهازيج الصوفية والمدائح مصاحبة كذلك بالرقص. ويُقام أيضاً عدد من الاحتفالات بانتظام هناك، مثل "الحَوْلِيّة" وهي ذكرى وفاة الشيخ، والمولد النبوي الشريف.
احتفال يقام أسبوعياً بقبة الشيخ حمد النيل بأمدرمان
تذكر عالمة الآثار السودانية بروفيسور انتصار صغيرون أن منشأ الطراز المعماري لقباب شيوخ الصوفية في السودان يختلف عن نظيرتها في العالم الإسلامي، حيث أنها مشتقة من الطراز المعماري المحلي قبل الإسلامي، كالأهرامات الكوشية، والبناء المخروطي لقطاطي قبائل الشلك والنوير في جنوب السودان. وتضيف أيضاً أن الطوب الأحمر المستخدم لبناء العديد من قباب عهد الفونج قد تم انتزاعه من خراب الكنائس المسيحية والعمارة المحلية لمملكة علوة، مستنتجة بأن "العناصر الوثنية والمسيحية والإسلامية قد تمازجت لخدمة الإسلام". من جانبٍ آخر فإن الطراز العمراني لقبب عهد الفونج قد تأثر إلى حدٍ كبير بالغزو التركي عام ١٨٢١، حيث أدخلت الإدارة التركية المصرية طرازاً جديداً للقباب، ظهر في القبة التي تبنى فوق قاعدة مربعة.
في وسط مدينة الخرطوم، شمال شرق تقاطع شارعي البلدية والقصر تقف قبتان تمثلان بعضاً من آخر الآثار الباقية التي ترجع لفترة الحكم التركي المصري للسودان، والمعروفة حالياً بقباب الأتراك. شيّدت هذه المباني الجنائزية في مقبرة الخرطوم القديمة، والتي كانت الموقع الرئيسي للدفن بالمدينة في ذلك الوقت. أُحيطت القباب التركية بالقبور، تمامًا كقباب أولياء الصوفية في السودان، ولكن عوضاً عن مدافن المريدين، احتوت تلك المقبرة على بعض من القبور التابعة لها، تضمنت قبوراً للجنود السودانيين الذين جُنّدوا للخدمة في الجيش التركي المصري.
شيدت القبة الشرقية أولاً لدفن أحمد باشا أبو ودان، الحاكم العام للسودان بين عامي ١٨٣٩ و١٨٤٣، والذي توفي في ظروف غامضة بعد إيقاف مهمته لشن غارة على دارفور في آخر لحظات تبعًا لشكوك محمد علي باشا، حاكم مصر، بخيانته وتورطه في مؤامرة. أما القبة الغربية فتحتوي رفات موسى باشا حمدي والذي تولى أيضا منصب الحاكم العام للسودان بين عامي ١٨٦٢ و١٨٦٥، ولكنه عُرف بمُكره وقسوته اللذان استخدمهما للصعود عبر الرتب، وكانت لديه سمعة بأن "القتل والتعذيب لم يكونا بالنسبة له سوى وسائل لقضاء الوقت". وانتهى حكم موسى حمدي عقب وفاته في الخرطوم عام ١٨٦٥ بداء الجُدري.
وفي العقود اللاحقة، تغلب أنصار الإمام المهدي على الحكم التركي المصري في عام ١٨٨٥ وفُككت ودُمرت الخرطوم –عاصمة الأتراك السابقة– للسماح لأمدرمان –عاصمة الدولة المهدية– بالنهوض. كيف إذاً تمكنتا هاتين القبتين من النجاة من غضب أنصار المهدي ومحو الخرطوم بينما كانتا تحويان رفات اثنين من حكام الإدارة التركية المكروهة؟ نجاة تلك القبتين من الخراب يبقى ملحوظاً خاصةً عند الأخذ في الاعتبار أن أنصار المهدية لم يكن لديهم مانع من هدم قباب رجال الدين الصوفيين، حيث سبق أن قام الأمير عثمان دقنة بهدم قبة السيد الحسن الميرغني في كسلا بسبب معارضة الطريقة الميرغنية للمهدية.
إن السبب قد يكون –على سبيل الدهشة– متعلقاً بأهم رموز الدولة المهدية، ألا وهو قبة المهدي نفسه. أن هناك تشابهاً بنيوياً بين القبب التركية وقبة المهدي بأمدرمان، يتجلى في القاعدة المربعة تحت القبة، حيث أن هنالك آراء تقترح بأنّ القبب التركية قد استُخدمت كنموذجٍ معماريٍ لتشييد قبر المهدي، الذي تُوفي بعد فترة قصيرة من تحرير الخرطوم من حكم الأتراك. إنّ الأثر التركي المصري في تشييد قبة الإمام المهدي يتجاوز ذلك، حيث أن خليفة المهدي، الخليفة عبد الله، أوكل للمعماري المصري اسماعيل حسن مهمة بناء القبة، وتم استخدام الأبواب والشبابيك المنتزعة من مباني الخرطوم التركية في تشييد القبة. المثير للسخرية هو أن أعظم رمز للمهدية قد تأثر بشدة بعمارة النظام الذي حارب ضده.
طوال فترة الدولة المهدية، ارتفع رأس قبة المهدي شامخاً لاكثر من ١٠٠ قدم، مما جعلها أكثر معلم بارز على سماء المدينة. فمن خلال بناء هذه القبة المذهلة والتي لم تشابهها أي قبةٍ أخرى في السودان في ذلك الوقت، ظلت سلطة شخصية المهدي مستمرة وامتدت حتى بعد مماته، حيث أصبح ضريحه رمزاً ومقصداً للزيارة من قِبل أنصاره الذين قدموا من كل أنحاء الدولة طلباً للتبرك.
كان البريطانيون على علم بقوة هذا الرمز عند زحفهم لأمدرمان في عام ١٨٩٨ أثناء حملة استرداد السودان. حيث رافق سلاطين باشا –الحاكم السابق لمديرية دارفور في فترة الحكم التركي– حملات السودان بين عامي ١٨٩٦ و١٨٩٨ وأصر على أن أول هدف بأمدرمان يجب أن يكون قبة المهدي. نسبة لأنه كان أسيراً للأنصار لثلاثة عشر عاما، فقد رأى سلاطين بنفسه أهمية وقدسية الموقع كقلب للمدينة. وقد تكون دوافعه أيضاً تأثرت بالأحداث التي جرت عند تحرير الخرطوم في ١٨٨٥، حيث صوّر في كتابه (السيف والنار في السودان) اللحظة التي جلب فيها الأنصار له رأس تشارلز غردون المقطوع، آخر حاكم عام للإدارة التركية.
كان موت الجنرال غردون صدمة للبريطانيين وبات دافعًا كبيراً لحشد الدعم الشعبي ضد السودان حيث "استشعروا الحوجةٌ الماسة لاستعادة الاحترام الشخصي والمؤسسي والوطني". وكانت بريطانيا –على التوازي– قلقة بشأن نوايا القوى الأوروبية الأخرى مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وتأثيرها المتزايد على أفريقيا، والذي دعَّم الحاجة لاسترداد السودان. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن حملات السودان قد قادها السردار هيربيرت كتشنر الذي شارك في حملة إنقاذ غردون الفاشلة بين عامي ١٨٨٤ و١٨٨٥.
قام البريطانيون بجلب الهاويتزر ٥.٥ بوصة، لهدم قبة المهدي وأجزاء أخرى مهمة من المدينة، والتي زُودت بقذائف الليديت شديدة الانفجار التي أُطلقت في معركة أمدرمان للمرة الأولى في التاريخ. وسرعان ما سقطت أمدرمان، حيث أن جيش الخليفة لم يكن نداً للقوة النارية البريطانية والتي قتلت أكثر من ١٢،٠٠٠ من الأنصار. لم تكتف كتائب كتشنر تحت أوامره بضرب القبة فحسب، بل دمرتها تماماً وتمادت أكثر من ذلك بانتهاك قدسية ضريح المهدي بوحشية بالغة، في انعكاس رمزي لمقتل غردون باشا، انتهاءاً بإلقاء رفات المهدي في نهر النيل. ولكن اُنتقد فعل الانتهاك هذا بشدة في الصحف البريطانية بل وفُتح له تحقيق من قبل البرلمان البريطاني. بالرغم من ذلك تم إعلان أن جذوة المهدية تم اخمادها بهدم قبة المهدي، حيث ظلت مدمرة لأغلب فترة الحكم الثنائي للسودان (١٨٩٨ – ١٩٥٦) لتكون تذكير دائم بقوة الامبراطورية البريطانية.
ناشد السيد عبد الرحمن المهدي الحكومة البريطانية باستمرار بأن تسمح له بإعادة بناء ضريح والده، ولكن مطالبه قوبلت بالرفض المستمر خلال الفترة الاستعمارية خوفاً من إعادة إحياء المهدية. ولكن بعد ٤٩ عاماً، سمح البريطانيون أخيراً للسيد عبد الرحمن المهدي بإعادة بناء القبة عام ١٩٤٧. وشُيدت القبة المعاد بناؤها جديداً كذلك على طراز معماري متأثر بعناصر مصرية، فبجانب القاعدة المربعة للقبة، تشير انتصار صغيرون أن القبب الصغيرة الموجودة على الأركان الأربعة لقبة المهدي تشبه تلك الموجودة في الأضرحة المصرية.
وتميز القرن العشرين بزيادة في النشاط الصوفي في السودان، والذي تجلى في بناء قببٍ جديدةٍ بالإضافة إلى ترميم أخرى قديمة، وأصبحت قبة المهدي ذات تأثيرٍ ملحوظ في هذه العملية. فالقبب المبنية حديثاً كانت أكبر وأكثر ألوانًا من القبب التي ترجع لعهد الفونج، وأبدت تصاميمها أبواباً ونوافذَ مفصلة ومساحات داخلية واسعة. ورَوّج لهذه الـ"صحوة الدينية" للطرق الصوفية بشكل خاص المشير جعفر النميري رئيس السودان في الفترة بين ١٩٦٩ و١٩٨٥ والذي ينسب له الفضل في استبدال القبب القديمة وبناء أخرى جديدة، التوجه الذي استمر حتى بعد نهاية فترة حكمه إلى يومنا هذا. وكان لاهتمام النميري دوافع سياسية، حيث اتجه للشعبوية لاستجلاب دعم الطرق الصوفية الصغيرة. وكان تشييد هذه القبب الجديدة مستوحى في معظم الأحيان من طراز بناء قبة المهدي، ولكن هذا التوجه في بناء القبب كان له أثر مباشر على قبب عهد الفونج القديمة، حيث أن القبب المتهالكة من تلك الحقبة هُدمت واستبدلت بأخرى جديدة.
على بعد حوالي ٣٢ كيلومتراً جنوب شرق الخرطوم، يقع أحد أبرز الأمثلة على محو طراز قبب عهد الفونج، ألا وهو ضريح الشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون. فالشيخ إدريس عاش بين عامي ١٥٠٧ و١٦٥٠م وكان عالماً ومستشاراً لحكام الفونج، وهو واحد من أبرز شيوخ الصوفية في السودان حيث تظل قبته مزاراً هاماً حتى هذا اليوم. شُيدت القبة الأصلية بطرازٍ مدَرَّج –وهو طراز استخدم في قبب عهد الفونج– ولكن بعد انهيارها، أُعيد تشييدها بطراز القبب التركية عام ١٩٢٨ وفقًا لعالم الآثار صلاح عمر الصادق. ولكن تُجادل صغيرون عوضاً عن ذلك أن هذا الطراز قد راج بتشييد قبة المهدي. في كلتا الحالتين، فإن التأثير الذي جاء مع الاستعمار قد كان له أثر مباشر على عمارة القباب في السودان، وكما تضعه صغيرون باقتضاب: "فإن التكلفة بالنسبة للمجتمع كانت تعني خسارة جزءٍ من ثقافةٍ متميزةٍ وإرثٍ جماليٍ عبر إزالة القباب القديمة".
كمثل الطِرس، يمكن للقبب أن تُجمِع طبقات من التاريخ والثقافات ترجع إلى قرون من الزمن، فهي تعمل كأرشيف مادي لدية القدرة على صنع جسر بين المدينة التي نعيش فيها والماضي. تمركزت القبب في قلب العديد من التحولات السياسية التي حدثت في السودان، حيث أن مكانتها تجاوزت كونها مجرد أماكن للدفن لتصبح أماكن مليئةٍ بالحياة، والصلاة، والأمل، والاحتفالات والثقافة. فبالرغم من أن الطراز المعماري لقبب الفونج يتعرض للمحو والاستبدال، إلا ان نوع أرشفة وحفظ التاريخ المعطى لشيوخ الطرق الصوفية عبر هذه القبب قويٌّ لدرجة أن أسماءهم ما زالت مذكورةً حتى اليوم، بصورة تجاوزت حتى أسماء حكام سلطنة الفونج.
السؤال هنا هو: هل تجاوز النوع ذاته من التخليد والأرشفة الشخصيات القوية لرجال الدين لكي يشكل ثقافة التذكر في السودان ككل؟ لنحاول الإجابة على هذا السؤال، سننظر إلى الأنواع الأخرى من مساحات الموت الموجودة في الخرطوم لنستكشف وضعها الحالي من ناحية التخليد.
المَقابرُ: مَشهَدُ الدفنِ المُتغيرِ، وأَزمَة المدافنِ
الموقع الذي شُيدت فيه القبب التركية كما ذكر سابقاً، كان يقع ضمن مقبرة الخرطوم القديمة، وهو موقع دفنٍ كان يحتل مساحةً واسعةً من منطقة وسط الخرطوم الحالية، رغم أنّ حدود المقبرة غير واضحةٍ بالتحديد. فعند تشييد مسجد الخرطوم الكبير في أوائل ال١٩٠٠، عُثر على العديد من الرفات البشرية في الموقع رُبطت بمقبرة الخرطوم القديمة. ولاستكمال بناء المسجد أُصدرت فتوى بخصوص المقابر المندرسة بواسطة مفتي السودان أحمد أبو القاسم هاشم، ممكنةً المدينة من إعادة استخدام الأرض التي كانت فيها مقابر الخرطوم القديمة والانتفاع بها. فأبو سليم يذكر بأن المقبرة امتدت شرق المسجد الكبير من ميدان أبو جنزير حتى القبب التركية وسينما كلوزيم. ميدان أبو جنزير –المستخدم غالباً كموقف للسيارات اليوم– يحتوي على رفات الشيخ الصوفي إمام بن محمد، والذي كان في الأصل مدفونًا في منتصف شارع القصر ولكنه نُقل إلى هذا الميدان عندما رُصف الشارع. وبُنيَ ضريح للشيخ داخل الميدان وأُحيط بجنزير، وهذا سبب تسميته بأبي جنزير.
على الارجح ان حدود مقابر الخرطوم القديمة كانت حتى أكبر من ذلك، حيث دُفنت والدة المهدي زينب بنت نصر الشقلاوي داخل مقبرة الخرطوم القديمة –في موقع مستشفى الشعب التعليمي حالياً– خلال فترة الحكم التركي المصري، ويقال أن المهدي زار قبرها بعد تحرير الخرطوم عام ١٨٨٥. فعندما بدأ التنقيب الأثري في مستشفى الشعب في شتاء ١٩٤٤ – ١٩٤٥، قام عالم الآثار أ. ج. آركل بنقل قبر والدة الإمام المهدي، بعد حصوله على الإذن من السيد عبد الرحمن المهدي، لمواصلة التنقيب.
وأظهرت التنقيبات أن الموقع كان مأهولاً بالسكان خلال فترات زمنية مختلفة، ابتداءاً من العصر الحجري الوسيط. وقد عُثر ايضاً على "مقابر ترجع للتاريخ المروي، وبعض المدافن بحجم كامل ولكن من دون أغراض جنائزية. الأخيرة لم تكن إسلامية، وربما ترجع للحقبة التي كانت فيها سوبا عاصمة مملكةٍ مسيحية". بمعنى: أن استخدام هذه المنطقة كمقبرة من الممكن غالباً أن بداياته كانت خلال الحقبة المروية.
بنيت الخرطوم حرفياً فوق أرض مقابر، حيث ان هنالك مقابر أخرى حول العاصمة قد بُنيَ أيضا فوقها وتم محوها بالرجوع للفتوى الخاصة بالمقابر المندرسة، مثل مقبرة الشهداء والتي أصبحت محطة الشهداء، بالإضافة إلى مقبرة قديمة في الموقع الحالي لقصر الشباب والأطفال، واللتان تقعان في أمدرمان.
فالعلاقة ما بين الموت ونسيج الحياة الحضرية للخرطوم مثيرةٌ للاهتمام أكثر عند معاينة الأضرحة العديدة لأولياء الصوفية التي تم استيعابها داخل المؤسسات العامة والمنشآت الخاصة بالمدينة. ويصف صلاح عمر الصادق هذه العلاقة الجاذبة بين مساحات الأحياء والأموات في كتابه (الآثار الإسلامية في منطقة الخرطوم). فعلى سبيل المثال، يوجد ضريح للشيخ إبراهيم صايم الدهرين اليوم داخل مكتب البريد السوق العربي في الخرطوم. ويشرح الصادق أن مكتب البريد بُني حول الضريح في بداية القرن العشرين ولكن ادارة المكتب تكفلت بصيانته وتجديده كأحد من واجباته، حيث أن أتباع الشيخ يقومون بزيارة الضريح بانتظام للتبرك. وقُتل اثنان من شيوخ الصوفية خطأً عند تحرير الخرطوم ١٨٨٥، وهما الشيخ عبد الرحمن الخراساني والذي دُفن في الموقع الذي بنيت به المحطة الوسطى في الخرطوم لاحقاً، والشيخ محمد فايت والذي دُفن في ما أصبح لاحقاً المجلس الأعلى لحماية البيئة. فهذه الأضرحة الصوفية وغيرها موجودةٌ وسط المكاتب والمباني الحكومية حول المدينة في تحدٍ للزمن، وتعتبر جزءاً من التراث الصوفي لمدينة الخرطوم حيث أنها مزار لأتباع الصوفية، مما يعطي المدينة بُعداً روحانياً. لكن بالرغم من ذلك فإن الوجود المستمر لهذه الأضرحة يشهد بأن المقابر ليست دائماً مخلَّدة بصورة تسمح لها بالبقاء المستمر لأجيال عدة كمثل أضرحة شيوخ الطرق الصوفية، مما يعرضها لخطر الاندثار.
هنالك جانب آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو موقع المقبرة بالنسبة للمدينة. فبينما كانت تتواجد مقبرة الخرطوم القديمة على أطراف المدينة عندما كانت مستخدمة، يذكر أبو سليم أن المقابر في عهد المهدية كانت متموضعة في وسط المدينة. ولكن بسبب المخاطر الصحية التى نُسِبت للقرب من المقابر، قام الخليفة عبد الله بتخصيص مساحات واسعة من شمال أمدرمان لمقابر جديدة، والتي أصبحت معروفة لدينا بمقابر البكري، وأحمد شرفي، والجمرية. ومعظم المقابر في الخرطوم أُسست بصورة مماثلة على أطراف المدينة مثل: حمد، وخوجلي، وحمد النيل، والصحافة، وبري، والكومنويلث، وغيرها. ولكن عندما نمت المدينة من موجات الهجرات في العقود اللاحقة، أصبحت المقابر محاطةً مرة أخرى بالمدينة كأثرٍ جانبيٍ طبيعيٍ لعملية التمدن. فإن المشكلة التي برزت من خلال هذه العملية، هي أن المقابر لن تكون قادرةً على التوسع ومجابهة الضغوط الجديدة التي تأتي مع النمو السكاني في المدينة. ونسبة لذلك شهد العقد السابق سيلاً من المقالات الإخبارية التي تناقش أزمة قبور تحدث في الخرطوم.
بسبب العادات الثقافية والدينية، فإن عملية الدفن في السودان تاريخيًا كان يتكفل بها إما عائلة المُتوفى، أو أفراد متطوعين حيث أنه لم تكن هنالك جهة حكومية رسمية أو خاصة تبنت هذه المسؤولية. ومن دون وجود جهة لتنظيم الدفن وتخطيط مساحة المقابر، فإن عملية الدفن كانت تتم بطريقة عشوائية وبقلة أخذٍ في الاعتبار لاستهلاك المساحة. وبسبب هذه الظروف وأخرى عدة، أُسست منظمة حسن الخاتمة غير الربحية في عام ٢٠٠٠.
قامت وما زالت منظمة حسن الخاتمة لتعمل على تحسين بيئة المقابر عموماً وذلك بتنظيم الدفن، وصيانة مباني خدمات المقابر وزراعة الاشجار والتسوير والاضاءة وغيرها. ولكن على الرغم من عمل المنظمة يبدو أن المشاكل التي تواجه المقابر قد استمرت. فمعظم الأشخاص الذين يقومون بدفن أحبائهم اليوم في الخرطوم يختبرون المهمة الصعبة جداً لحفر قبرٍ وإيجاد قبرٍ آخر مكانه ثم القيام بتكرار المهمة حتى العثور على مكانٍ خالٍ للدفن.
فنسبة لاستشعارها بوجود مشكلة حقيقية بالدفن في المدينة في ذلك الوقت، قامت منظمة حسن الخاتمة بتنظيم مؤتمر في عام ٢٠٠٩ يطرح سؤال "أين ندفن موتانا وقد امتلأت المقابر؟" وخلال هذه المؤتمر، عُرضت أمثلة عديدة من حول العالم الإسلامي كحلول بديلة محتملة للتعامل مع أزمة الدفن، والحل الذي حظي على إقبال مجتمعي كان الاقتراح الذي يدعو لإنشاء مقابر جديدة. فدعت منظمة حسن الخاتمة لهذا الحل لدرجة أن وزارة التخطيط العمراني أقرت بالحوجة لتأسيس مقابر جديدة، وتبعًا لذلك قامت بتخطيط 52 مقبرة جديدة في الخطة العمرانية للخرطوم لعام ٢٠٣٠. بالرغم من أن القليل من المقابر الجديدة تم أُنشاؤها بالفعل، إلا أن معظم هذه الخطط لم تنفذ بعد حيث أن الوزارة وجدت أن العديد من المواقع المقترحة غير مناسبة وتحتوي عدداً من المشاكل.
بجانب أنه في الأصل، الحل الذي يقترح إنشاء مقابر جديدة يتجذر من منظور تخطيطي للمدينة، إلا أن علاقة مقابر الخرطوم بالتخطيط تنتهي عند حدودها. فبعكس الاهتمام المعطى لتخطيط وصيانة قبب أولياء الصوفية وترابطها مع أماكن العيش، إن المقابر منفصلة تماماً عن المدينة ولا تولى نفس القدر من الاهتمام والرعاية. والمقابر في الخرطوم في الحقيقة مهملة تماماً من حيث عملية التخطيط والتصميم، ومعظم عمليات الدفن يتم القيام بها بصورة بعشوائية.
ومع استمرار أزمة الدفن، يشرح د. علي بخيت، أحد مؤسسي منظمة حسن الخاتمة، أن طقوس الدفن الإسلامية في الأساس تسمح للمقابر بالاستدامة، حيث أن الجسم يتحلل كلياً تقريباً، وبالتالي فإن القبر يمكن إعادة استخدامه بعد عقود. وفصَّل أكثر بالإشارة إلى أن الدفن في مقابر المسلمين تستمر بالنشاط لقرون، مستشهداً بمقابر البقيع في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية ومقابر حلة حمد ببحري (٤٠٠ عام).
بأخذ وجهة نظر د. علي في الحوار مع النزعة الحالية للدفن وكذلك فتوى المقابر المندرسة التي رُجع إليها عند إنشاء الخرطوم في بداية القرن العشرين، فإن هناك بعضاً من التناقضات تتجلى. إن الروابط العاطفية للسودانيين تجاه أماكن دفن عوائلهم تعزز رغبتهم في الاستمرار في الدفن فيها مما يضع ضغطاً كبيراً على المقابر، لدرجة أنه في ٢٠١٨ صرح المجلس التشريعي لولاية الخرطوم بأن المقابر في الخرطوم قد "اصبحت شبه ممتلئة" و"لا يمكنها استقبال المزيد من المتوفين"، حيث أن ٢٠٠ شخص يتوفون يومياً في الولاية. فإذا وافق الجمهور فعلاً على الدفن في مقابر جديدة سيتم إنشاؤها، ماذا سيحدث للمقابر التي وصلت حد الامتلاء اليوم؟ هل سيُبنى عليها كما الحال في مقابر الخرطوم القديمة؟ أم أن المقابر نفسها سيُعاد استخدامها كما يقترح د.علي؟
في داخل هذه المتاهة، يستمر المخططون والمعماريون بتجاهل المقابر، مجبرين إياها أن تظل مساحات غير مخططة مستثناة من البيئة المبنية، رغم أن المقابر تأخذ حيزاً كبيراً داخل المدينة. وبسبب المساحات الكبيرة التي تحتلها خصوصاً، فإن هناك تهديد حقيقي لهذه المقابر الممتلئة من زحف المدينة في حال توقفت عن قبول المدافن وأصبحت غير نشطة، تماماً كما حدث تاريخياً لمقبرة الخرطوم القديمة.
ربما يكون التهديد للمقابر مرتبطًا لدرجة كبيرة مع علاقتها المضطربة بالمدينة. فبينما تظل المقابر معزولة ومفتقرة للتصميم الذي يجعلها قادرة على تلبية حاجات الزوار التي تتخطى الدفن، فإن الرباط العاطفي بالمكان يقل مع الزمن. وهذه العلاقة المتهالكة في مواجهة الزحف الحضري الجاري ربما تقلل من قيمة تخليد المقابر والحفاظ على تواريخها. فإن كنا بالفعل بصدد الحفاظ على مقابرنا وتجنب محوها، فهناك حاجة ماسة لإعادة تصميم جذري وتدخل مساحي لإقناع عامة السكان بضرورة الحفاظ على المقابر داخل المدينة في المستقبل.
النُّصُبِ التذكاريّة والجدال حولها:
بعيدًا عن مساحات الدفن –سواءً كانت مقابر أو قباب– فإن النُّصُب التذكارية يمكن اعتبارها مساحات موت نسبة لعلاقتها الرمزية بالموت والتخليد، حيث أنها تستخدم أحيانًا لتخليد ذكرى أفراد توفوا، وفي أحيان أخرى تُعلم المواقع المرتبطة بتاريخ وذكريات الموت، والعنف والصدمة. وضمن الأخيرة، فإن تشييد النصب التذكارية يسمح لمساحات الموت أن تصبح ميادين تربط بين المساحات الخاصة والعامة حيث انها "توفر مساحات لعدد من الأغراض، بما فيها الحزن الشخصي، والتضامن الروحي، والتأمل الخاص من جانب، وكذلك التواصل الشعبي والحوار الديموقراطي من جانب آخر". فالنصب التذكارية تعطي المجال لقيام هذا الحوار نسبه لأنها تسكن الفراغ العام ولها دور في الاعتراف الشعبي بضحايا العنف والانتهاكات.
إن من أبرز الأحداث الاخيرة التي ارتبطت بالموت وشكلت جزءاً من ذاكرة الخرطوم هي مجزرة ٣ يونيو ٢٠١٩ التي صاحبت الفض العنيف لاعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة الذي دام لشهرين. لإسقاط نظام البشير العسكري ذو ال٣٠ عاماً، اتجه المتظاهرون للشارع بدايةً من ديسمبر ٢٠١٨، ووصلت الثورة ذروتها عند احتلال المتظاهرون لمنطقة القيادة العامة للقوات المسلحة في ٦ أبريل ٢٠١٩. امتدت حدود الاعتصام من قيادة القوات البرية والبحرية والجوية وسلاح المدفعية وحتى مجمع الوسط لجامعة الخرطوم. وفي خلال هذين الشهرين، أصبح الاعتصام مدينة مصغرة تمثّلت بها المُثل العليا للثورة السودانية –حرية، سلام وعدالة– وغدت مكانًا يتيح لكل السودانيين من أنحاء البلاد أن يتجمعوا ويتعايشوا مع بعضهم. فساحة/حدث الاعتصام شهدت إنتاج مساحة عامة لا مثيل لها في تاريخ السودان، مما جعلها مركزًا لكل أنواع النشاطات في المدينة.
قامت القوات الأمنية في صبيحة الثالث من يونيو بفض الاعتصام بعنف، حارقة الخيام ومطلقة نار الرصاص لقتل المتظاهرين، وتمادت حتى ألقت جثثهم في نهر النيل. أُعلن بعدها أن حوالي ١٢٧ شخصاً قتلوا من الفض العنيف لاعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة، مع تقدير البعض بأن عدد الوفيات قد تعدى ذلك بكثير حيث أن أكثر من ١٠٠ شخص قد أُعلنوا كمفقودين.
في الثالث من يونيو، تغيّرت كيفية رؤية وارتباط الناس بهذه المكان بصورة جذرية، حيث أنّ كل آثار احتلال الموقع مُحيت وجدارياته طُمست، في محاولة لمحو الذاكرة الجمعية للاعتصام. فعلاقة موقع الاعتصام بسلطة الدولة هو السبب الرئيسي لاحتلال المتظاهرين له في الأساس، ولكن هذه السلطة نفسها استُخدمت لتأكيد خلو المكان من أي نوع من تخليد ذكرى الاعتصام وضحايا المجزرة. تحت عين الجيش المُراقبة، يقود المارة مركباتهم خلال ما كانت تعتبر من قبل يوتوبيا سودانية، تحوّلت الآن إلى ساحة موت بعد أحداث الثالث من يونيو العنيفة.
أصبحت دعوات تخليد ذكرى الثورة وشهدائها مركزاً للنقاشات حول الأماكن العامة في الخرطوم حيث أُعيدت تسمية شوارع وأماكن عامة بأسماء الشهداء ورُسمت جداريات جديدة لإحياء ذكراهم. ولكن عند الأخذ في الاعتبار نوع تخليد الذكرى الذي حدث نتيجةً للثورة السودانية، فقد يظهر سريعاً أن التذكارات تقف بصرامة بحدود إعادة تسمية الشوارع والطلي على حوائط موجودة مسبقاً. وبالرغم من تداول مقترحات لتشييد نصب تذكاري جديد لشهداء ثورة ديسمبر حول مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه لم يتم اتخاذ أي خطوات أبعد من ذلك لتمكين أي مشاريع مشابهة من النشوء على أرض الواقع. وفي هذا الصدد، فقد كان تخليد ذكرى الثورة محدوداً جداً ولم يتضمن اعتباراً مكانياً لصنع نصب تذكاري جديد ملموس. وفي الحقيقة، قد كان هناك نقاش كبير عن النصب التذكارية، خاصة تلك التي قامت على شكل التماثيل.
في يوم ٢٤ يناير ٢٠١٩، شارك عبد العظيم أبوبكر في مظاهرة في شارع الأربعين بأمدرمان والتُقطت صورة له وهو يواجه القوات الأمنية قبل لحظات من إطلاقهم النار عليه واستشهاده. وانتشرت صورة وقفته الأخيرة البطولية على وسائل التواصل الاجتماعي مما دفع الفنان حسام عثمان ومعه عاصم زرقان ورامي رزق لصنع تمثال للشهيد عبد العظيم. كان من المفترض أن ينصب التمثال في نفس الشارع الذي استشهد به، ولكن تم رفض بشدة تشييد تمثال في الحي؛ حيث أنه يُنظر إليه على أنه مخالف للتعاليم والتقاليد الإسلامية. وبعد فشلهم في نصيب التمثال، أبلغ الفنان حسام أنه بعد شهور قليلة، اقتحمت جهات مجهولة بيته وقامت بتحطيم التمثال.
إنّ تحطيم تمثال الشهيد عبد العظيم هو فقط أحدث إضافة لتاريخ طويل يعود لعقود من رفض تشييد التماثيل في السودان. فاليوم، معظم النصب الموجودة حول العاصمة هي قطع تجريدية ومن النادر إيجاد أي واحدة تنسب لتاريخ السودان، وبالطبع لا توجد تماثيل في الأماكن العامة. ولفهم جذور هذه الظاهرة، من المهم النظر لتاريخ محو التماثيل في المدينة.
إن أول تمثال نُصِّب في تاريخ السودان الحديث كان لتشارلز غردون، حيث ارتبطت إعادة إحياء مدينة الخرطوم تحت الإدارة الانجليزية المصرية بتخليد ذكرى مقتل غردون باشا. فكان أول فعل قام به كتشنر بعد هزيمة الأنصار في معركة كرري بأمدرمان هو قطع النهر وصولاً إلى الخرطوم وعمل جنازة شعائرية لروح غردون باشا في نفس الموضع الذي لقى حتفه بأنقاض قصر الحكمدارية، في أداء لحداد عام له. وبعدها مباشرة بدأ كتشنر بتخطيط الخرطوم ووضع الأفكار التأسيسية لكل من كلية غردون التذكارية –جامعة الخرطوم الآن– وتمثال لغردون باشا.
في واحد من أهم الشوارع في الخرطوم، دُشّن تمثال برونزي لغردون وهو يمتطي جملاً في ١٩٠٣ مواجهاً الجنوب وكأنه يشرف على استحكامات الخرطوم التي دافع بها المدينة ضد الأنصار. موقع التمثال أمام القصر الجمهوري بالإضافة لتسمية الشارع الذي وضع فيه على غردون (شارع الجامعة الآن) –الشارع الذي ربطه بكلية غردون التذكارية– تجلى بهما الاختيار المقصود لموقع هذا التمثال في مركز ثقل الحكم الاستعماري في السودان.
ووُضِع تمثال آخر استعماري يمثل كتشنر كذلك عام ١٩٢١ لتخليد دوره في فتح السودان بعد موته المفاجئ قبل سنوات قليلة. حيث صُنع هذا التمثال من الأعيرة النارية الفارغة التي جُمعت من مواقع المعارك ووُضع أمام مكتب الحرب (وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي الآن)، مواجهاً شارع كتشنر (شارع النيل الآن) والنيل الأزرق.
إن تنصيب تمثالي غردون وكتشنر بالإضافة لتسمية شوارع وميادين هامة في المدينة عليهما كان تمثيلاً ملموساً للسلطة الإمبريالية البريطانية على السودان، كما يشرح سافاج عن النصب التذكارية عامةً:
"النصب التذكارية العامة هي أكثر الأشكال التذكارية محافَظةً بالضبط لأنها تُقصد بالبقاء، دون تغيير، إلى الأبد. بينما تأتي أشياء أخرى وتمضي، وتضيع وتُنسى، يفترض أن يبقى النصب التذكاري كنقطة ثابتة، مرسخاً كلّاً من المشهد المادي والمعنوي. فالنصب التذكارية تحاول أن تشكل مشهداً من الذاكرة الجمعية، لحفظ ما يستحق التذكر والتخلص من الباقي".
ولكن هذه التماثيل لم تظل نقطة ثابتة للشعب السوداني، حيث رُفضت، وبدأت تصفية حسابات الموروث الاستعماري بعد الاستقلال بفترة قصيرة. يذكر أبو سليم على أن التمثالين كانا من مواقع المقاومة للحركة الوطنية، فمنذ عام ١٩٤٩ نُشرت مقالات صحفية عدة تنتقد وجود هذين التمثالين، وبالتالي وجود الاستعمار في السودان ككل. وأصبح التمثالين مواقع نزاع ونقاش مطول استمر قرابة عقد، ولكن لم تأت إزالتهما إلا بعد الاستقلال عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبود في ١٩٥٨. وأرادت حكومة عبود العسكرية المؤسسة حديثاً أن تؤدي عملاً لافتاً للأنظار يضفي عليها سمات الوطنية ويعطيها الشرعية فقامت بإرجاع التمثالين شحناً للبريطانيين بلندن. وسرعان ما لحق ذلك محوٌ للأسماء المتعلقة بالاستعمار، فأصبح شارعا غردون وكتشنر شارعي الجامعة والنيل. بينما كانت إزالة تمثالي غردون وكتشنر مدفوعة بمشاعر وطنية ضد الاستعمار، لكنهما وضعا علامة البداية لاجتثاث كل التماثيل التي نصبت لاحقاً في الخرطوم.
في العقود التالية، بدأت تُنصب التماثيل في مدن مختلفة في السودان. ففي بورتسودان نُصب تمثال للقائد العسكري المهدوي عثمان دقنة، وفي رفاعة لتخليد ذكرى بابكر بدري –رائد تعليم المرأة في السودان– نُصب تمثال له في أول مدرسة قام بتأسيسها. وأيضاً بعد ثورة ١٩٦٤ على نظام عبود العسكري، نُصبت تماثيل لأحمد القرشي وبابكر عبد الحفيظ اللذان استشهدا في التظاهرات الطلابية في جامعة الخرطوم. وقامت أيضاً الجالية الهندية بأمدرمان بتنصب تمثال لغاندي. ولكن لطالما وُجِد نزاع حول وجود التماثيل في الأماكن العامة، ومع صعود التيار الإسلاموي في البلاد بدايةً من الثمانينيات، اُستُنكرت التماثيل كأصنام وحُطِّم معظمها. حتى التماثيل المصنوعة بواسطة طلاب كلية الفنون الجميلة واجهت هذا الاستنكار. فنظام البشير الذي صعد للسلطة في ١٩٨٩ قوّى هذا المنظور أكثر عن التماثيل والنصب التذكارية، لدرجة أن وزير السياحة والآثار والحياة البرية السابق محمد عبد الكريم الهد صرح في المحكمة قائلاً: "لم تطأ قدمي أرض المتحف الوطني طوال فترة وجودي في الوزارة لأن المتحف يحوي أصناماً"، مشيراً إلى تماثيل الممالك الكوشية.
لكن الجدال الديني حول تمثيل الأشكال البشرية لا يتناقض مع فكرة التخليد في ذات نفسها وإنما هو جدال حول الشكل المستخدم. فإنّ الأفكار، والأحداث والأشخاص المخلدة، هم جوهر النصب التذكارية بدلًا عن الشكل المختار لتمثيلهم. وبالتالي فإن عملية التخليد ينبغي أن تستجيب لقيم واحتياجات المجتمع، متبنيةً الشكل الأكثر ملائمةً وقُبولاً لتخليد الذكرى والذي يسمح بحفظ التاريخ. وخلال هذا الجدال، يجب أن نلاحظ أن هناك اختلافاً جذرياً بين إزالة تماثيل الإرث الاستعماري وإزالة التماثيل التي تنسب للتاريخ السوداني الوطني بعد الاستقلال. فلقد رُفضت تماثيل الاستعمار ليس فقط بسبب شكلها، ولكن بسبب الصورة الأيقونية الإمبريالية التي فُرضت على الشعب السوداني، إلى حد أنها أصبحت ساحات للمقاومة ضد الاستعمار ككل. ولكن هذه الساحات اختفت بعد إزالة التماثيل الاستعمارية، حيث أنها لم تُستبدل بنصب تذكارية تصون القيمة التاريخية وعلاقة السكان بتلك الساحات. وبعيداً عن التوتر المحيط بشكلها، فإن النصب التذكارية لا تزال لها المقدرة على الوجود، ولكنها تُزال باستمرار دون أي استبدال، بالرغم من حقيقة أنها تعمل على عكس المُثُلِ والقيم التي تَهمّ الذاكرة الجمعية للشعب السوداني.
إنّ فراغ التمثيل المادي للتخليد في الخرطوم يؤثر سلباً على المشاريع التي تهدف إلى تخليد ذكرى ضحايا العنف والانتهاكات، تاركةً تاريخهم لأن يظل غير مُعترَفًا به بشكل كبير ومهدداً بالمحو. وفي هذا الصدد، يمكن أن تُقرأ مجزرة اعتصام القيادة العامة كاستمرار للعنف المُرتَكب من قبل الدولة ضد شعبها، والتي يظل معظمها دون مواقع للذكرى. فلم نشهد حتى الآن نُصباً تذكارية للحربين الأهليتين في السودان (١٩٥٥ – ١٩٧٢) و(١٩٨٣ – ٢٠٠٥)، والتي تعتبر الأخيرة واحدة من أطول الحروب الأهلية في التاريخ والتي تسببت في وفاة مليونين ونصف من الضحايا. وتبقى الإبادة العرقية بدارفور كذلك بلا تخليد وتذكارات، والتي قُتل خلالها ٣٠٠ الف شخص استناداً على تقديرات الأمم المتحدة. كثُرت الانتهاكات والمجازر في السودان، مع القليل جداً من الاعتراف والعدالة.
فبالرغم من إقامة بعض المناسبات التذكارية، خاصةً لشهداء ثورة ديسمبر، يجب أن نلاحظ أن إقامة النصب التذكارية –لكلٍ من الأحداث الحديثة والتاريخية– لها دورها الهام في عملية العدالة الانتقالية، والتصالح والديمقراطية. فإن تخليد الذكرى يتيح المجال للمجتمع للتحاور عما يجب أن يتم تذكره كجزءٍ من عملية بناء هويتنا القومية، كما أنه يرسخ الحقيقة ويقوم بتعليم الشعب عن تاريخ المعاناة الفظيع الذي مر به الشعب السوداني، من أجل أن يتم استيعاب الماضي وتجنب إعادته في المستقبل. فإن إسكات القصص التي تحكي عن هذا التاريخ بعدم السماح للنصب التذكارية بالوجود يُقوّض هذه العملية ويشتت إمكانية التصالح والتعافي.
في داخل كلٍ من الأشكال المختلفة لمساحات الموت التي اُستُكشِفت في هذا المقال، هنالك عملية محو تحدث لتلك المعالم بمختلف الدرجات. فقباب رجال الصوفية التي شُيّدت خلال سلطنة الفونج يتم إزالتها واستبدالها بطرز معمارية حديثة ومعاصرة، مهددةً بعض من أهم الموروثات المعمارية والأثرية في السودان. وإنّ مشهد المقابر في الخرطوم على الجانب الآخر تغير جذريًا خلال القرن الماضي، مع محو بعض المقابر والبناء فوقها لافساح المجال للتطور العمراني بالمدينة. ففي العقود القليلة الماضية، تمدن الخرطوم كان يضغط على المقابر الحضرية الموجودة، قائداً إياها إلى الامتلاء حتى الطفح ومواجهة مستقبلٍ مجهول. ففي خضم هذه الضغوطات، احتمالية محو المقابر الحضرية من الممكن جداً أن يتم تكرارها. وأخيراً ومنذ الاستقلال، فإن النصب التذكارية كانت تمحى وتزال باستمرار من المدينة بسبب التوترات السياسية والدينية المحاطة بها.
فديناميكيات المحو المختلفة هذه تتأثر بفاعلين متعددين وتُحكم بسياسات الذاكرة والتذكر، ولكنها كلها تُلمّح إلى أن هناك مشاكل حقيقية تواجه تخليد ذكرى مساحات الموت في المدينة وربما حتى الدولة ككل. بالرغم من ذلك، يجب علينا الاعتراف بأن هنالك قيمة للحفاظ على مساحات الموت وثقافتها المادية حيث أنها تخدم كأرشيف لإرث الماضي وتحمل القدرة على تغيير فهمنا للتاريخ والمدينة جذرياً. فمثال قباب شيوخ الصوفية يوضح القدرة الكامنة للتخليد والتذكارات على حفظ تاريخ يرجع لقرون من الزمان، مُمَكّنةً هذه المساحات من أن تحافظ على صلتها بواقع حياة الناس لتصبح في بعض الأحيان جزءاً من المشهد الاجتماعي والسياسي، مع اكتسابها طبقات جديدة من المعاني والارتباطات. وبدراسة علاقة القباب بالمدينة التي تُمكّنها من تجاوز دورها كأماكن للدفن لتصير مقاصد حيوية المجتمع، يمكن إيجاد فرص لاستخلاص وتنفيذ بعض من الأفكار الجوهرية على الأنواع الأخرى من مساحات الموت المهددة بالإزالة. فربما عبر "استعارة" بعض العناصر التي أدت إلى نجاح القبب يمكننا السماح بثقافة التخليد في السودان للتوسع من الحقل الديني والروحي وصولاً إلى المدني كطريقة لعكس الذاكرة الجمعية للمدينة والدولة ككل بالنسبة للموت.
نُشرت مقالة "مساحات الموت في الخرطوم" لمي أبو صالح لأول مرة في مايو ٢٠٢١م، كجزء من مشاركة فريق ستوديو ايربان في مشروع معهد جوته في السودان، "السودان يتحرك".
ومنذ ذلك الحين، حَدَثت العديد من الأحداث التي غيَّرت حياة الناس، وغيرها من التطورات المهمة التي أثَّرت على مدينة الخرطوم والسودان ككل. وتمنح هذه الأحداث المقالة أهمية جديدة وأكثر إلحاحاً، وتَطرَح تحديات إضافية للطريقة التي نفكّر بها في معايير ما يُسمَّى "مساحات الموت"؛ وكيف ترتبط بالمدينة.
كان لوباء كوفيد ١٩ في عام ٢٠٢١م تأثير مدمّر على كبار السن، والسكان المعرضين للخطر في السودان، حيث تَخلَّت آلاف الوفيات المرتبطة بالوباء، في مرافق الحجر الصحي، عن طقوس الدفن التقليدية؛ بدءاً بغسل الجثث في المنزل. واكتسبت المقابر، إحدى الأنواع الثلاثة لمَنَاظِر الموت التي تمت مناقشتها في المقالة، هالةً مخيفة، وزاد الخوف من المرض بشكلٍ كبير بسبب صور أكياس الجُثث التي يتم إنزالها في القبور من قبل مسؤولي الصحة. لم تعد هذه المشاهد المميتة -أماكن التجمع الاجتماعي- كما كانت في أيام ما قبل الجائحة.
مع اندلاع الحرب في الخرطوم في أبريل ٢٠٢٣م، والعنف والدمار الذي انتشر بسرعة إلى أجزاء أخرى من السودان، اخترق "فضاء" الموت حدود مقابر الخرطوم، وامتدَّ إلى فضاء الحياة. وانتشرت صور الجثث الملقاة في الشارع وقصص الكلاب الضالة التي تلتهمها، أما بالنسبة لأولئك المحظوظين الذين دُفنوا، فقد تم ذلك في قبور مؤقتة في الساحات العامة أو في ساحات منازل الناس. وقد أصبحت اليوم هذه المقابر معالم ومواقع تذكارية بدائية، وهي نوع من مساحات الموت التي نوقشت في المقال، لتُذَكِّر الخرطوم بوحشية الحرب. وتُوَضِّح مي أبو صالح في قسم: عن الأصول التاريخية للمدينة: "لقد بُنيت الخرطوم حرفيَّاً فوق مقابر". ومن عجيب المفارقات، ونتيجةً للحرب، أن المدينة تعود إلى هذه الأصول.
إن قباب شيوخ الصوفية هي المشهد الثالث للموت الذي تستكشفه مي، إذ شَرَحت كيف أن هذا هو المشهد الوحيد للموت الذي يتحمَّل مرور الزمن، ويُقاوِم النسيان. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كانت هذه الهياكل المادية قد نَجَت من ويلات الحرب أم لا، حيث تم تدمير العديد من المباني والهياكل بالنيران أو القصف. وعندما يتوقف القتال، هل يمكن إعادة بناء القباب المدمرة أو التالفة، وبأية طريقة، وكيف سيضيف هذا طبقةً أخرى من التاريخ إلى تلك التي تراكمت على مرّ القرون؟
وأخيراً، ما هو شكل تخليد ذكرى الحرب وضحاياها في السودان والخرطوم؟ يبدو أن مثل هذه اللحظة الحاسمة والدموية في تاريخ السودان تستحقّ أكثر من تخليد الذكرى المُعتَاد الذي تصفه أبو صالح في المقال، مثل تسمية عدد قليل من الشوارع أو الساحات العامة تخليدًا لذكرى شخصٍ أو حدث.
سارة النقر، محررة وكاتبة
تخليد الذكرى ضمن مساحات الموت في الخرطوم
بقلم: مي أبو صالح – ترجمة: هالة جعفر
مساحات الموت –على النقيض لما يوحيه الاسم– هي في الواقع أماكن حيويَّة للمدينة، حيث طَوَّرت كلّ ثقافةٍ إنسانيةٍ أساليب تعبيرٍ وبناءٍ جنائزيٍّ مختلفة، تترادف مع المعتقدات والقيم المحلية، مما يعطي نظرةً عميقةً لهذه الثقافات. ولكن أهمية هذه المساحات تبقى مختفية في الغالب عن الحوار العام، حيث أنها غالباً ما تزاح جانباً ولا تعطى إلا قليلاً من التفكير والتأمل.
في هذا المقال نهتم بمعاينة المقابر في الخرطوم، بالإضافة إلى الأماكن الأخرى المرتبطة بالموت في المدينة لنفهم الأدوار التي تقوم بها بجانب الدفن. وبالتالي سيُستَخدَم مصطلح "مساحة الموت Deathscape" لتحديد متطلبات ما يمكن اعتباره "مساحة" للموت وكيفية ارتباطه بالمدينة. فمصطلح "Deathscape" نفسه حديث نسبيّاً وتم تبنّيه من الخبراء "لوصف كل الأماكن المتعلقة بالموت والموتى، وكيف تصطبغ هي بمعانٍ وأشياء ذات صلة: مثل موقع الجنازة، وأماكن المثوى الأخير وذكرى الموتى، وكل طرق التمثيل لهؤلاء." فإن تبنّي هذا المنظور أثناء معاينة العلاقات والتداخل بين الأحياء والموتى يمكّننا من رؤية المدينة بطرقٍ مختلفة، حيث أنه "لا تكون هذه الأماكن مشحونةً بالعواطف فحسب، بل هي كثيراً ما تكون خاضعةً للصراع الاجتماعي والسلطة."
لكشف الغطاء عن هذه العلاقات، ستتم معاينة ثلاثة أنواع من مساحات الموت في الخرطوم: قباب الأولياء والصالحين، المقابر، وأخيراً النصب التذكارية في المدينة. إن كلاًّ من هذه الأنواع سوف يمكِّننا من رؤية تأثير مساحات الموت عبر عدة موازين: المبنى والمشهد والموضوع. بمعاينة تاريخ هذه الأنواع وطبيعة العوالم التي تسكنها - سواءً كانت روحانية و/أو مدنية- فإن هذه المقالة تناقش بأنّ لمساحات الموت القدرة على لعب دور أرشفة ملموسة تحتفظ بتاريخ المدينة بتراكم الحكايا المرتبطة بها. وعبر هذه العملية، فإن أماكن الموتى تقاطعت مع أماكن الأحياء وصارت مواقع صراع تتجلَّى فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية في المدينة. فمنطقة وسط الخرطوم، كمثال، تَقبع فوق موقع دفنٍ قديم، تمَّ إغلاقه والبناء فوقه في بداية القرن العشرين، مع بقاء القليل جداً من آثار المقبرة القديمة. على بعد أحياء قليلة، شَهِدَت المنطقة كذلك كثيراً من مشاهد الموت ومعارك المقاومة السودانية ضدَّ حُكمَي الاستعمار التركي المصري والانجليزي المصري، بما فيها تحرير الخرطوم بواسطة الإمام المهدي في عام ١٨٨٥م، وانتفاضة جمعية اللواء الأبيض عام ١٩٢٤م. بالإضافة لذلك، شَهِدت المنطقة الوفيات التي نتجت من أحداث العنف خلال ثورتي ١٩٦٤م و١٩٨٥م الوطنيتين، وفي تاريخٍ أحدث: مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩م. هذه الوقائع السياسية العديدة حَدَثَت بالقرب من وسط الخرطوم نسبةً لعلاقتها بمقعد السلطة في الدولة، وبالتالي فإن الوفيات الناتجة عن هذه الأحداث تُمَيِّز الموقع عن غيره في العاصمة.
بالنظر إلى تأثير مساحات الموت في الخرطوم عبر الأنواع المختلفة التي سنقوم بعاينتها، يحاول هذا المقال فهم العلاقة ما بين الموت وتخليد الذكرى في المدينة للكشف عن من وما الذي تُخلّد ذكراه، وماذا يخبرنا التاريخ عن أحوال تخليد الذكرى في الخرطوم.
القُبَبُ وقُوّةُ التّأْثيرِ المِعْمَارِي:
لا يمكن أن يبدأ النقاش عن مساحات الموت في الخرطوم من دون الاعتراف بواحدة من أكثر مساحات الموت أهمية لتأثيرها المعماري والأثري، والتي حَظِيَتْ بأثرٍ عميق على المجتمع السوداني، ألا وهي القباب التي هي أماكن دفن الأولياء والصالحين.
خلال القرون الخمسة الماضية، برزت القباب برسمها لخط الأفق بمحاذاة ضفاف النيل، كمَعلَم أساسي في القرى والمدن بوسط السودان وشماله وشرقه. ويبدو أنها ظهرت مع السلالات الحاكمة الإسلامية الأولى في السودان، العبدلاب والفونج، ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين. وخلال القرون التالية، استمرت عملية البناء والمحافظة على هذه القبب متجذرة في المجتمع السوداني، والذي ينظر لها "كـمقاصد للزيارة وأماكن للتضرع الفردي والتذكر الجماعي، ومراكز للحياة الدينية في جوانبها الروحية الاجتماعية."
شهدت منطقة الخرطوم تمركزاً لرجال الصوفية والأولياء الصالحين منذ بداياتها، حيث أسس الشيخ أرباب العقائد –الذي وُلد بجزيرة توتي– أول قريةٍ سُكنت بمنطقة الخرطوم عام ١٦٩١م، والتي صارت مقصداً للعديد من أتباعه وطلابه كذلك. كما أن سياسات الفونج والعبدلاب حرصت على إقطاع الأراضي للفقهاء وإعفائهم من الضرائب حتى يتفرغوا لتدريس علوم الدين. فبفضل ذلك استقر كلٌّ من الشيخ حمد ود أم مريوم والشيخ خوجلي في منطقة بحري الحالية، والشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون، بالاضافة لعدة شيوخ آخرين. وبالتالي فإن توسع منطقة الخرطوم بالتأكيد يمكن ربطه باستقرار وانشطة هؤلاء الأولياء والصالحين.
إن قدرات الشيوخ –التي يطلق عليها الكرامات– تعتبر نِعَماً من الله لا يحدها حتى الموت، الأمر الذي يجعل مدافن هؤلاء الشيوخ أماكن حيوية للمجتمع. ولهذا السبب فإن بعضاً من القباب والأضرحة باتت معروفةً بعلاج أمراضٍ عديدة، بينما اشتهرت أخرى بمساعدة النساء في الخصوبة، وغيرها من القدرات التي تنسب إلى الشيخ قبل مماته. فهذه المعتقدات متجذرة للغاية في المجتمع السوداني، حيث تتردد تواً أسماء الأولياء على ألسنة أتباعهم في أوقات المرض، والمحن، والمخاطر، دافعةً إياهم لزيارة تلك القبب والاضرحة طلباً للبركات. وتكون القباب أكثر قابلية لأن تظل مزاراً عند ارتباطها بالخلاوي أو المسيد، وهي المراكز الدينية للطرق الصوفية والتي تعمل كمؤسسات للعبادة، والتعليم والإرشاد.
إنّ العلاقة الوثيقة التي تربط ما بين الأولياء والمجتمع هي السبب وراء تواجد القباب عادةً بالقرب من مقبرة أو داخلها، محاطةً بقبور أقرباء الولي وطلابه. فهذه المقابر تستعرض ترابطاً مثيراً للاهتمام بين الحياة والممات، إذ هي أماكن مليئة بالنشاط حيث تقام فيها الاحتفالات الدينية باستمرار. فقبة الشيخ حمد النيل في أمدرمان مثلاً تعتبر من أهم البقع السياحية في العاصمة، حيث ثُقام "النُّوبة" كل يوم جمعة، وهي حلقة ذكر تبدأ بمسيرة ما بين القبور والتي تتحول فيما بعد إلى تجمُع ترتل به الأهازيج الصوفية والمدائح مصاحبة كذلك بالرقص. ويُقام أيضاً عدد من الاحتفالات بانتظام هناك، مثل "الحَوْلِيّة" وهي ذكرى وفاة الشيخ، والمولد النبوي الشريف.
احتفال يقام أسبوعياً بقبة الشيخ حمد النيل بأمدرمان
تذكر عالمة الآثار السودانية بروفيسور انتصار صغيرون أن منشأ الطراز المعماري لقباب شيوخ الصوفية في السودان يختلف عن نظيرتها في العالم الإسلامي، حيث أنها مشتقة من الطراز المعماري المحلي قبل الإسلامي، كالأهرامات الكوشية، والبناء المخروطي لقطاطي قبائل الشلك والنوير في جنوب السودان. وتضيف أيضاً أن الطوب الأحمر المستخدم لبناء العديد من قباب عهد الفونج قد تم انتزاعه من خراب الكنائس المسيحية والعمارة المحلية لمملكة علوة، مستنتجة بأن "العناصر الوثنية والمسيحية والإسلامية قد تمازجت لخدمة الإسلام". من جانبٍ آخر فإن الطراز العمراني لقبب عهد الفونج قد تأثر إلى حدٍ كبير بالغزو التركي عام ١٨٢١، حيث أدخلت الإدارة التركية المصرية طرازاً جديداً للقباب، ظهر في القبة التي تبنى فوق قاعدة مربعة.
في وسط مدينة الخرطوم، شمال شرق تقاطع شارعي البلدية والقصر تقف قبتان تمثلان بعضاً من آخر الآثار الباقية التي ترجع لفترة الحكم التركي المصري للسودان، والمعروفة حالياً بقباب الأتراك. شيّدت هذه المباني الجنائزية في مقبرة الخرطوم القديمة، والتي كانت الموقع الرئيسي للدفن بالمدينة في ذلك الوقت. أُحيطت القباب التركية بالقبور، تمامًا كقباب أولياء الصوفية في السودان، ولكن عوضاً عن مدافن المريدين، احتوت تلك المقبرة على بعض من القبور التابعة لها، تضمنت قبوراً للجنود السودانيين الذين جُنّدوا للخدمة في الجيش التركي المصري.
شيدت القبة الشرقية أولاً لدفن أحمد باشا أبو ودان، الحاكم العام للسودان بين عامي ١٨٣٩ و١٨٤٣، والذي توفي في ظروف غامضة بعد إيقاف مهمته لشن غارة على دارفور في آخر لحظات تبعًا لشكوك محمد علي باشا، حاكم مصر، بخيانته وتورطه في مؤامرة. أما القبة الغربية فتحتوي رفات موسى باشا حمدي والذي تولى أيضا منصب الحاكم العام للسودان بين عامي ١٨٦٢ و١٨٦٥، ولكنه عُرف بمُكره وقسوته اللذان استخدمهما للصعود عبر الرتب، وكانت لديه سمعة بأن "القتل والتعذيب لم يكونا بالنسبة له سوى وسائل لقضاء الوقت". وانتهى حكم موسى حمدي عقب وفاته في الخرطوم عام ١٨٦٥ بداء الجُدري.
وفي العقود اللاحقة، تغلب أنصار الإمام المهدي على الحكم التركي المصري في عام ١٨٨٥ وفُككت ودُمرت الخرطوم –عاصمة الأتراك السابقة– للسماح لأمدرمان –عاصمة الدولة المهدية– بالنهوض. كيف إذاً تمكنتا هاتين القبتين من النجاة من غضب أنصار المهدي ومحو الخرطوم بينما كانتا تحويان رفات اثنين من حكام الإدارة التركية المكروهة؟ نجاة تلك القبتين من الخراب يبقى ملحوظاً خاصةً عند الأخذ في الاعتبار أن أنصار المهدية لم يكن لديهم مانع من هدم قباب رجال الدين الصوفيين، حيث سبق أن قام الأمير عثمان دقنة بهدم قبة السيد الحسن الميرغني في كسلا بسبب معارضة الطريقة الميرغنية للمهدية.
إن السبب قد يكون –على سبيل الدهشة– متعلقاً بأهم رموز الدولة المهدية، ألا وهو قبة المهدي نفسه. أن هناك تشابهاً بنيوياً بين القبب التركية وقبة المهدي بأمدرمان، يتجلى في القاعدة المربعة تحت القبة، حيث أن هنالك آراء تقترح بأنّ القبب التركية قد استُخدمت كنموذجٍ معماريٍ لتشييد قبر المهدي، الذي تُوفي بعد فترة قصيرة من تحرير الخرطوم من حكم الأتراك. إنّ الأثر التركي المصري في تشييد قبة الإمام المهدي يتجاوز ذلك، حيث أن خليفة المهدي، الخليفة عبد الله، أوكل للمعماري المصري اسماعيل حسن مهمة بناء القبة، وتم استخدام الأبواب والشبابيك المنتزعة من مباني الخرطوم التركية في تشييد القبة. المثير للسخرية هو أن أعظم رمز للمهدية قد تأثر بشدة بعمارة النظام الذي حارب ضده.
طوال فترة الدولة المهدية، ارتفع رأس قبة المهدي شامخاً لاكثر من ١٠٠ قدم، مما جعلها أكثر معلم بارز على سماء المدينة. فمن خلال بناء هذه القبة المذهلة والتي لم تشابهها أي قبةٍ أخرى في السودان في ذلك الوقت، ظلت سلطة شخصية المهدي مستمرة وامتدت حتى بعد مماته، حيث أصبح ضريحه رمزاً ومقصداً للزيارة من قِبل أنصاره الذين قدموا من كل أنحاء الدولة طلباً للتبرك.
كان البريطانيون على علم بقوة هذا الرمز عند زحفهم لأمدرمان في عام ١٨٩٨ أثناء حملة استرداد السودان. حيث رافق سلاطين باشا –الحاكم السابق لمديرية دارفور في فترة الحكم التركي– حملات السودان بين عامي ١٨٩٦ و١٨٩٨ وأصر على أن أول هدف بأمدرمان يجب أن يكون قبة المهدي. نسبة لأنه كان أسيراً للأنصار لثلاثة عشر عاما، فقد رأى سلاطين بنفسه أهمية وقدسية الموقع كقلب للمدينة. وقد تكون دوافعه أيضاً تأثرت بالأحداث التي جرت عند تحرير الخرطوم في ١٨٨٥، حيث صوّر في كتابه (السيف والنار في السودان) اللحظة التي جلب فيها الأنصار له رأس تشارلز غردون المقطوع، آخر حاكم عام للإدارة التركية.
كان موت الجنرال غردون صدمة للبريطانيين وبات دافعًا كبيراً لحشد الدعم الشعبي ضد السودان حيث "استشعروا الحوجةٌ الماسة لاستعادة الاحترام الشخصي والمؤسسي والوطني". وكانت بريطانيا –على التوازي– قلقة بشأن نوايا القوى الأوروبية الأخرى مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وتأثيرها المتزايد على أفريقيا، والذي دعَّم الحاجة لاسترداد السودان. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن حملات السودان قد قادها السردار هيربيرت كتشنر الذي شارك في حملة إنقاذ غردون الفاشلة بين عامي ١٨٨٤ و١٨٨٥.
قام البريطانيون بجلب الهاويتزر ٥.٥ بوصة، لهدم قبة المهدي وأجزاء أخرى مهمة من المدينة، والتي زُودت بقذائف الليديت شديدة الانفجار التي أُطلقت في معركة أمدرمان للمرة الأولى في التاريخ. وسرعان ما سقطت أمدرمان، حيث أن جيش الخليفة لم يكن نداً للقوة النارية البريطانية والتي قتلت أكثر من ١٢،٠٠٠ من الأنصار. لم تكتف كتائب كتشنر تحت أوامره بضرب القبة فحسب، بل دمرتها تماماً وتمادت أكثر من ذلك بانتهاك قدسية ضريح المهدي بوحشية بالغة، في انعكاس رمزي لمقتل غردون باشا، انتهاءاً بإلقاء رفات المهدي في نهر النيل. ولكن اُنتقد فعل الانتهاك هذا بشدة في الصحف البريطانية بل وفُتح له تحقيق من قبل البرلمان البريطاني. بالرغم من ذلك تم إعلان أن جذوة المهدية تم اخمادها بهدم قبة المهدي، حيث ظلت مدمرة لأغلب فترة الحكم الثنائي للسودان (١٨٩٨ – ١٩٥٦) لتكون تذكير دائم بقوة الامبراطورية البريطانية.
ناشد السيد عبد الرحمن المهدي الحكومة البريطانية باستمرار بأن تسمح له بإعادة بناء ضريح والده، ولكن مطالبه قوبلت بالرفض المستمر خلال الفترة الاستعمارية خوفاً من إعادة إحياء المهدية. ولكن بعد ٤٩ عاماً، سمح البريطانيون أخيراً للسيد عبد الرحمن المهدي بإعادة بناء القبة عام ١٩٤٧. وشُيدت القبة المعاد بناؤها جديداً كذلك على طراز معماري متأثر بعناصر مصرية، فبجانب القاعدة المربعة للقبة، تشير انتصار صغيرون أن القبب الصغيرة الموجودة على الأركان الأربعة لقبة المهدي تشبه تلك الموجودة في الأضرحة المصرية.
وتميز القرن العشرين بزيادة في النشاط الصوفي في السودان، والذي تجلى في بناء قببٍ جديدةٍ بالإضافة إلى ترميم أخرى قديمة، وأصبحت قبة المهدي ذات تأثيرٍ ملحوظ في هذه العملية. فالقبب المبنية حديثاً كانت أكبر وأكثر ألوانًا من القبب التي ترجع لعهد الفونج، وأبدت تصاميمها أبواباً ونوافذَ مفصلة ومساحات داخلية واسعة. ورَوّج لهذه الـ"صحوة الدينية" للطرق الصوفية بشكل خاص المشير جعفر النميري رئيس السودان في الفترة بين ١٩٦٩ و١٩٨٥ والذي ينسب له الفضل في استبدال القبب القديمة وبناء أخرى جديدة، التوجه الذي استمر حتى بعد نهاية فترة حكمه إلى يومنا هذا. وكان لاهتمام النميري دوافع سياسية، حيث اتجه للشعبوية لاستجلاب دعم الطرق الصوفية الصغيرة. وكان تشييد هذه القبب الجديدة مستوحى في معظم الأحيان من طراز بناء قبة المهدي، ولكن هذا التوجه في بناء القبب كان له أثر مباشر على قبب عهد الفونج القديمة، حيث أن القبب المتهالكة من تلك الحقبة هُدمت واستبدلت بأخرى جديدة.
على بعد حوالي ٣٢ كيلومتراً جنوب شرق الخرطوم، يقع أحد أبرز الأمثلة على محو طراز قبب عهد الفونج، ألا وهو ضريح الشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون. فالشيخ إدريس عاش بين عامي ١٥٠٧ و١٦٥٠م وكان عالماً ومستشاراً لحكام الفونج، وهو واحد من أبرز شيوخ الصوفية في السودان حيث تظل قبته مزاراً هاماً حتى هذا اليوم. شُيدت القبة الأصلية بطرازٍ مدَرَّج –وهو طراز استخدم في قبب عهد الفونج– ولكن بعد انهيارها، أُعيد تشييدها بطراز القبب التركية عام ١٩٢٨ وفقًا لعالم الآثار صلاح عمر الصادق. ولكن تُجادل صغيرون عوضاً عن ذلك أن هذا الطراز قد راج بتشييد قبة المهدي. في كلتا الحالتين، فإن التأثير الذي جاء مع الاستعمار قد كان له أثر مباشر على عمارة القباب في السودان، وكما تضعه صغيرون باقتضاب: "فإن التكلفة بالنسبة للمجتمع كانت تعني خسارة جزءٍ من ثقافةٍ متميزةٍ وإرثٍ جماليٍ عبر إزالة القباب القديمة".
كمثل الطِرس، يمكن للقبب أن تُجمِع طبقات من التاريخ والثقافات ترجع إلى قرون من الزمن، فهي تعمل كأرشيف مادي لدية القدرة على صنع جسر بين المدينة التي نعيش فيها والماضي. تمركزت القبب في قلب العديد من التحولات السياسية التي حدثت في السودان، حيث أن مكانتها تجاوزت كونها مجرد أماكن للدفن لتصبح أماكن مليئةٍ بالحياة، والصلاة، والأمل، والاحتفالات والثقافة. فبالرغم من أن الطراز المعماري لقبب الفونج يتعرض للمحو والاستبدال، إلا ان نوع أرشفة وحفظ التاريخ المعطى لشيوخ الطرق الصوفية عبر هذه القبب قويٌّ لدرجة أن أسماءهم ما زالت مذكورةً حتى اليوم، بصورة تجاوزت حتى أسماء حكام سلطنة الفونج.
السؤال هنا هو: هل تجاوز النوع ذاته من التخليد والأرشفة الشخصيات القوية لرجال الدين لكي يشكل ثقافة التذكر في السودان ككل؟ لنحاول الإجابة على هذا السؤال، سننظر إلى الأنواع الأخرى من مساحات الموت الموجودة في الخرطوم لنستكشف وضعها الحالي من ناحية التخليد.
المَقابرُ: مَشهَدُ الدفنِ المُتغيرِ، وأَزمَة المدافنِ
الموقع الذي شُيدت فيه القبب التركية كما ذكر سابقاً، كان يقع ضمن مقبرة الخرطوم القديمة، وهو موقع دفنٍ كان يحتل مساحةً واسعةً من منطقة وسط الخرطوم الحالية، رغم أنّ حدود المقبرة غير واضحةٍ بالتحديد. فعند تشييد مسجد الخرطوم الكبير في أوائل ال١٩٠٠، عُثر على العديد من الرفات البشرية في الموقع رُبطت بمقبرة الخرطوم القديمة. ولاستكمال بناء المسجد أُصدرت فتوى بخصوص المقابر المندرسة بواسطة مفتي السودان أحمد أبو القاسم هاشم، ممكنةً المدينة من إعادة استخدام الأرض التي كانت فيها مقابر الخرطوم القديمة والانتفاع بها. فأبو سليم يذكر بأن المقبرة امتدت شرق المسجد الكبير من ميدان أبو جنزير حتى القبب التركية وسينما كلوزيم. ميدان أبو جنزير –المستخدم غالباً كموقف للسيارات اليوم– يحتوي على رفات الشيخ الصوفي إمام بن محمد، والذي كان في الأصل مدفونًا في منتصف شارع القصر ولكنه نُقل إلى هذا الميدان عندما رُصف الشارع. وبُنيَ ضريح للشيخ داخل الميدان وأُحيط بجنزير، وهذا سبب تسميته بأبي جنزير.
على الارجح ان حدود مقابر الخرطوم القديمة كانت حتى أكبر من ذلك، حيث دُفنت والدة المهدي زينب بنت نصر الشقلاوي داخل مقبرة الخرطوم القديمة –في موقع مستشفى الشعب التعليمي حالياً– خلال فترة الحكم التركي المصري، ويقال أن المهدي زار قبرها بعد تحرير الخرطوم عام ١٨٨٥. فعندما بدأ التنقيب الأثري في مستشفى الشعب في شتاء ١٩٤٤ – ١٩٤٥، قام عالم الآثار أ. ج. آركل بنقل قبر والدة الإمام المهدي، بعد حصوله على الإذن من السيد عبد الرحمن المهدي، لمواصلة التنقيب.
وأظهرت التنقيبات أن الموقع كان مأهولاً بالسكان خلال فترات زمنية مختلفة، ابتداءاً من العصر الحجري الوسيط. وقد عُثر ايضاً على "مقابر ترجع للتاريخ المروي، وبعض المدافن بحجم كامل ولكن من دون أغراض جنائزية. الأخيرة لم تكن إسلامية، وربما ترجع للحقبة التي كانت فيها سوبا عاصمة مملكةٍ مسيحية". بمعنى: أن استخدام هذه المنطقة كمقبرة من الممكن غالباً أن بداياته كانت خلال الحقبة المروية.
بنيت الخرطوم حرفياً فوق أرض مقابر، حيث ان هنالك مقابر أخرى حول العاصمة قد بُنيَ أيضا فوقها وتم محوها بالرجوع للفتوى الخاصة بالمقابر المندرسة، مثل مقبرة الشهداء والتي أصبحت محطة الشهداء، بالإضافة إلى مقبرة قديمة في الموقع الحالي لقصر الشباب والأطفال، واللتان تقعان في أمدرمان.
فالعلاقة ما بين الموت ونسيج الحياة الحضرية للخرطوم مثيرةٌ للاهتمام أكثر عند معاينة الأضرحة العديدة لأولياء الصوفية التي تم استيعابها داخل المؤسسات العامة والمنشآت الخاصة بالمدينة. ويصف صلاح عمر الصادق هذه العلاقة الجاذبة بين مساحات الأحياء والأموات في كتابه (الآثار الإسلامية في منطقة الخرطوم). فعلى سبيل المثال، يوجد ضريح للشيخ إبراهيم صايم الدهرين اليوم داخل مكتب البريد السوق العربي في الخرطوم. ويشرح الصادق أن مكتب البريد بُني حول الضريح في بداية القرن العشرين ولكن ادارة المكتب تكفلت بصيانته وتجديده كأحد من واجباته، حيث أن أتباع الشيخ يقومون بزيارة الضريح بانتظام للتبرك. وقُتل اثنان من شيوخ الصوفية خطأً عند تحرير الخرطوم ١٨٨٥، وهما الشيخ عبد الرحمن الخراساني والذي دُفن في الموقع الذي بنيت به المحطة الوسطى في الخرطوم لاحقاً، والشيخ محمد فايت والذي دُفن في ما أصبح لاحقاً المجلس الأعلى لحماية البيئة. فهذه الأضرحة الصوفية وغيرها موجودةٌ وسط المكاتب والمباني الحكومية حول المدينة في تحدٍ للزمن، وتعتبر جزءاً من التراث الصوفي لمدينة الخرطوم حيث أنها مزار لأتباع الصوفية، مما يعطي المدينة بُعداً روحانياً. لكن بالرغم من ذلك فإن الوجود المستمر لهذه الأضرحة يشهد بأن المقابر ليست دائماً مخلَّدة بصورة تسمح لها بالبقاء المستمر لأجيال عدة كمثل أضرحة شيوخ الطرق الصوفية، مما يعرضها لخطر الاندثار.
هنالك جانب آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو موقع المقبرة بالنسبة للمدينة. فبينما كانت تتواجد مقبرة الخرطوم القديمة على أطراف المدينة عندما كانت مستخدمة، يذكر أبو سليم أن المقابر في عهد المهدية كانت متموضعة في وسط المدينة. ولكن بسبب المخاطر الصحية التى نُسِبت للقرب من المقابر، قام الخليفة عبد الله بتخصيص مساحات واسعة من شمال أمدرمان لمقابر جديدة، والتي أصبحت معروفة لدينا بمقابر البكري، وأحمد شرفي، والجمرية. ومعظم المقابر في الخرطوم أُسست بصورة مماثلة على أطراف المدينة مثل: حمد، وخوجلي، وحمد النيل، والصحافة، وبري، والكومنويلث، وغيرها. ولكن عندما نمت المدينة من موجات الهجرات في العقود اللاحقة، أصبحت المقابر محاطةً مرة أخرى بالمدينة كأثرٍ جانبيٍ طبيعيٍ لعملية التمدن. فإن المشكلة التي برزت من خلال هذه العملية، هي أن المقابر لن تكون قادرةً على التوسع ومجابهة الضغوط الجديدة التي تأتي مع النمو السكاني في المدينة. ونسبة لذلك شهد العقد السابق سيلاً من المقالات الإخبارية التي تناقش أزمة قبور تحدث في الخرطوم.
بسبب العادات الثقافية والدينية، فإن عملية الدفن في السودان تاريخيًا كان يتكفل بها إما عائلة المُتوفى، أو أفراد متطوعين حيث أنه لم تكن هنالك جهة حكومية رسمية أو خاصة تبنت هذه المسؤولية. ومن دون وجود جهة لتنظيم الدفن وتخطيط مساحة المقابر، فإن عملية الدفن كانت تتم بطريقة عشوائية وبقلة أخذٍ في الاعتبار لاستهلاك المساحة. وبسبب هذه الظروف وأخرى عدة، أُسست منظمة حسن الخاتمة غير الربحية في عام ٢٠٠٠.
قامت وما زالت منظمة حسن الخاتمة لتعمل على تحسين بيئة المقابر عموماً وذلك بتنظيم الدفن، وصيانة مباني خدمات المقابر وزراعة الاشجار والتسوير والاضاءة وغيرها. ولكن على الرغم من عمل المنظمة يبدو أن المشاكل التي تواجه المقابر قد استمرت. فمعظم الأشخاص الذين يقومون بدفن أحبائهم اليوم في الخرطوم يختبرون المهمة الصعبة جداً لحفر قبرٍ وإيجاد قبرٍ آخر مكانه ثم القيام بتكرار المهمة حتى العثور على مكانٍ خالٍ للدفن.
فنسبة لاستشعارها بوجود مشكلة حقيقية بالدفن في المدينة في ذلك الوقت، قامت منظمة حسن الخاتمة بتنظيم مؤتمر في عام ٢٠٠٩ يطرح سؤال "أين ندفن موتانا وقد امتلأت المقابر؟" وخلال هذه المؤتمر، عُرضت أمثلة عديدة من حول العالم الإسلامي كحلول بديلة محتملة للتعامل مع أزمة الدفن، والحل الذي حظي على إقبال مجتمعي كان الاقتراح الذي يدعو لإنشاء مقابر جديدة. فدعت منظمة حسن الخاتمة لهذا الحل لدرجة أن وزارة التخطيط العمراني أقرت بالحوجة لتأسيس مقابر جديدة، وتبعًا لذلك قامت بتخطيط 52 مقبرة جديدة في الخطة العمرانية للخرطوم لعام ٢٠٣٠. بالرغم من أن القليل من المقابر الجديدة تم أُنشاؤها بالفعل، إلا أن معظم هذه الخطط لم تنفذ بعد حيث أن الوزارة وجدت أن العديد من المواقع المقترحة غير مناسبة وتحتوي عدداً من المشاكل.
بجانب أنه في الأصل، الحل الذي يقترح إنشاء مقابر جديدة يتجذر من منظور تخطيطي للمدينة، إلا أن علاقة مقابر الخرطوم بالتخطيط تنتهي عند حدودها. فبعكس الاهتمام المعطى لتخطيط وصيانة قبب أولياء الصوفية وترابطها مع أماكن العيش، إن المقابر منفصلة تماماً عن المدينة ولا تولى نفس القدر من الاهتمام والرعاية. والمقابر في الخرطوم في الحقيقة مهملة تماماً من حيث عملية التخطيط والتصميم، ومعظم عمليات الدفن يتم القيام بها بصورة بعشوائية.
ومع استمرار أزمة الدفن، يشرح د. علي بخيت، أحد مؤسسي منظمة حسن الخاتمة، أن طقوس الدفن الإسلامية في الأساس تسمح للمقابر بالاستدامة، حيث أن الجسم يتحلل كلياً تقريباً، وبالتالي فإن القبر يمكن إعادة استخدامه بعد عقود. وفصَّل أكثر بالإشارة إلى أن الدفن في مقابر المسلمين تستمر بالنشاط لقرون، مستشهداً بمقابر البقيع في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية ومقابر حلة حمد ببحري (٤٠٠ عام).
بأخذ وجهة نظر د. علي في الحوار مع النزعة الحالية للدفن وكذلك فتوى المقابر المندرسة التي رُجع إليها عند إنشاء الخرطوم في بداية القرن العشرين، فإن هناك بعضاً من التناقضات تتجلى. إن الروابط العاطفية للسودانيين تجاه أماكن دفن عوائلهم تعزز رغبتهم في الاستمرار في الدفن فيها مما يضع ضغطاً كبيراً على المقابر، لدرجة أنه في ٢٠١٨ صرح المجلس التشريعي لولاية الخرطوم بأن المقابر في الخرطوم قد "اصبحت شبه ممتلئة" و"لا يمكنها استقبال المزيد من المتوفين"، حيث أن ٢٠٠ شخص يتوفون يومياً في الولاية. فإذا وافق الجمهور فعلاً على الدفن في مقابر جديدة سيتم إنشاؤها، ماذا سيحدث للمقابر التي وصلت حد الامتلاء اليوم؟ هل سيُبنى عليها كما الحال في مقابر الخرطوم القديمة؟ أم أن المقابر نفسها سيُعاد استخدامها كما يقترح د.علي؟
في داخل هذه المتاهة، يستمر المخططون والمعماريون بتجاهل المقابر، مجبرين إياها أن تظل مساحات غير مخططة مستثناة من البيئة المبنية، رغم أن المقابر تأخذ حيزاً كبيراً داخل المدينة. وبسبب المساحات الكبيرة التي تحتلها خصوصاً، فإن هناك تهديد حقيقي لهذه المقابر الممتلئة من زحف المدينة في حال توقفت عن قبول المدافن وأصبحت غير نشطة، تماماً كما حدث تاريخياً لمقبرة الخرطوم القديمة.
ربما يكون التهديد للمقابر مرتبطًا لدرجة كبيرة مع علاقتها المضطربة بالمدينة. فبينما تظل المقابر معزولة ومفتقرة للتصميم الذي يجعلها قادرة على تلبية حاجات الزوار التي تتخطى الدفن، فإن الرباط العاطفي بالمكان يقل مع الزمن. وهذه العلاقة المتهالكة في مواجهة الزحف الحضري الجاري ربما تقلل من قيمة تخليد المقابر والحفاظ على تواريخها. فإن كنا بالفعل بصدد الحفاظ على مقابرنا وتجنب محوها، فهناك حاجة ماسة لإعادة تصميم جذري وتدخل مساحي لإقناع عامة السكان بضرورة الحفاظ على المقابر داخل المدينة في المستقبل.
النُّصُبِ التذكاريّة والجدال حولها:
بعيدًا عن مساحات الدفن –سواءً كانت مقابر أو قباب– فإن النُّصُب التذكارية يمكن اعتبارها مساحات موت نسبة لعلاقتها الرمزية بالموت والتخليد، حيث أنها تستخدم أحيانًا لتخليد ذكرى أفراد توفوا، وفي أحيان أخرى تُعلم المواقع المرتبطة بتاريخ وذكريات الموت، والعنف والصدمة. وضمن الأخيرة، فإن تشييد النصب التذكارية يسمح لمساحات الموت أن تصبح ميادين تربط بين المساحات الخاصة والعامة حيث انها "توفر مساحات لعدد من الأغراض، بما فيها الحزن الشخصي، والتضامن الروحي، والتأمل الخاص من جانب، وكذلك التواصل الشعبي والحوار الديموقراطي من جانب آخر". فالنصب التذكارية تعطي المجال لقيام هذا الحوار نسبه لأنها تسكن الفراغ العام ولها دور في الاعتراف الشعبي بضحايا العنف والانتهاكات.
إن من أبرز الأحداث الاخيرة التي ارتبطت بالموت وشكلت جزءاً من ذاكرة الخرطوم هي مجزرة ٣ يونيو ٢٠١٩ التي صاحبت الفض العنيف لاعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة الذي دام لشهرين. لإسقاط نظام البشير العسكري ذو ال٣٠ عاماً، اتجه المتظاهرون للشارع بدايةً من ديسمبر ٢٠١٨، ووصلت الثورة ذروتها عند احتلال المتظاهرون لمنطقة القيادة العامة للقوات المسلحة في ٦ أبريل ٢٠١٩. امتدت حدود الاعتصام من قيادة القوات البرية والبحرية والجوية وسلاح المدفعية وحتى مجمع الوسط لجامعة الخرطوم. وفي خلال هذين الشهرين، أصبح الاعتصام مدينة مصغرة تمثّلت بها المُثل العليا للثورة السودانية –حرية، سلام وعدالة– وغدت مكانًا يتيح لكل السودانيين من أنحاء البلاد أن يتجمعوا ويتعايشوا مع بعضهم. فساحة/حدث الاعتصام شهدت إنتاج مساحة عامة لا مثيل لها في تاريخ السودان، مما جعلها مركزًا لكل أنواع النشاطات في المدينة.
قامت القوات الأمنية في صبيحة الثالث من يونيو بفض الاعتصام بعنف، حارقة الخيام ومطلقة نار الرصاص لقتل المتظاهرين، وتمادت حتى ألقت جثثهم في نهر النيل. أُعلن بعدها أن حوالي ١٢٧ شخصاً قتلوا من الفض العنيف لاعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة، مع تقدير البعض بأن عدد الوفيات قد تعدى ذلك بكثير حيث أن أكثر من ١٠٠ شخص قد أُعلنوا كمفقودين.
في الثالث من يونيو، تغيّرت كيفية رؤية وارتباط الناس بهذه المكان بصورة جذرية، حيث أنّ كل آثار احتلال الموقع مُحيت وجدارياته طُمست، في محاولة لمحو الذاكرة الجمعية للاعتصام. فعلاقة موقع الاعتصام بسلطة الدولة هو السبب الرئيسي لاحتلال المتظاهرين له في الأساس، ولكن هذه السلطة نفسها استُخدمت لتأكيد خلو المكان من أي نوع من تخليد ذكرى الاعتصام وضحايا المجزرة. تحت عين الجيش المُراقبة، يقود المارة مركباتهم خلال ما كانت تعتبر من قبل يوتوبيا سودانية، تحوّلت الآن إلى ساحة موت بعد أحداث الثالث من يونيو العنيفة.
أصبحت دعوات تخليد ذكرى الثورة وشهدائها مركزاً للنقاشات حول الأماكن العامة في الخرطوم حيث أُعيدت تسمية شوارع وأماكن عامة بأسماء الشهداء ورُسمت جداريات جديدة لإحياء ذكراهم. ولكن عند الأخذ في الاعتبار نوع تخليد الذكرى الذي حدث نتيجةً للثورة السودانية، فقد يظهر سريعاً أن التذكارات تقف بصرامة بحدود إعادة تسمية الشوارع والطلي على حوائط موجودة مسبقاً. وبالرغم من تداول مقترحات لتشييد نصب تذكاري جديد لشهداء ثورة ديسمبر حول مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه لم يتم اتخاذ أي خطوات أبعد من ذلك لتمكين أي مشاريع مشابهة من النشوء على أرض الواقع. وفي هذا الصدد، فقد كان تخليد ذكرى الثورة محدوداً جداً ولم يتضمن اعتباراً مكانياً لصنع نصب تذكاري جديد ملموس. وفي الحقيقة، قد كان هناك نقاش كبير عن النصب التذكارية، خاصة تلك التي قامت على شكل التماثيل.
في يوم ٢٤ يناير ٢٠١٩، شارك عبد العظيم أبوبكر في مظاهرة في شارع الأربعين بأمدرمان والتُقطت صورة له وهو يواجه القوات الأمنية قبل لحظات من إطلاقهم النار عليه واستشهاده. وانتشرت صورة وقفته الأخيرة البطولية على وسائل التواصل الاجتماعي مما دفع الفنان حسام عثمان ومعه عاصم زرقان ورامي رزق لصنع تمثال للشهيد عبد العظيم. كان من المفترض أن ينصب التمثال في نفس الشارع الذي استشهد به، ولكن تم رفض بشدة تشييد تمثال في الحي؛ حيث أنه يُنظر إليه على أنه مخالف للتعاليم والتقاليد الإسلامية. وبعد فشلهم في نصيب التمثال، أبلغ الفنان حسام أنه بعد شهور قليلة، اقتحمت جهات مجهولة بيته وقامت بتحطيم التمثال.
إنّ تحطيم تمثال الشهيد عبد العظيم هو فقط أحدث إضافة لتاريخ طويل يعود لعقود من رفض تشييد التماثيل في السودان. فاليوم، معظم النصب الموجودة حول العاصمة هي قطع تجريدية ومن النادر إيجاد أي واحدة تنسب لتاريخ السودان، وبالطبع لا توجد تماثيل في الأماكن العامة. ولفهم جذور هذه الظاهرة، من المهم النظر لتاريخ محو التماثيل في المدينة.
إن أول تمثال نُصِّب في تاريخ السودان الحديث كان لتشارلز غردون، حيث ارتبطت إعادة إحياء مدينة الخرطوم تحت الإدارة الانجليزية المصرية بتخليد ذكرى مقتل غردون باشا. فكان أول فعل قام به كتشنر بعد هزيمة الأنصار في معركة كرري بأمدرمان هو قطع النهر وصولاً إلى الخرطوم وعمل جنازة شعائرية لروح غردون باشا في نفس الموضع الذي لقى حتفه بأنقاض قصر الحكمدارية، في أداء لحداد عام له. وبعدها مباشرة بدأ كتشنر بتخطيط الخرطوم ووضع الأفكار التأسيسية لكل من كلية غردون التذكارية –جامعة الخرطوم الآن– وتمثال لغردون باشا.
في واحد من أهم الشوارع في الخرطوم، دُشّن تمثال برونزي لغردون وهو يمتطي جملاً في ١٩٠٣ مواجهاً الجنوب وكأنه يشرف على استحكامات الخرطوم التي دافع بها المدينة ضد الأنصار. موقع التمثال أمام القصر الجمهوري بالإضافة لتسمية الشارع الذي وضع فيه على غردون (شارع الجامعة الآن) –الشارع الذي ربطه بكلية غردون التذكارية– تجلى بهما الاختيار المقصود لموقع هذا التمثال في مركز ثقل الحكم الاستعماري في السودان.
ووُضِع تمثال آخر استعماري يمثل كتشنر كذلك عام ١٩٢١ لتخليد دوره في فتح السودان بعد موته المفاجئ قبل سنوات قليلة. حيث صُنع هذا التمثال من الأعيرة النارية الفارغة التي جُمعت من مواقع المعارك ووُضع أمام مكتب الحرب (وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي الآن)، مواجهاً شارع كتشنر (شارع النيل الآن) والنيل الأزرق.
إن تنصيب تمثالي غردون وكتشنر بالإضافة لتسمية شوارع وميادين هامة في المدينة عليهما كان تمثيلاً ملموساً للسلطة الإمبريالية البريطانية على السودان، كما يشرح سافاج عن النصب التذكارية عامةً:
"النصب التذكارية العامة هي أكثر الأشكال التذكارية محافَظةً بالضبط لأنها تُقصد بالبقاء، دون تغيير، إلى الأبد. بينما تأتي أشياء أخرى وتمضي، وتضيع وتُنسى، يفترض أن يبقى النصب التذكاري كنقطة ثابتة، مرسخاً كلّاً من المشهد المادي والمعنوي. فالنصب التذكارية تحاول أن تشكل مشهداً من الذاكرة الجمعية، لحفظ ما يستحق التذكر والتخلص من الباقي".
ولكن هذه التماثيل لم تظل نقطة ثابتة للشعب السوداني، حيث رُفضت، وبدأت تصفية حسابات الموروث الاستعماري بعد الاستقلال بفترة قصيرة. يذكر أبو سليم على أن التمثالين كانا من مواقع المقاومة للحركة الوطنية، فمنذ عام ١٩٤٩ نُشرت مقالات صحفية عدة تنتقد وجود هذين التمثالين، وبالتالي وجود الاستعمار في السودان ككل. وأصبح التمثالين مواقع نزاع ونقاش مطول استمر قرابة عقد، ولكن لم تأت إزالتهما إلا بعد الاستقلال عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبود في ١٩٥٨. وأرادت حكومة عبود العسكرية المؤسسة حديثاً أن تؤدي عملاً لافتاً للأنظار يضفي عليها سمات الوطنية ويعطيها الشرعية فقامت بإرجاع التمثالين شحناً للبريطانيين بلندن. وسرعان ما لحق ذلك محوٌ للأسماء المتعلقة بالاستعمار، فأصبح شارعا غردون وكتشنر شارعي الجامعة والنيل. بينما كانت إزالة تمثالي غردون وكتشنر مدفوعة بمشاعر وطنية ضد الاستعمار، لكنهما وضعا علامة البداية لاجتثاث كل التماثيل التي نصبت لاحقاً في الخرطوم.
في العقود التالية، بدأت تُنصب التماثيل في مدن مختلفة في السودان. ففي بورتسودان نُصب تمثال للقائد العسكري المهدوي عثمان دقنة، وفي رفاعة لتخليد ذكرى بابكر بدري –رائد تعليم المرأة في السودان– نُصب تمثال له في أول مدرسة قام بتأسيسها. وأيضاً بعد ثورة ١٩٦٤ على نظام عبود العسكري، نُصبت تماثيل لأحمد القرشي وبابكر عبد الحفيظ اللذان استشهدا في التظاهرات الطلابية في جامعة الخرطوم. وقامت أيضاً الجالية الهندية بأمدرمان بتنصب تمثال لغاندي. ولكن لطالما وُجِد نزاع حول وجود التماثيل في الأماكن العامة، ومع صعود التيار الإسلاموي في البلاد بدايةً من الثمانينيات، اُستُنكرت التماثيل كأصنام وحُطِّم معظمها. حتى التماثيل المصنوعة بواسطة طلاب كلية الفنون الجميلة واجهت هذا الاستنكار. فنظام البشير الذي صعد للسلطة في ١٩٨٩ قوّى هذا المنظور أكثر عن التماثيل والنصب التذكارية، لدرجة أن وزير السياحة والآثار والحياة البرية السابق محمد عبد الكريم الهد صرح في المحكمة قائلاً: "لم تطأ قدمي أرض المتحف الوطني طوال فترة وجودي في الوزارة لأن المتحف يحوي أصناماً"، مشيراً إلى تماثيل الممالك الكوشية.
لكن الجدال الديني حول تمثيل الأشكال البشرية لا يتناقض مع فكرة التخليد في ذات نفسها وإنما هو جدال حول الشكل المستخدم. فإنّ الأفكار، والأحداث والأشخاص المخلدة، هم جوهر النصب التذكارية بدلًا عن الشكل المختار لتمثيلهم. وبالتالي فإن عملية التخليد ينبغي أن تستجيب لقيم واحتياجات المجتمع، متبنيةً الشكل الأكثر ملائمةً وقُبولاً لتخليد الذكرى والذي يسمح بحفظ التاريخ. وخلال هذا الجدال، يجب أن نلاحظ أن هناك اختلافاً جذرياً بين إزالة تماثيل الإرث الاستعماري وإزالة التماثيل التي تنسب للتاريخ السوداني الوطني بعد الاستقلال. فلقد رُفضت تماثيل الاستعمار ليس فقط بسبب شكلها، ولكن بسبب الصورة الأيقونية الإمبريالية التي فُرضت على الشعب السوداني، إلى حد أنها أصبحت ساحات للمقاومة ضد الاستعمار ككل. ولكن هذه الساحات اختفت بعد إزالة التماثيل الاستعمارية، حيث أنها لم تُستبدل بنصب تذكارية تصون القيمة التاريخية وعلاقة السكان بتلك الساحات. وبعيداً عن التوتر المحيط بشكلها، فإن النصب التذكارية لا تزال لها المقدرة على الوجود، ولكنها تُزال باستمرار دون أي استبدال، بالرغم من حقيقة أنها تعمل على عكس المُثُلِ والقيم التي تَهمّ الذاكرة الجمعية للشعب السوداني.
إنّ فراغ التمثيل المادي للتخليد في الخرطوم يؤثر سلباً على المشاريع التي تهدف إلى تخليد ذكرى ضحايا العنف والانتهاكات، تاركةً تاريخهم لأن يظل غير مُعترَفًا به بشكل كبير ومهدداً بالمحو. وفي هذا الصدد، يمكن أن تُقرأ مجزرة اعتصام القيادة العامة كاستمرار للعنف المُرتَكب من قبل الدولة ضد شعبها، والتي يظل معظمها دون مواقع للذكرى. فلم نشهد حتى الآن نُصباً تذكارية للحربين الأهليتين في السودان (١٩٥٥ – ١٩٧٢) و(١٩٨٣ – ٢٠٠٥)، والتي تعتبر الأخيرة واحدة من أطول الحروب الأهلية في التاريخ والتي تسببت في وفاة مليونين ونصف من الضحايا. وتبقى الإبادة العرقية بدارفور كذلك بلا تخليد وتذكارات، والتي قُتل خلالها ٣٠٠ الف شخص استناداً على تقديرات الأمم المتحدة. كثُرت الانتهاكات والمجازر في السودان، مع القليل جداً من الاعتراف والعدالة.
فبالرغم من إقامة بعض المناسبات التذكارية، خاصةً لشهداء ثورة ديسمبر، يجب أن نلاحظ أن إقامة النصب التذكارية –لكلٍ من الأحداث الحديثة والتاريخية– لها دورها الهام في عملية العدالة الانتقالية، والتصالح والديمقراطية. فإن تخليد الذكرى يتيح المجال للمجتمع للتحاور عما يجب أن يتم تذكره كجزءٍ من عملية بناء هويتنا القومية، كما أنه يرسخ الحقيقة ويقوم بتعليم الشعب عن تاريخ المعاناة الفظيع الذي مر به الشعب السوداني، من أجل أن يتم استيعاب الماضي وتجنب إعادته في المستقبل. فإن إسكات القصص التي تحكي عن هذا التاريخ بعدم السماح للنصب التذكارية بالوجود يُقوّض هذه العملية ويشتت إمكانية التصالح والتعافي.
في داخل كلٍ من الأشكال المختلفة لمساحات الموت التي اُستُكشِفت في هذا المقال، هنالك عملية محو تحدث لتلك المعالم بمختلف الدرجات. فقباب رجال الصوفية التي شُيّدت خلال سلطنة الفونج يتم إزالتها واستبدالها بطرز معمارية حديثة ومعاصرة، مهددةً بعض من أهم الموروثات المعمارية والأثرية في السودان. وإنّ مشهد المقابر في الخرطوم على الجانب الآخر تغير جذريًا خلال القرن الماضي، مع محو بعض المقابر والبناء فوقها لافساح المجال للتطور العمراني بالمدينة. ففي العقود القليلة الماضية، تمدن الخرطوم كان يضغط على المقابر الحضرية الموجودة، قائداً إياها إلى الامتلاء حتى الطفح ومواجهة مستقبلٍ مجهول. ففي خضم هذه الضغوطات، احتمالية محو المقابر الحضرية من الممكن جداً أن يتم تكرارها. وأخيراً ومنذ الاستقلال، فإن النصب التذكارية كانت تمحى وتزال باستمرار من المدينة بسبب التوترات السياسية والدينية المحاطة بها.
فديناميكيات المحو المختلفة هذه تتأثر بفاعلين متعددين وتُحكم بسياسات الذاكرة والتذكر، ولكنها كلها تُلمّح إلى أن هناك مشاكل حقيقية تواجه تخليد ذكرى مساحات الموت في المدينة وربما حتى الدولة ككل. بالرغم من ذلك، يجب علينا الاعتراف بأن هنالك قيمة للحفاظ على مساحات الموت وثقافتها المادية حيث أنها تخدم كأرشيف لإرث الماضي وتحمل القدرة على تغيير فهمنا للتاريخ والمدينة جذرياً. فمثال قباب شيوخ الصوفية يوضح القدرة الكامنة للتخليد والتذكارات على حفظ تاريخ يرجع لقرون من الزمان، مُمَكّنةً هذه المساحات من أن تحافظ على صلتها بواقع حياة الناس لتصبح في بعض الأحيان جزءاً من المشهد الاجتماعي والسياسي، مع اكتسابها طبقات جديدة من المعاني والارتباطات. وبدراسة علاقة القباب بالمدينة التي تُمكّنها من تجاوز دورها كأماكن للدفن لتصير مقاصد حيوية المجتمع، يمكن إيجاد فرص لاستخلاص وتنفيذ بعض من الأفكار الجوهرية على الأنواع الأخرى من مساحات الموت المهددة بالإزالة. فربما عبر "استعارة" بعض العناصر التي أدت إلى نجاح القبب يمكننا السماح بثقافة التخليد في السودان للتوسع من الحقل الديني والروحي وصولاً إلى المدني كطريقة لعكس الذاكرة الجمعية للمدينة والدولة ككل بالنسبة للموت.
نُشرت مقالة "مساحات الموت في الخرطوم" لمي أبو صالح لأول مرة في مايو ٢٠٢١م، كجزء من مشاركة فريق ستوديو ايربان في مشروع معهد جوته في السودان، "السودان يتحرك".
ومنذ ذلك الحين، حَدَثت العديد من الأحداث التي غيَّرت حياة الناس، وغيرها من التطورات المهمة التي أثَّرت على مدينة الخرطوم والسودان ككل. وتمنح هذه الأحداث المقالة أهمية جديدة وأكثر إلحاحاً، وتَطرَح تحديات إضافية للطريقة التي نفكّر بها في معايير ما يُسمَّى "مساحات الموت"؛ وكيف ترتبط بالمدينة.
كان لوباء كوفيد ١٩ في عام ٢٠٢١م تأثير مدمّر على كبار السن، والسكان المعرضين للخطر في السودان، حيث تَخلَّت آلاف الوفيات المرتبطة بالوباء، في مرافق الحجر الصحي، عن طقوس الدفن التقليدية؛ بدءاً بغسل الجثث في المنزل. واكتسبت المقابر، إحدى الأنواع الثلاثة لمَنَاظِر الموت التي تمت مناقشتها في المقالة، هالةً مخيفة، وزاد الخوف من المرض بشكلٍ كبير بسبب صور أكياس الجُثث التي يتم إنزالها في القبور من قبل مسؤولي الصحة. لم تعد هذه المشاهد المميتة -أماكن التجمع الاجتماعي- كما كانت في أيام ما قبل الجائحة.
مع اندلاع الحرب في الخرطوم في أبريل ٢٠٢٣م، والعنف والدمار الذي انتشر بسرعة إلى أجزاء أخرى من السودان، اخترق "فضاء" الموت حدود مقابر الخرطوم، وامتدَّ إلى فضاء الحياة. وانتشرت صور الجثث الملقاة في الشارع وقصص الكلاب الضالة التي تلتهمها، أما بالنسبة لأولئك المحظوظين الذين دُفنوا، فقد تم ذلك في قبور مؤقتة في الساحات العامة أو في ساحات منازل الناس. وقد أصبحت اليوم هذه المقابر معالم ومواقع تذكارية بدائية، وهي نوع من مساحات الموت التي نوقشت في المقال، لتُذَكِّر الخرطوم بوحشية الحرب. وتُوَضِّح مي أبو صالح في قسم: عن الأصول التاريخية للمدينة: "لقد بُنيت الخرطوم حرفيَّاً فوق مقابر". ومن عجيب المفارقات، ونتيجةً للحرب، أن المدينة تعود إلى هذه الأصول.
إن قباب شيوخ الصوفية هي المشهد الثالث للموت الذي تستكشفه مي، إذ شَرَحت كيف أن هذا هو المشهد الوحيد للموت الذي يتحمَّل مرور الزمن، ويُقاوِم النسيان. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كانت هذه الهياكل المادية قد نَجَت من ويلات الحرب أم لا، حيث تم تدمير العديد من المباني والهياكل بالنيران أو القصف. وعندما يتوقف القتال، هل يمكن إعادة بناء القباب المدمرة أو التالفة، وبأية طريقة، وكيف سيضيف هذا طبقةً أخرى من التاريخ إلى تلك التي تراكمت على مرّ القرون؟
وأخيراً، ما هو شكل تخليد ذكرى الحرب وضحاياها في السودان والخرطوم؟ يبدو أن مثل هذه اللحظة الحاسمة والدموية في تاريخ السودان تستحقّ أكثر من تخليد الذكرى المُعتَاد الذي تصفه أبو صالح في المقال، مثل تسمية عدد قليل من الشوارع أو الساحات العامة تخليدًا لذكرى شخصٍ أو حدث.
سارة النقر، محررة وكاتبة
تخليد الذكرى ضمن مساحات الموت في الخرطوم
بقلم: مي أبو صالح – ترجمة: هالة جعفر
مساحات الموت –على النقيض لما يوحيه الاسم– هي في الواقع أماكن حيويَّة للمدينة، حيث طَوَّرت كلّ ثقافةٍ إنسانيةٍ أساليب تعبيرٍ وبناءٍ جنائزيٍّ مختلفة، تترادف مع المعتقدات والقيم المحلية، مما يعطي نظرةً عميقةً لهذه الثقافات. ولكن أهمية هذه المساحات تبقى مختفية في الغالب عن الحوار العام، حيث أنها غالباً ما تزاح جانباً ولا تعطى إلا قليلاً من التفكير والتأمل.
في هذا المقال نهتم بمعاينة المقابر في الخرطوم، بالإضافة إلى الأماكن الأخرى المرتبطة بالموت في المدينة لنفهم الأدوار التي تقوم بها بجانب الدفن. وبالتالي سيُستَخدَم مصطلح "مساحة الموت Deathscape" لتحديد متطلبات ما يمكن اعتباره "مساحة" للموت وكيفية ارتباطه بالمدينة. فمصطلح "Deathscape" نفسه حديث نسبيّاً وتم تبنّيه من الخبراء "لوصف كل الأماكن المتعلقة بالموت والموتى، وكيف تصطبغ هي بمعانٍ وأشياء ذات صلة: مثل موقع الجنازة، وأماكن المثوى الأخير وذكرى الموتى، وكل طرق التمثيل لهؤلاء." فإن تبنّي هذا المنظور أثناء معاينة العلاقات والتداخل بين الأحياء والموتى يمكّننا من رؤية المدينة بطرقٍ مختلفة، حيث أنه "لا تكون هذه الأماكن مشحونةً بالعواطف فحسب، بل هي كثيراً ما تكون خاضعةً للصراع الاجتماعي والسلطة."
لكشف الغطاء عن هذه العلاقات، ستتم معاينة ثلاثة أنواع من مساحات الموت في الخرطوم: قباب الأولياء والصالحين، المقابر، وأخيراً النصب التذكارية في المدينة. إن كلاًّ من هذه الأنواع سوف يمكِّننا من رؤية تأثير مساحات الموت عبر عدة موازين: المبنى والمشهد والموضوع. بمعاينة تاريخ هذه الأنواع وطبيعة العوالم التي تسكنها - سواءً كانت روحانية و/أو مدنية- فإن هذه المقالة تناقش بأنّ لمساحات الموت القدرة على لعب دور أرشفة ملموسة تحتفظ بتاريخ المدينة بتراكم الحكايا المرتبطة بها. وعبر هذه العملية، فإن أماكن الموتى تقاطعت مع أماكن الأحياء وصارت مواقع صراع تتجلَّى فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية في المدينة. فمنطقة وسط الخرطوم، كمثال، تَقبع فوق موقع دفنٍ قديم، تمَّ إغلاقه والبناء فوقه في بداية القرن العشرين، مع بقاء القليل جداً من آثار المقبرة القديمة. على بعد أحياء قليلة، شَهِدَت المنطقة كذلك كثيراً من مشاهد الموت ومعارك المقاومة السودانية ضدَّ حُكمَي الاستعمار التركي المصري والانجليزي المصري، بما فيها تحرير الخرطوم بواسطة الإمام المهدي في عام ١٨٨٥م، وانتفاضة جمعية اللواء الأبيض عام ١٩٢٤م. بالإضافة لذلك، شَهِدت المنطقة الوفيات التي نتجت من أحداث العنف خلال ثورتي ١٩٦٤م و١٩٨٥م الوطنيتين، وفي تاريخٍ أحدث: مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩م. هذه الوقائع السياسية العديدة حَدَثَت بالقرب من وسط الخرطوم نسبةً لعلاقتها بمقعد السلطة في الدولة، وبالتالي فإن الوفيات الناتجة عن هذه الأحداث تُمَيِّز الموقع عن غيره في العاصمة.
بالنظر إلى تأثير مساحات الموت في الخرطوم عبر الأنواع المختلفة التي سنقوم بعاينتها، يحاول هذا المقال فهم العلاقة ما بين الموت وتخليد الذكرى في المدينة للكشف عن من وما الذي تُخلّد ذكراه، وماذا يخبرنا التاريخ عن أحوال تخليد الذكرى في الخرطوم.
القُبَبُ وقُوّةُ التّأْثيرِ المِعْمَارِي:
لا يمكن أن يبدأ النقاش عن مساحات الموت في الخرطوم من دون الاعتراف بواحدة من أكثر مساحات الموت أهمية لتأثيرها المعماري والأثري، والتي حَظِيَتْ بأثرٍ عميق على المجتمع السوداني، ألا وهي القباب التي هي أماكن دفن الأولياء والصالحين.
خلال القرون الخمسة الماضية، برزت القباب برسمها لخط الأفق بمحاذاة ضفاف النيل، كمَعلَم أساسي في القرى والمدن بوسط السودان وشماله وشرقه. ويبدو أنها ظهرت مع السلالات الحاكمة الإسلامية الأولى في السودان، العبدلاب والفونج، ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين. وخلال القرون التالية، استمرت عملية البناء والمحافظة على هذه القبب متجذرة في المجتمع السوداني، والذي ينظر لها "كـمقاصد للزيارة وأماكن للتضرع الفردي والتذكر الجماعي، ومراكز للحياة الدينية في جوانبها الروحية الاجتماعية."
شهدت منطقة الخرطوم تمركزاً لرجال الصوفية والأولياء الصالحين منذ بداياتها، حيث أسس الشيخ أرباب العقائد –الذي وُلد بجزيرة توتي– أول قريةٍ سُكنت بمنطقة الخرطوم عام ١٦٩١م، والتي صارت مقصداً للعديد من أتباعه وطلابه كذلك. كما أن سياسات الفونج والعبدلاب حرصت على إقطاع الأراضي للفقهاء وإعفائهم من الضرائب حتى يتفرغوا لتدريس علوم الدين. فبفضل ذلك استقر كلٌّ من الشيخ حمد ود أم مريوم والشيخ خوجلي في منطقة بحري الحالية، والشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون، بالاضافة لعدة شيوخ آخرين. وبالتالي فإن توسع منطقة الخرطوم بالتأكيد يمكن ربطه باستقرار وانشطة هؤلاء الأولياء والصالحين.
إن قدرات الشيوخ –التي يطلق عليها الكرامات– تعتبر نِعَماً من الله لا يحدها حتى الموت، الأمر الذي يجعل مدافن هؤلاء الشيوخ أماكن حيوية للمجتمع. ولهذا السبب فإن بعضاً من القباب والأضرحة باتت معروفةً بعلاج أمراضٍ عديدة، بينما اشتهرت أخرى بمساعدة النساء في الخصوبة، وغيرها من القدرات التي تنسب إلى الشيخ قبل مماته. فهذه المعتقدات متجذرة للغاية في المجتمع السوداني، حيث تتردد تواً أسماء الأولياء على ألسنة أتباعهم في أوقات المرض، والمحن، والمخاطر، دافعةً إياهم لزيارة تلك القبب والاضرحة طلباً للبركات. وتكون القباب أكثر قابلية لأن تظل مزاراً عند ارتباطها بالخلاوي أو المسيد، وهي المراكز الدينية للطرق الصوفية والتي تعمل كمؤسسات للعبادة، والتعليم والإرشاد.
إنّ العلاقة الوثيقة التي تربط ما بين الأولياء والمجتمع هي السبب وراء تواجد القباب عادةً بالقرب من مقبرة أو داخلها، محاطةً بقبور أقرباء الولي وطلابه. فهذه المقابر تستعرض ترابطاً مثيراً للاهتمام بين الحياة والممات، إذ هي أماكن مليئة بالنشاط حيث تقام فيها الاحتفالات الدينية باستمرار. فقبة الشيخ حمد النيل في أمدرمان مثلاً تعتبر من أهم البقع السياحية في العاصمة، حيث ثُقام "النُّوبة" كل يوم جمعة، وهي حلقة ذكر تبدأ بمسيرة ما بين القبور والتي تتحول فيما بعد إلى تجمُع ترتل به الأهازيج الصوفية والمدائح مصاحبة كذلك بالرقص. ويُقام أيضاً عدد من الاحتفالات بانتظام هناك، مثل "الحَوْلِيّة" وهي ذكرى وفاة الشيخ، والمولد النبوي الشريف.
احتفال يقام أسبوعياً بقبة الشيخ حمد النيل بأمدرمان
تذكر عالمة الآثار السودانية بروفيسور انتصار صغيرون أن منشأ الطراز المعماري لقباب شيوخ الصوفية في السودان يختلف عن نظيرتها في العالم الإسلامي، حيث أنها مشتقة من الطراز المعماري المحلي قبل الإسلامي، كالأهرامات الكوشية، والبناء المخروطي لقطاطي قبائل الشلك والنوير في جنوب السودان. وتضيف أيضاً أن الطوب الأحمر المستخدم لبناء العديد من قباب عهد الفونج قد تم انتزاعه من خراب الكنائس المسيحية والعمارة المحلية لمملكة علوة، مستنتجة بأن "العناصر الوثنية والمسيحية والإسلامية قد تمازجت لخدمة الإسلام". من جانبٍ آخر فإن الطراز العمراني لقبب عهد الفونج قد تأثر إلى حدٍ كبير بالغزو التركي عام ١٨٢١، حيث أدخلت الإدارة التركية المصرية طرازاً جديداً للقباب، ظهر في القبة التي تبنى فوق قاعدة مربعة.
في وسط مدينة الخرطوم، شمال شرق تقاطع شارعي البلدية والقصر تقف قبتان تمثلان بعضاً من آخر الآثار الباقية التي ترجع لفترة الحكم التركي المصري للسودان، والمعروفة حالياً بقباب الأتراك. شيّدت هذه المباني الجنائزية في مقبرة الخرطوم القديمة، والتي كانت الموقع الرئيسي للدفن بالمدينة في ذلك الوقت. أُحيطت القباب التركية بالقبور، تمامًا كقباب أولياء الصوفية في السودان، ولكن عوضاً عن مدافن المريدين، احتوت تلك المقبرة على بعض من القبور التابعة لها، تضمنت قبوراً للجنود السودانيين الذين جُنّدوا للخدمة في الجيش التركي المصري.
شيدت القبة الشرقية أولاً لدفن أحمد باشا أبو ودان، الحاكم العام للسودان بين عامي ١٨٣٩ و١٨٤٣، والذي توفي في ظروف غامضة بعد إيقاف مهمته لشن غارة على دارفور في آخر لحظات تبعًا لشكوك محمد علي باشا، حاكم مصر، بخيانته وتورطه في مؤامرة. أما القبة الغربية فتحتوي رفات موسى باشا حمدي والذي تولى أيضا منصب الحاكم العام للسودان بين عامي ١٨٦٢ و١٨٦٥، ولكنه عُرف بمُكره وقسوته اللذان استخدمهما للصعود عبر الرتب، وكانت لديه سمعة بأن "القتل والتعذيب لم يكونا بالنسبة له سوى وسائل لقضاء الوقت". وانتهى حكم موسى حمدي عقب وفاته في الخرطوم عام ١٨٦٥ بداء الجُدري.
وفي العقود اللاحقة، تغلب أنصار الإمام المهدي على الحكم التركي المصري في عام ١٨٨٥ وفُككت ودُمرت الخرطوم –عاصمة الأتراك السابقة– للسماح لأمدرمان –عاصمة الدولة المهدية– بالنهوض. كيف إذاً تمكنتا هاتين القبتين من النجاة من غضب أنصار المهدي ومحو الخرطوم بينما كانتا تحويان رفات اثنين من حكام الإدارة التركية المكروهة؟ نجاة تلك القبتين من الخراب يبقى ملحوظاً خاصةً عند الأخذ في الاعتبار أن أنصار المهدية لم يكن لديهم مانع من هدم قباب رجال الدين الصوفيين، حيث سبق أن قام الأمير عثمان دقنة بهدم قبة السيد الحسن الميرغني في كسلا بسبب معارضة الطريقة الميرغنية للمهدية.
إن السبب قد يكون –على سبيل الدهشة– متعلقاً بأهم رموز الدولة المهدية، ألا وهو قبة المهدي نفسه. أن هناك تشابهاً بنيوياً بين القبب التركية وقبة المهدي بأمدرمان، يتجلى في القاعدة المربعة تحت القبة، حيث أن هنالك آراء تقترح بأنّ القبب التركية قد استُخدمت كنموذجٍ معماريٍ لتشييد قبر المهدي، الذي تُوفي بعد فترة قصيرة من تحرير الخرطوم من حكم الأتراك. إنّ الأثر التركي المصري في تشييد قبة الإمام المهدي يتجاوز ذلك، حيث أن خليفة المهدي، الخليفة عبد الله، أوكل للمعماري المصري اسماعيل حسن مهمة بناء القبة، وتم استخدام الأبواب والشبابيك المنتزعة من مباني الخرطوم التركية في تشييد القبة. المثير للسخرية هو أن أعظم رمز للمهدية قد تأثر بشدة بعمارة النظام الذي حارب ضده.
طوال فترة الدولة المهدية، ارتفع رأس قبة المهدي شامخاً لاكثر من ١٠٠ قدم، مما جعلها أكثر معلم بارز على سماء المدينة. فمن خلال بناء هذه القبة المذهلة والتي لم تشابهها أي قبةٍ أخرى في السودان في ذلك الوقت، ظلت سلطة شخصية المهدي مستمرة وامتدت حتى بعد مماته، حيث أصبح ضريحه رمزاً ومقصداً للزيارة من قِبل أنصاره الذين قدموا من كل أنحاء الدولة طلباً للتبرك.
كان البريطانيون على علم بقوة هذا الرمز عند زحفهم لأمدرمان في عام ١٨٩٨ أثناء حملة استرداد السودان. حيث رافق سلاطين باشا –الحاكم السابق لمديرية دارفور في فترة الحكم التركي– حملات السودان بين عامي ١٨٩٦ و١٨٩٨ وأصر على أن أول هدف بأمدرمان يجب أن يكون قبة المهدي. نسبة لأنه كان أسيراً للأنصار لثلاثة عشر عاما، فقد رأى سلاطين بنفسه أهمية وقدسية الموقع كقلب للمدينة. وقد تكون دوافعه أيضاً تأثرت بالأحداث التي جرت عند تحرير الخرطوم في ١٨٨٥، حيث صوّر في كتابه (السيف والنار في السودان) اللحظة التي جلب فيها الأنصار له رأس تشارلز غردون المقطوع، آخر حاكم عام للإدارة التركية.
كان موت الجنرال غردون صدمة للبريطانيين وبات دافعًا كبيراً لحشد الدعم الشعبي ضد السودان حيث "استشعروا الحوجةٌ الماسة لاستعادة الاحترام الشخصي والمؤسسي والوطني". وكانت بريطانيا –على التوازي– قلقة بشأن نوايا القوى الأوروبية الأخرى مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وتأثيرها المتزايد على أفريقيا، والذي دعَّم الحاجة لاسترداد السودان. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن حملات السودان قد قادها السردار هيربيرت كتشنر الذي شارك في حملة إنقاذ غردون الفاشلة بين عامي ١٨٨٤ و١٨٨٥.
قام البريطانيون بجلب الهاويتزر ٥.٥ بوصة، لهدم قبة المهدي وأجزاء أخرى مهمة من المدينة، والتي زُودت بقذائف الليديت شديدة الانفجار التي أُطلقت في معركة أمدرمان للمرة الأولى في التاريخ. وسرعان ما سقطت أمدرمان، حيث أن جيش الخليفة لم يكن نداً للقوة النارية البريطانية والتي قتلت أكثر من ١٢،٠٠٠ من الأنصار. لم تكتف كتائب كتشنر تحت أوامره بضرب القبة فحسب، بل دمرتها تماماً وتمادت أكثر من ذلك بانتهاك قدسية ضريح المهدي بوحشية بالغة، في انعكاس رمزي لمقتل غردون باشا، انتهاءاً بإلقاء رفات المهدي في نهر النيل. ولكن اُنتقد فعل الانتهاك هذا بشدة في الصحف البريطانية بل وفُتح له تحقيق من قبل البرلمان البريطاني. بالرغم من ذلك تم إعلان أن جذوة المهدية تم اخمادها بهدم قبة المهدي، حيث ظلت مدمرة لأغلب فترة الحكم الثنائي للسودان (١٨٩٨ – ١٩٥٦) لتكون تذكير دائم بقوة الامبراطورية البريطانية.
ناشد السيد عبد الرحمن المهدي الحكومة البريطانية باستمرار بأن تسمح له بإعادة بناء ضريح والده، ولكن مطالبه قوبلت بالرفض المستمر خلال الفترة الاستعمارية خوفاً من إعادة إحياء المهدية. ولكن بعد ٤٩ عاماً، سمح البريطانيون أخيراً للسيد عبد الرحمن المهدي بإعادة بناء القبة عام ١٩٤٧. وشُيدت القبة المعاد بناؤها جديداً كذلك على طراز معماري متأثر بعناصر مصرية، فبجانب القاعدة المربعة للقبة، تشير انتصار صغيرون أن القبب الصغيرة الموجودة على الأركان الأربعة لقبة المهدي تشبه تلك الموجودة في الأضرحة المصرية.
وتميز القرن العشرين بزيادة في النشاط الصوفي في السودان، والذي تجلى في بناء قببٍ جديدةٍ بالإضافة إلى ترميم أخرى قديمة، وأصبحت قبة المهدي ذات تأثيرٍ ملحوظ في هذه العملية. فالقبب المبنية حديثاً كانت أكبر وأكثر ألوانًا من القبب التي ترجع لعهد الفونج، وأبدت تصاميمها أبواباً ونوافذَ مفصلة ومساحات داخلية واسعة. ورَوّج لهذه الـ"صحوة الدينية" للطرق الصوفية بشكل خاص المشير جعفر النميري رئيس السودان في الفترة بين ١٩٦٩ و١٩٨٥ والذي ينسب له الفضل في استبدال القبب القديمة وبناء أخرى جديدة، التوجه الذي استمر حتى بعد نهاية فترة حكمه إلى يومنا هذا. وكان لاهتمام النميري دوافع سياسية، حيث اتجه للشعبوية لاستجلاب دعم الطرق الصوفية الصغيرة. وكان تشييد هذه القبب الجديدة مستوحى في معظم الأحيان من طراز بناء قبة المهدي، ولكن هذا التوجه في بناء القبب كان له أثر مباشر على قبب عهد الفونج القديمة، حيث أن القبب المتهالكة من تلك الحقبة هُدمت واستبدلت بأخرى جديدة.
على بعد حوالي ٣٢ كيلومتراً جنوب شرق الخرطوم، يقع أحد أبرز الأمثلة على محو طراز قبب عهد الفونج، ألا وهو ضريح الشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون. فالشيخ إدريس عاش بين عامي ١٥٠٧ و١٦٥٠م وكان عالماً ومستشاراً لحكام الفونج، وهو واحد من أبرز شيوخ الصوفية في السودان حيث تظل قبته مزاراً هاماً حتى هذا اليوم. شُيدت القبة الأصلية بطرازٍ مدَرَّج –وهو طراز استخدم في قبب عهد الفونج– ولكن بعد انهيارها، أُعيد تشييدها بطراز القبب التركية عام ١٩٢٨ وفقًا لعالم الآثار صلاح عمر الصادق. ولكن تُجادل صغيرون عوضاً عن ذلك أن هذا الطراز قد راج بتشييد قبة المهدي. في كلتا الحالتين، فإن التأثير الذي جاء مع الاستعمار قد كان له أثر مباشر على عمارة القباب في السودان، وكما تضعه صغيرون باقتضاب: "فإن التكلفة بالنسبة للمجتمع كانت تعني خسارة جزءٍ من ثقافةٍ متميزةٍ وإرثٍ جماليٍ عبر إزالة القباب القديمة".
كمثل الطِرس، يمكن للقبب أن تُجمِع طبقات من التاريخ والثقافات ترجع إلى قرون من الزمن، فهي تعمل كأرشيف مادي لدية القدرة على صنع جسر بين المدينة التي نعيش فيها والماضي. تمركزت القبب في قلب العديد من التحولات السياسية التي حدثت في السودان، حيث أن مكانتها تجاوزت كونها مجرد أماكن للدفن لتصبح أماكن مليئةٍ بالحياة، والصلاة، والأمل، والاحتفالات والثقافة. فبالرغم من أن الطراز المعماري لقبب الفونج يتعرض للمحو والاستبدال، إلا ان نوع أرشفة وحفظ التاريخ المعطى لشيوخ الطرق الصوفية عبر هذه القبب قويٌّ لدرجة أن أسماءهم ما زالت مذكورةً حتى اليوم، بصورة تجاوزت حتى أسماء حكام سلطنة الفونج.
السؤال هنا هو: هل تجاوز النوع ذاته من التخليد والأرشفة الشخصيات القوية لرجال الدين لكي يشكل ثقافة التذكر في السودان ككل؟ لنحاول الإجابة على هذا السؤال، سننظر إلى الأنواع الأخرى من مساحات الموت الموجودة في الخرطوم لنستكشف وضعها الحالي من ناحية التخليد.
المَقابرُ: مَشهَدُ الدفنِ المُتغيرِ، وأَزمَة المدافنِ
الموقع الذي شُيدت فيه القبب التركية كما ذكر سابقاً، كان يقع ضمن مقبرة الخرطوم القديمة، وهو موقع دفنٍ كان يحتل مساحةً واسعةً من منطقة وسط الخرطوم الحالية، رغم أنّ حدود المقبرة غير واضحةٍ بالتحديد. فعند تشييد مسجد الخرطوم الكبير في أوائل ال١٩٠٠، عُثر على العديد من الرفات البشرية في الموقع رُبطت بمقبرة الخرطوم القديمة. ولاستكمال بناء المسجد أُصدرت فتوى بخصوص المقابر المندرسة بواسطة مفتي السودان أحمد أبو القاسم هاشم، ممكنةً المدينة من إعادة استخدام الأرض التي كانت فيها مقابر الخرطوم القديمة والانتفاع بها. فأبو سليم يذكر بأن المقبرة امتدت شرق المسجد الكبير من ميدان أبو جنزير حتى القبب التركية وسينما كلوزيم. ميدان أبو جنزير –المستخدم غالباً كموقف للسيارات اليوم– يحتوي على رفات الشيخ الصوفي إمام بن محمد، والذي كان في الأصل مدفونًا في منتصف شارع القصر ولكنه نُقل إلى هذا الميدان عندما رُصف الشارع. وبُنيَ ضريح للشيخ داخل الميدان وأُحيط بجنزير، وهذا سبب تسميته بأبي جنزير.
على الارجح ان حدود مقابر الخرطوم القديمة كانت حتى أكبر من ذلك، حيث دُفنت والدة المهدي زينب بنت نصر الشقلاوي داخل مقبرة الخرطوم القديمة –في موقع مستشفى الشعب التعليمي حالياً– خلال فترة الحكم التركي المصري، ويقال أن المهدي زار قبرها بعد تحرير الخرطوم عام ١٨٨٥. فعندما بدأ التنقيب الأثري في مستشفى الشعب في شتاء ١٩٤٤ – ١٩٤٥، قام عالم الآثار أ. ج. آركل بنقل قبر والدة الإمام المهدي، بعد حصوله على الإذن من السيد عبد الرحمن المهدي، لمواصلة التنقيب.
وأظهرت التنقيبات أن الموقع كان مأهولاً بالسكان خلال فترات زمنية مختلفة، ابتداءاً من العصر الحجري الوسيط. وقد عُثر ايضاً على "مقابر ترجع للتاريخ المروي، وبعض المدافن بحجم كامل ولكن من دون أغراض جنائزية. الأخيرة لم تكن إسلامية، وربما ترجع للحقبة التي كانت فيها سوبا عاصمة مملكةٍ مسيحية". بمعنى: أن استخدام هذه المنطقة كمقبرة من الممكن غالباً أن بداياته كانت خلال الحقبة المروية.
بنيت الخرطوم حرفياً فوق أرض مقابر، حيث ان هنالك مقابر أخرى حول العاصمة قد بُنيَ أيضا فوقها وتم محوها بالرجوع للفتوى الخاصة بالمقابر المندرسة، مثل مقبرة الشهداء والتي أصبحت محطة الشهداء، بالإضافة إلى مقبرة قديمة في الموقع الحالي لقصر الشباب والأطفال، واللتان تقعان في أمدرمان.
فالعلاقة ما بين الموت ونسيج الحياة الحضرية للخرطوم مثيرةٌ للاهتمام أكثر عند معاينة الأضرحة العديدة لأولياء الصوفية التي تم استيعابها داخل المؤسسات العامة والمنشآت الخاصة بالمدينة. ويصف صلاح عمر الصادق هذه العلاقة الجاذبة بين مساحات الأحياء والأموات في كتابه (الآثار الإسلامية في منطقة الخرطوم). فعلى سبيل المثال، يوجد ضريح للشيخ إبراهيم صايم الدهرين اليوم داخل مكتب البريد السوق العربي في الخرطوم. ويشرح الصادق أن مكتب البريد بُني حول الضريح في بداية القرن العشرين ولكن ادارة المكتب تكفلت بصيانته وتجديده كأحد من واجباته، حيث أن أتباع الشيخ يقومون بزيارة الضريح بانتظام للتبرك. وقُتل اثنان من شيوخ الصوفية خطأً عند تحرير الخرطوم ١٨٨٥، وهما الشيخ عبد الرحمن الخراساني والذي دُفن في الموقع الذي بنيت به المحطة الوسطى في الخرطوم لاحقاً، والشيخ محمد فايت والذي دُفن في ما أصبح لاحقاً المجلس الأعلى لحماية البيئة. فهذه الأضرحة الصوفية وغيرها موجودةٌ وسط المكاتب والمباني الحكومية حول المدينة في تحدٍ للزمن، وتعتبر جزءاً من التراث الصوفي لمدينة الخرطوم حيث أنها مزار لأتباع الصوفية، مما يعطي المدينة بُعداً روحانياً. لكن بالرغم من ذلك فإن الوجود المستمر لهذه الأضرحة يشهد بأن المقابر ليست دائماً مخلَّدة بصورة تسمح لها بالبقاء المستمر لأجيال عدة كمثل أضرحة شيوخ الطرق الصوفية، مما يعرضها لخطر الاندثار.
هنالك جانب آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو موقع المقبرة بالنسبة للمدينة. فبينما كانت تتواجد مقبرة الخرطوم القديمة على أطراف المدينة عندما كانت مستخدمة، يذكر أبو سليم أن المقابر في عهد المهدية كانت متموضعة في وسط المدينة. ولكن بسبب المخاطر الصحية التى نُسِبت للقرب من المقابر، قام الخليفة عبد الله بتخصيص مساحات واسعة من شمال أمدرمان لمقابر جديدة، والتي أصبحت معروفة لدينا بمقابر البكري، وأحمد شرفي، والجمرية. ومعظم المقابر في الخرطوم أُسست بصورة مماثلة على أطراف المدينة مثل: حمد، وخوجلي، وحمد النيل، والصحافة، وبري، والكومنويلث، وغيرها. ولكن عندما نمت المدينة من موجات الهجرات في العقود اللاحقة، أصبحت المقابر محاطةً مرة أخرى بالمدينة كأثرٍ جانبيٍ طبيعيٍ لعملية التمدن. فإن المشكلة التي برزت من خلال هذه العملية، هي أن المقابر لن تكون قادرةً على التوسع ومجابهة الضغوط الجديدة التي تأتي مع النمو السكاني في المدينة. ونسبة لذلك شهد العقد السابق سيلاً من المقالات الإخبارية التي تناقش أزمة قبور تحدث في الخرطوم.
بسبب العادات الثقافية والدينية، فإن عملية الدفن في السودان تاريخيًا كان يتكفل بها إما عائلة المُتوفى، أو أفراد متطوعين حيث أنه لم تكن هنالك جهة حكومية رسمية أو خاصة تبنت هذه المسؤولية. ومن دون وجود جهة لتنظيم الدفن وتخطيط مساحة المقابر، فإن عملية الدفن كانت تتم بطريقة عشوائية وبقلة أخذٍ في الاعتبار لاستهلاك المساحة. وبسبب هذه الظروف وأخرى عدة، أُسست منظمة حسن الخاتمة غير الربحية في عام ٢٠٠٠.
قامت وما زالت منظمة حسن الخاتمة لتعمل على تحسين بيئة المقابر عموماً وذلك بتنظيم الدفن، وصيانة مباني خدمات المقابر وزراعة الاشجار والتسوير والاضاءة وغيرها. ولكن على الرغم من عمل المنظمة يبدو أن المشاكل التي تواجه المقابر قد استمرت. فمعظم الأشخاص الذين يقومون بدفن أحبائهم اليوم في الخرطوم يختبرون المهمة الصعبة جداً لحفر قبرٍ وإيجاد قبرٍ آخر مكانه ثم القيام بتكرار المهمة حتى العثور على مكانٍ خالٍ للدفن.
فنسبة لاستشعارها بوجود مشكلة حقيقية بالدفن في المدينة في ذلك الوقت، قامت منظمة حسن الخاتمة بتنظيم مؤتمر في عام ٢٠٠٩ يطرح سؤال "أين ندفن موتانا وقد امتلأت المقابر؟" وخلال هذه المؤتمر، عُرضت أمثلة عديدة من حول العالم الإسلامي كحلول بديلة محتملة للتعامل مع أزمة الدفن، والحل الذي حظي على إقبال مجتمعي كان الاقتراح الذي يدعو لإنشاء مقابر جديدة. فدعت منظمة حسن الخاتمة لهذا الحل لدرجة أن وزارة التخطيط العمراني أقرت بالحوجة لتأسيس مقابر جديدة، وتبعًا لذلك قامت بتخطيط 52 مقبرة جديدة في الخطة العمرانية للخرطوم لعام ٢٠٣٠. بالرغم من أن القليل من المقابر الجديدة تم أُنشاؤها بالفعل، إلا أن معظم هذه الخطط لم تنفذ بعد حيث أن الوزارة وجدت أن العديد من المواقع المقترحة غير مناسبة وتحتوي عدداً من المشاكل.
بجانب أنه في الأصل، الحل الذي يقترح إنشاء مقابر جديدة يتجذر من منظور تخطيطي للمدينة، إلا أن علاقة مقابر الخرطوم بالتخطيط تنتهي عند حدودها. فبعكس الاهتمام المعطى لتخطيط وصيانة قبب أولياء الصوفية وترابطها مع أماكن العيش، إن المقابر منفصلة تماماً عن المدينة ولا تولى نفس القدر من الاهتمام والرعاية. والمقابر في الخرطوم في الحقيقة مهملة تماماً من حيث عملية التخطيط والتصميم، ومعظم عمليات الدفن يتم القيام بها بصورة بعشوائية.
ومع استمرار أزمة الدفن، يشرح د. علي بخيت، أحد مؤسسي منظمة حسن الخاتمة، أن طقوس الدفن الإسلامية في الأساس تسمح للمقابر بالاستدامة، حيث أن الجسم يتحلل كلياً تقريباً، وبالتالي فإن القبر يمكن إعادة استخدامه بعد عقود. وفصَّل أكثر بالإشارة إلى أن الدفن في مقابر المسلمين تستمر بالنشاط لقرون، مستشهداً بمقابر البقيع في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية ومقابر حلة حمد ببحري (٤٠٠ عام).
بأخذ وجهة نظر د. علي في الحوار مع النزعة الحالية للدفن وكذلك فتوى المقابر المندرسة التي رُجع إليها عند إنشاء الخرطوم في بداية القرن العشرين، فإن هناك بعضاً من التناقضات تتجلى. إن الروابط العاطفية للسودانيين تجاه أماكن دفن عوائلهم تعزز رغبتهم في الاستمرار في الدفن فيها مما يضع ضغطاً كبيراً على المقابر، لدرجة أنه في ٢٠١٨ صرح المجلس التشريعي لولاية الخرطوم بأن المقابر في الخرطوم قد "اصبحت شبه ممتلئة" و"لا يمكنها استقبال المزيد من المتوفين"، حيث أن ٢٠٠ شخص يتوفون يومياً في الولاية. فإذا وافق الجمهور فعلاً على الدفن في مقابر جديدة سيتم إنشاؤها، ماذا سيحدث للمقابر التي وصلت حد الامتلاء اليوم؟ هل سيُبنى عليها كما الحال في مقابر الخرطوم القديمة؟ أم أن المقابر نفسها سيُعاد استخدامها كما يقترح د.علي؟
في داخل هذه المتاهة، يستمر المخططون والمعماريون بتجاهل المقابر، مجبرين إياها أن تظل مساحات غير مخططة مستثناة من البيئة المبنية، رغم أن المقابر تأخذ حيزاً كبيراً داخل المدينة. وبسبب المساحات الكبيرة التي تحتلها خصوصاً، فإن هناك تهديد حقيقي لهذه المقابر الممتلئة من زحف المدينة في حال توقفت عن قبول المدافن وأصبحت غير نشطة، تماماً كما حدث تاريخياً لمقبرة الخرطوم القديمة.
ربما يكون التهديد للمقابر مرتبطًا لدرجة كبيرة مع علاقتها المضطربة بالمدينة. فبينما تظل المقابر معزولة ومفتقرة للتصميم الذي يجعلها قادرة على تلبية حاجات الزوار التي تتخطى الدفن، فإن الرباط العاطفي بالمكان يقل مع الزمن. وهذه العلاقة المتهالكة في مواجهة الزحف الحضري الجاري ربما تقلل من قيمة تخليد المقابر والحفاظ على تواريخها. فإن كنا بالفعل بصدد الحفاظ على مقابرنا وتجنب محوها، فهناك حاجة ماسة لإعادة تصميم جذري وتدخل مساحي لإقناع عامة السكان بضرورة الحفاظ على المقابر داخل المدينة في المستقبل.
النُّصُبِ التذكاريّة والجدال حولها:
بعيدًا عن مساحات الدفن –سواءً كانت مقابر أو قباب– فإن النُّصُب التذكارية يمكن اعتبارها مساحات موت نسبة لعلاقتها الرمزية بالموت والتخليد، حيث أنها تستخدم أحيانًا لتخليد ذكرى أفراد توفوا، وفي أحيان أخرى تُعلم المواقع المرتبطة بتاريخ وذكريات الموت، والعنف والصدمة. وضمن الأخيرة، فإن تشييد النصب التذكارية يسمح لمساحات الموت أن تصبح ميادين تربط بين المساحات الخاصة والعامة حيث انها "توفر مساحات لعدد من الأغراض، بما فيها الحزن الشخصي، والتضامن الروحي، والتأمل الخاص من جانب، وكذلك التواصل الشعبي والحوار الديموقراطي من جانب آخر". فالنصب التذكارية تعطي المجال لقيام هذا الحوار نسبه لأنها تسكن الفراغ العام ولها دور في الاعتراف الشعبي بضحايا العنف والانتهاكات.
إن من أبرز الأحداث الاخيرة التي ارتبطت بالموت وشكلت جزءاً من ذاكرة الخرطوم هي مجزرة ٣ يونيو ٢٠١٩ التي صاحبت الفض العنيف لاعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة الذي دام لشهرين. لإسقاط نظام البشير العسكري ذو ال٣٠ عاماً، اتجه المتظاهرون للشارع بدايةً من ديسمبر ٢٠١٨، ووصلت الثورة ذروتها عند احتلال المتظاهرون لمنطقة القيادة العامة للقوات المسلحة في ٦ أبريل ٢٠١٩. امتدت حدود الاعتصام من قيادة القوات البرية والبحرية والجوية وسلاح المدفعية وحتى مجمع الوسط لجامعة الخرطوم. وفي خلال هذين الشهرين، أصبح الاعتصام مدينة مصغرة تمثّلت بها المُثل العليا للثورة السودانية –حرية، سلام وعدالة– وغدت مكانًا يتيح لكل السودانيين من أنحاء البلاد أن يتجمعوا ويتعايشوا مع بعضهم. فساحة/حدث الاعتصام شهدت إنتاج مساحة عامة لا مثيل لها في تاريخ السودان، مما جعلها مركزًا لكل أنواع النشاطات في المدينة.
قامت القوات الأمنية في صبيحة الثالث من يونيو بفض الاعتصام بعنف، حارقة الخيام ومطلقة نار الرصاص لقتل المتظاهرين، وتمادت حتى ألقت جثثهم في نهر النيل. أُعلن بعدها أن حوالي ١٢٧ شخصاً قتلوا من الفض العنيف لاعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة، مع تقدير البعض بأن عدد الوفيات قد تعدى ذلك بكثير حيث أن أكثر من ١٠٠ شخص قد أُعلنوا كمفقودين.
في الثالث من يونيو، تغيّرت كيفية رؤية وارتباط الناس بهذه المكان بصورة جذرية، حيث أنّ كل آثار احتلال الموقع مُحيت وجدارياته طُمست، في محاولة لمحو الذاكرة الجمعية للاعتصام. فعلاقة موقع الاعتصام بسلطة الدولة هو السبب الرئيسي لاحتلال المتظاهرين له في الأساس، ولكن هذه السلطة نفسها استُخدمت لتأكيد خلو المكان من أي نوع من تخليد ذكرى الاعتصام وضحايا المجزرة. تحت عين الجيش المُراقبة، يقود المارة مركباتهم خلال ما كانت تعتبر من قبل يوتوبيا سودانية، تحوّلت الآن إلى ساحة موت بعد أحداث الثالث من يونيو العنيفة.
أصبحت دعوات تخليد ذكرى الثورة وشهدائها مركزاً للنقاشات حول الأماكن العامة في الخرطوم حيث أُعيدت تسمية شوارع وأماكن عامة بأسماء الشهداء ورُسمت جداريات جديدة لإحياء ذكراهم. ولكن عند الأخذ في الاعتبار نوع تخليد الذكرى الذي حدث نتيجةً للثورة السودانية، فقد يظهر سريعاً أن التذكارات تقف بصرامة بحدود إعادة تسمية الشوارع والطلي على حوائط موجودة مسبقاً. وبالرغم من تداول مقترحات لتشييد نصب تذكاري جديد لشهداء ثورة ديسمبر حول مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه لم يتم اتخاذ أي خطوات أبعد من ذلك لتمكين أي مشاريع مشابهة من النشوء على أرض الواقع. وفي هذا الصدد، فقد كان تخليد ذكرى الثورة محدوداً جداً ولم يتضمن اعتباراً مكانياً لصنع نصب تذكاري جديد ملموس. وفي الحقيقة، قد كان هناك نقاش كبير عن النصب التذكارية، خاصة تلك التي قامت على شكل التماثيل.
في يوم ٢٤ يناير ٢٠١٩، شارك عبد العظيم أبوبكر في مظاهرة في شارع الأربعين بأمدرمان والتُقطت صورة له وهو يواجه القوات الأمنية قبل لحظات من إطلاقهم النار عليه واستشهاده. وانتشرت صورة وقفته الأخيرة البطولية على وسائل التواصل الاجتماعي مما دفع الفنان حسام عثمان ومعه عاصم زرقان ورامي رزق لصنع تمثال للشهيد عبد العظيم. كان من المفترض أن ينصب التمثال في نفس الشارع الذي استشهد به، ولكن تم رفض بشدة تشييد تمثال في الحي؛ حيث أنه يُنظر إليه على أنه مخالف للتعاليم والتقاليد الإسلامية. وبعد فشلهم في نصيب التمثال، أبلغ الفنان حسام أنه بعد شهور قليلة، اقتحمت جهات مجهولة بيته وقامت بتحطيم التمثال.
إنّ تحطيم تمثال الشهيد عبد العظيم هو فقط أحدث إضافة لتاريخ طويل يعود لعقود من رفض تشييد التماثيل في السودان. فاليوم، معظم النصب الموجودة حول العاصمة هي قطع تجريدية ومن النادر إيجاد أي واحدة تنسب لتاريخ السودان، وبالطبع لا توجد تماثيل في الأماكن العامة. ولفهم جذور هذه الظاهرة، من المهم النظر لتاريخ محو التماثيل في المدينة.
إن أول تمثال نُصِّب في تاريخ السودان الحديث كان لتشارلز غردون، حيث ارتبطت إعادة إحياء مدينة الخرطوم تحت الإدارة الانجليزية المصرية بتخليد ذكرى مقتل غردون باشا. فكان أول فعل قام به كتشنر بعد هزيمة الأنصار في معركة كرري بأمدرمان هو قطع النهر وصولاً إلى الخرطوم وعمل جنازة شعائرية لروح غردون باشا في نفس الموضع الذي لقى حتفه بأنقاض قصر الحكمدارية، في أداء لحداد عام له. وبعدها مباشرة بدأ كتشنر بتخطيط الخرطوم ووضع الأفكار التأسيسية لكل من كلية غردون التذكارية –جامعة الخرطوم الآن– وتمثال لغردون باشا.
في واحد من أهم الشوارع في الخرطوم، دُشّن تمثال برونزي لغردون وهو يمتطي جملاً في ١٩٠٣ مواجهاً الجنوب وكأنه يشرف على استحكامات الخرطوم التي دافع بها المدينة ضد الأنصار. موقع التمثال أمام القصر الجمهوري بالإضافة لتسمية الشارع الذي وضع فيه على غردون (شارع الجامعة الآن) –الشارع الذي ربطه بكلية غردون التذكارية– تجلى بهما الاختيار المقصود لموقع هذا التمثال في مركز ثقل الحكم الاستعماري في السودان.
ووُضِع تمثال آخر استعماري يمثل كتشنر كذلك عام ١٩٢١ لتخليد دوره في فتح السودان بعد موته المفاجئ قبل سنوات قليلة. حيث صُنع هذا التمثال من الأعيرة النارية الفارغة التي جُمعت من مواقع المعارك ووُضع أمام مكتب الحرب (وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي الآن)، مواجهاً شارع كتشنر (شارع النيل الآن) والنيل الأزرق.
إن تنصيب تمثالي غردون وكتشنر بالإضافة لتسمية شوارع وميادين هامة في المدينة عليهما كان تمثيلاً ملموساً للسلطة الإمبريالية البريطانية على السودان، كما يشرح سافاج عن النصب التذكارية عامةً:
"النصب التذكارية العامة هي أكثر الأشكال التذكارية محافَظةً بالضبط لأنها تُقصد بالبقاء، دون تغيير، إلى الأبد. بينما تأتي أشياء أخرى وتمضي، وتضيع وتُنسى، يفترض أن يبقى النصب التذكاري كنقطة ثابتة، مرسخاً كلّاً من المشهد المادي والمعنوي. فالنصب التذكارية تحاول أن تشكل مشهداً من الذاكرة الجمعية، لحفظ ما يستحق التذكر والتخلص من الباقي".
ولكن هذه التماثيل لم تظل نقطة ثابتة للشعب السوداني، حيث رُفضت، وبدأت تصفية حسابات الموروث الاستعماري بعد الاستقلال بفترة قصيرة. يذكر أبو سليم على أن التمثالين كانا من مواقع المقاومة للحركة الوطنية، فمنذ عام ١٩٤٩ نُشرت مقالات صحفية عدة تنتقد وجود هذين التمثالين، وبالتالي وجود الاستعمار في السودان ككل. وأصبح التمثالين مواقع نزاع ونقاش مطول استمر قرابة عقد، ولكن لم تأت إزالتهما إلا بعد الاستقلال عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبود في ١٩٥٨. وأرادت حكومة عبود العسكرية المؤسسة حديثاً أن تؤدي عملاً لافتاً للأنظار يضفي عليها سمات الوطنية ويعطيها الشرعية فقامت بإرجاع التمثالين شحناً للبريطانيين بلندن. وسرعان ما لحق ذلك محوٌ للأسماء المتعلقة بالاستعمار، فأصبح شارعا غردون وكتشنر شارعي الجامعة والنيل. بينما كانت إزالة تمثالي غردون وكتشنر مدفوعة بمشاعر وطنية ضد الاستعمار، لكنهما وضعا علامة البداية لاجتثاث كل التماثيل التي نصبت لاحقاً في الخرطوم.
في العقود التالية، بدأت تُنصب التماثيل في مدن مختلفة في السودان. ففي بورتسودان نُصب تمثال للقائد العسكري المهدوي عثمان دقنة، وفي رفاعة لتخليد ذكرى بابكر بدري –رائد تعليم المرأة في السودان– نُصب تمثال له في أول مدرسة قام بتأسيسها. وأيضاً بعد ثورة ١٩٦٤ على نظام عبود العسكري، نُصبت تماثيل لأحمد القرشي وبابكر عبد الحفيظ اللذان استشهدا في التظاهرات الطلابية في جامعة الخرطوم. وقامت أيضاً الجالية الهندية بأمدرمان بتنصب تمثال لغاندي. ولكن لطالما وُجِد نزاع حول وجود التماثيل في الأماكن العامة، ومع صعود التيار الإسلاموي في البلاد بدايةً من الثمانينيات، اُستُنكرت التماثيل كأصنام وحُطِّم معظمها. حتى التماثيل المصنوعة بواسطة طلاب كلية الفنون الجميلة واجهت هذا الاستنكار. فنظام البشير الذي صعد للسلطة في ١٩٨٩ قوّى هذا المنظور أكثر عن التماثيل والنصب التذكارية، لدرجة أن وزير السياحة والآثار والحياة البرية السابق محمد عبد الكريم الهد صرح في المحكمة قائلاً: "لم تطأ قدمي أرض المتحف الوطني طوال فترة وجودي في الوزارة لأن المتحف يحوي أصناماً"، مشيراً إلى تماثيل الممالك الكوشية.
لكن الجدال الديني حول تمثيل الأشكال البشرية لا يتناقض مع فكرة التخليد في ذات نفسها وإنما هو جدال حول الشكل المستخدم. فإنّ الأفكار، والأحداث والأشخاص المخلدة، هم جوهر النصب التذكارية بدلًا عن الشكل المختار لتمثيلهم. وبالتالي فإن عملية التخليد ينبغي أن تستجيب لقيم واحتياجات المجتمع، متبنيةً الشكل الأكثر ملائمةً وقُبولاً لتخليد الذكرى والذي يسمح بحفظ التاريخ. وخلال هذا الجدال، يجب أن نلاحظ أن هناك اختلافاً جذرياً بين إزالة تماثيل الإرث الاستعماري وإزالة التماثيل التي تنسب للتاريخ السوداني الوطني بعد الاستقلال. فلقد رُفضت تماثيل الاستعمار ليس فقط بسبب شكلها، ولكن بسبب الصورة الأيقونية الإمبريالية التي فُرضت على الشعب السوداني، إلى حد أنها أصبحت ساحات للمقاومة ضد الاستعمار ككل. ولكن هذه الساحات اختفت بعد إزالة التماثيل الاستعمارية، حيث أنها لم تُستبدل بنصب تذكارية تصون القيمة التاريخية وعلاقة السكان بتلك الساحات. وبعيداً عن التوتر المحيط بشكلها، فإن النصب التذكارية لا تزال لها المقدرة على الوجود، ولكنها تُزال باستمرار دون أي استبدال، بالرغم من حقيقة أنها تعمل على عكس المُثُلِ والقيم التي تَهمّ الذاكرة الجمعية للشعب السوداني.
إنّ فراغ التمثيل المادي للتخليد في الخرطوم يؤثر سلباً على المشاريع التي تهدف إلى تخليد ذكرى ضحايا العنف والانتهاكات، تاركةً تاريخهم لأن يظل غير مُعترَفًا به بشكل كبير ومهدداً بالمحو. وفي هذا الصدد، يمكن أن تُقرأ مجزرة اعتصام القيادة العامة كاستمرار للعنف المُرتَكب من قبل الدولة ضد شعبها، والتي يظل معظمها دون مواقع للذكرى. فلم نشهد حتى الآن نُصباً تذكارية للحربين الأهليتين في السودان (١٩٥٥ – ١٩٧٢) و(١٩٨٣ – ٢٠٠٥)، والتي تعتبر الأخيرة واحدة من أطول الحروب الأهلية في التاريخ والتي تسببت في وفاة مليونين ونصف من الضحايا. وتبقى الإبادة العرقية بدارفور كذلك بلا تخليد وتذكارات، والتي قُتل خلالها ٣٠٠ الف شخص استناداً على تقديرات الأمم المتحدة. كثُرت الانتهاكات والمجازر في السودان، مع القليل جداً من الاعتراف والعدالة.
فبالرغم من إقامة بعض المناسبات التذكارية، خاصةً لشهداء ثورة ديسمبر، يجب أن نلاحظ أن إقامة النصب التذكارية –لكلٍ من الأحداث الحديثة والتاريخية– لها دورها الهام في عملية العدالة الانتقالية، والتصالح والديمقراطية. فإن تخليد الذكرى يتيح المجال للمجتمع للتحاور عما يجب أن يتم تذكره كجزءٍ من عملية بناء هويتنا القومية، كما أنه يرسخ الحقيقة ويقوم بتعليم الشعب عن تاريخ المعاناة الفظيع الذي مر به الشعب السوداني، من أجل أن يتم استيعاب الماضي وتجنب إعادته في المستقبل. فإن إسكات القصص التي تحكي عن هذا التاريخ بعدم السماح للنصب التذكارية بالوجود يُقوّض هذه العملية ويشتت إمكانية التصالح والتعافي.
في داخل كلٍ من الأشكال المختلفة لمساحات الموت التي اُستُكشِفت في هذا المقال، هنالك عملية محو تحدث لتلك المعالم بمختلف الدرجات. فقباب رجال الصوفية التي شُيّدت خلال سلطنة الفونج يتم إزالتها واستبدالها بطرز معمارية حديثة ومعاصرة، مهددةً بعض من أهم الموروثات المعمارية والأثرية في السودان. وإنّ مشهد المقابر في الخرطوم على الجانب الآخر تغير جذريًا خلال القرن الماضي، مع محو بعض المقابر والبناء فوقها لافساح المجال للتطور العمراني بالمدينة. ففي العقود القليلة الماضية، تمدن الخرطوم كان يضغط على المقابر الحضرية الموجودة، قائداً إياها إلى الامتلاء حتى الطفح ومواجهة مستقبلٍ مجهول. ففي خضم هذه الضغوطات، احتمالية محو المقابر الحضرية من الممكن جداً أن يتم تكرارها. وأخيراً ومنذ الاستقلال، فإن النصب التذكارية كانت تمحى وتزال باستمرار من المدينة بسبب التوترات السياسية والدينية المحاطة بها.
فديناميكيات المحو المختلفة هذه تتأثر بفاعلين متعددين وتُحكم بسياسات الذاكرة والتذكر، ولكنها كلها تُلمّح إلى أن هناك مشاكل حقيقية تواجه تخليد ذكرى مساحات الموت في المدينة وربما حتى الدولة ككل. بالرغم من ذلك، يجب علينا الاعتراف بأن هنالك قيمة للحفاظ على مساحات الموت وثقافتها المادية حيث أنها تخدم كأرشيف لإرث الماضي وتحمل القدرة على تغيير فهمنا للتاريخ والمدينة جذرياً. فمثال قباب شيوخ الصوفية يوضح القدرة الكامنة للتخليد والتذكارات على حفظ تاريخ يرجع لقرون من الزمان، مُمَكّنةً هذه المساحات من أن تحافظ على صلتها بواقع حياة الناس لتصبح في بعض الأحيان جزءاً من المشهد الاجتماعي والسياسي، مع اكتسابها طبقات جديدة من المعاني والارتباطات. وبدراسة علاقة القباب بالمدينة التي تُمكّنها من تجاوز دورها كأماكن للدفن لتصير مقاصد حيوية المجتمع، يمكن إيجاد فرص لاستخلاص وتنفيذ بعض من الأفكار الجوهرية على الأنواع الأخرى من مساحات الموت المهددة بالإزالة. فربما عبر "استعارة" بعض العناصر التي أدت إلى نجاح القبب يمكننا السماح بثقافة التخليد في السودان للتوسع من الحقل الديني والروحي وصولاً إلى المدني كطريقة لعكس الذاكرة الجمعية للمدينة والدولة ككل بالنسبة للموت.
الحفاظ على المياه في كردفان
الحفاظ على المياه في كردفان
الماء هو مصدر حياة المدن، به تُولَد وبه تموت وتختفي. تُوجد في شمال كردفان مجموعة متنوعة من المسطحات المائية، بين السطحية والجوفية، كالأنهار الدائمة والموسمية. مع اختلاف المواسم وسبل المعيشة تختلف طرق حفظ واستجلاب المياه. تظهر مجموعة الصور المرفقة، استخراج المياه من الآبار بالدلو، الحفائر والمضخات والدونكي أو الوابور.
شجرة التبلدي هي أيضاً إحدى مخازن المياه المعروفة، حيث يتم حفر الشجرة من الداخل لتشبه البئر وتُغلَق من الأعلى بغطاء سميك مثل الزنك. يقوم شجر التبلدي بتنقية المياه من الرواسب ويستخدم الدلو لغرف الماء في فترة شح الأمطار والجفاف.
ارتبطت نشأة عاصمة شمال كردفان الأبيض الأولى بوجود المياه، حتى أن اسم المدينة مقرون بعدة قصص تناقلتها الأجيال، وتُلقِي الكثير من الضوء على هذه النشأة وتأثير البيئة الطبيعية في اختيار الموقع الحالي. وتروي القصة أن سكان القرى المجاورة كانوا يطلقون ماشيتهم ودوابهم بحثاً على الكلأ الذي ينبت في الفضاء الممتد حول هذه القرى، وحول المستنقعات والمنخفضات التي يتجمع فيها الماء الراكد بعد الأمطار. وكانت في إحدى هذه القرى امرأة عجوز تسمَّى (منفورة)، تملك حماراً أبيض تطلقه بحثاً عن قوته وشرابه، وفي إحدى المرات، طال غيابه وبعد عودته لاحظت المرأة أن بياض حمارها قد تلطخ بطين ممزوج بأعشاب خضراء. أثار هذا الأمر فضولها فقامت المرأة بتتبع حمارها في اليوم التالي لتجده يرعى في منخفض كبير مملوء بالماء وتنبت على أطراف الأشجار الكثيف.
بعدها أنبأت منفورة أهلها وعشيرتها بهذا المكان، ورحلوا جميعاً إليه، وكان هو مولد مدينة الأبيض الحالي كما أسميت المدينة بالأبيض على لون الحمار.
الرواية الأخرى لاسم المدينة يعود إلى مجرى مائي يقع في جنوب المدينة الحالي، ويسمى بالخور الأبيض، إلا أن الرواية الأولى هي الشائعة أكثر، وتم تناقلها بين السكان على مدى السنين.
الماء هو مصدر حياة المدن، به تُولَد وبه تموت وتختفي. تُوجد في شمال كردفان مجموعة متنوعة من المسطحات المائية، بين السطحية والجوفية، كالأنهار الدائمة والموسمية. مع اختلاف المواسم وسبل المعيشة تختلف طرق حفظ واستجلاب المياه. تظهر مجموعة الصور المرفقة، استخراج المياه من الآبار بالدلو، الحفائر والمضخات والدونكي أو الوابور.
شجرة التبلدي هي أيضاً إحدى مخازن المياه المعروفة، حيث يتم حفر الشجرة من الداخل لتشبه البئر وتُغلَق من الأعلى بغطاء سميك مثل الزنك. يقوم شجر التبلدي بتنقية المياه من الرواسب ويستخدم الدلو لغرف الماء في فترة شح الأمطار والجفاف.
ارتبطت نشأة عاصمة شمال كردفان الأبيض الأولى بوجود المياه، حتى أن اسم المدينة مقرون بعدة قصص تناقلتها الأجيال، وتُلقِي الكثير من الضوء على هذه النشأة وتأثير البيئة الطبيعية في اختيار الموقع الحالي. وتروي القصة أن سكان القرى المجاورة كانوا يطلقون ماشيتهم ودوابهم بحثاً على الكلأ الذي ينبت في الفضاء الممتد حول هذه القرى، وحول المستنقعات والمنخفضات التي يتجمع فيها الماء الراكد بعد الأمطار. وكانت في إحدى هذه القرى امرأة عجوز تسمَّى (منفورة)، تملك حماراً أبيض تطلقه بحثاً عن قوته وشرابه، وفي إحدى المرات، طال غيابه وبعد عودته لاحظت المرأة أن بياض حمارها قد تلطخ بطين ممزوج بأعشاب خضراء. أثار هذا الأمر فضولها فقامت المرأة بتتبع حمارها في اليوم التالي لتجده يرعى في منخفض كبير مملوء بالماء وتنبت على أطراف الأشجار الكثيف.
بعدها أنبأت منفورة أهلها وعشيرتها بهذا المكان، ورحلوا جميعاً إليه، وكان هو مولد مدينة الأبيض الحالي كما أسميت المدينة بالأبيض على لون الحمار.
الرواية الأخرى لاسم المدينة يعود إلى مجرى مائي يقع في جنوب المدينة الحالي، ويسمى بالخور الأبيض، إلا أن الرواية الأولى هي الشائعة أكثر، وتم تناقلها بين السكان على مدى السنين.
الماء هو مصدر حياة المدن، به تُولَد وبه تموت وتختفي. تُوجد في شمال كردفان مجموعة متنوعة من المسطحات المائية، بين السطحية والجوفية، كالأنهار الدائمة والموسمية. مع اختلاف المواسم وسبل المعيشة تختلف طرق حفظ واستجلاب المياه. تظهر مجموعة الصور المرفقة، استخراج المياه من الآبار بالدلو، الحفائر والمضخات والدونكي أو الوابور.
شجرة التبلدي هي أيضاً إحدى مخازن المياه المعروفة، حيث يتم حفر الشجرة من الداخل لتشبه البئر وتُغلَق من الأعلى بغطاء سميك مثل الزنك. يقوم شجر التبلدي بتنقية المياه من الرواسب ويستخدم الدلو لغرف الماء في فترة شح الأمطار والجفاف.
ارتبطت نشأة عاصمة شمال كردفان الأبيض الأولى بوجود المياه، حتى أن اسم المدينة مقرون بعدة قصص تناقلتها الأجيال، وتُلقِي الكثير من الضوء على هذه النشأة وتأثير البيئة الطبيعية في اختيار الموقع الحالي. وتروي القصة أن سكان القرى المجاورة كانوا يطلقون ماشيتهم ودوابهم بحثاً على الكلأ الذي ينبت في الفضاء الممتد حول هذه القرى، وحول المستنقعات والمنخفضات التي يتجمع فيها الماء الراكد بعد الأمطار. وكانت في إحدى هذه القرى امرأة عجوز تسمَّى (منفورة)، تملك حماراً أبيض تطلقه بحثاً عن قوته وشرابه، وفي إحدى المرات، طال غيابه وبعد عودته لاحظت المرأة أن بياض حمارها قد تلطخ بطين ممزوج بأعشاب خضراء. أثار هذا الأمر فضولها فقامت المرأة بتتبع حمارها في اليوم التالي لتجده يرعى في منخفض كبير مملوء بالماء وتنبت على أطراف الأشجار الكثيف.
بعدها أنبأت منفورة أهلها وعشيرتها بهذا المكان، ورحلوا جميعاً إليه، وكان هو مولد مدينة الأبيض الحالي كما أسميت المدينة بالأبيض على لون الحمار.
الرواية الأخرى لاسم المدينة يعود إلى مجرى مائي يقع في جنوب المدينة الحالي، ويسمى بالخور الأبيض، إلا أن الرواية الأولى هي الشائعة أكثر، وتم تناقلها بين السكان على مدى السنين.
الخرائط كأرشيف
الخرائط كأرشيف
تُعدُّ الخرائط أدوات قوية تتأثر بالاعتبارات السياسية، وتُوثّق لحظات محدَّدَة في الزمان والمكان. وهي تشتمل، بشكلٍ انتقائي، على معلومات لخدمة أغراض معينة، مما يعكس أهداف راسم الخرائط وتحيّزاته. وتعني هذه الانتقائية أنه قد يتم حذف بعض المستوطنات البشرية بسبب أهميتها السياسية أو عدم أهميتها.
على الرغم من القيود المفروضة عليها، فإن الخرائط تلتقط السياقات التاريخية، ويمكن أن تُعِيد سرد قصة الأماكن التي تُصوّرها، وتكشف عن رؤى حول جغرافيا العصر وسياساته وثقافته. كما أنها بمثابة أدوات لسرد القصص، حيث تُسَلِّط الضوء على جوانب معيَّنة، مع حذف جوانبَ أخرى، مما يمكن أن يُشكِّل التصورات ويؤثّر على الروايات.
إن فهم الطبيعة المُنَسِّقة للخرائط يساعدنا على التعامل بشكل نقدي مع كيفية تمثيل العالم، وديناميكيات القوة الأساسية المشاركة في صنع الخرائط.
تُظهر الخرائط الموجودة في هذا المعرض التغيّرات التي شهدتها الخرطوم في ظل الحكومات المختلفة، وفي فترات زمنية مختلفة، ولا تُظهِر الأحداث فحسب، بل تظهر، أيضاً، وجهات نظر هذه الحكومات ومصالحها. لاحظ التحصينات الموجودة في هذه الخرائط: فالقلعة الموجودة على الجانب الغربي من النهر هي البناء الوحيد المسجّل في الخرائط التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، على الرغم من وجود عدة قرى وتجمعات سكنية في ذلك الوقت، وكذلك سور الخرطوم الذي كان، منذ تشييده، سمةً أساسيةً حتى بعد أن تم تدميره كما ترون في التخطيط الحالي للمدينة.
اعتمادات الصورة:
الخرطوم ١٨٤٠م، يظهر الطريق التجاري من أمدرمان، منشورة في هنري دهرين: السودان المصري في عهد محمد علي، باريس، جورج كاريه وسي. نود، المحررون، ١٨٩٨.
الخرطوم عام ١٨٧٦م مخطط الخرطوم وضواحيها، نشر في د. ويل. رحلات يونكر في أفريقيا، ١٨٧٥-١٨٨٦م، بناءً على مذكراته بالتعاون مع فيلهلم يونكر، بالتعاون مع ريتشارد بوختا، فيينا: إد. هولزل، ١٨٨٩-١٨٩١. المجلد الأول، اللوحة ٤. جاليكا
الخرطوم ١٨٨٤م، مأخوذة من رسومات تقريبية رسمها الجنرال غردون. نشرت في مجلات اللواء. سي جي جوردون، سي بي، في الخرطوم. مطبوعة من المخطوطة الأصلية. مقدمة وملاحظات بقلم أ. إيجمونت هيك. بوسطن، نيويورك: هوتون، ميفلين وشركاه، ١٨٨٥م.
ملتقى النيلين، تظهر مدينة أمدرمان القديمة والمعالم الجغرافية الرئيسية، ١٨٩٠م، منشور في كتاب إفريقيا بقلم ريكلوس، الإليزيه، ١٨٣٠-١٩٠٥م.
حصار الخرطوم. خريطة تم تجميعها من "الدفاع" في المحكمة العسكرية التي عقدت في يونيو ١٨٨٧م، من أقوال شهود الحصار في ١٨٨٤-١٨٨٥م. نُشِرَ في كتاب المهدية والسودان المصري، بقلم ف. ر. وينجيت. لندن، ماكميليان وشركاه، ١٨٩١م.
الخرطوم ١٨٦٥م، الصورة مأخوذة من الصفحة ٧٠١ من كتاب السيف والنار في السودان. رواية شخصية عن أحداث دولة المهدية. ١٨٧٩-١٨٩٥، بقلم سلاطين، رودولف كارل - السير،. تم حفظها ورقمنتها من قبل المكتبة البريطانية.
الخرطوم ١٩٠٦م (ما بعد الغزو) تم تجميع خريطة مؤقتة لمدينة الخرطوم لاستخدام مديرية الخرطوم بواسطة الملازم أول. العقيد إ.أ. ستانتون حاكم الخرطوم. عن طريق: مكتبة الجمعية الجغرافية الأمريكية.
الخرطوم ١٩٥٢م نشرته إدارة مساحة السودان. عبر: مجموعة خرائط ديفيد رومزي التاريخية، مكتبات ستانفورد - ستانفورد، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية.
الخرطوم السبعينات، خرائط من فئة مقياس ٥٠٠٠ نشرتها إدارة المساحة السودانية
الخرطوم ١٩٧٤م، السودان، الخرطوم/الجنرال ني شتاب، نشر من قبل الاتحاد السوفييتي. الجنرال ني شتاب، موسكو. عبر: مكتبة أستراليا الوطنية – كانبيرا، أستراليا.
تُعدُّ الخرائط أدوات قوية تتأثر بالاعتبارات السياسية، وتُوثّق لحظات محدَّدَة في الزمان والمكان. وهي تشتمل، بشكلٍ انتقائي، على معلومات لخدمة أغراض معينة، مما يعكس أهداف راسم الخرائط وتحيّزاته. وتعني هذه الانتقائية أنه قد يتم حذف بعض المستوطنات البشرية بسبب أهميتها السياسية أو عدم أهميتها.
على الرغم من القيود المفروضة عليها، فإن الخرائط تلتقط السياقات التاريخية، ويمكن أن تُعِيد سرد قصة الأماكن التي تُصوّرها، وتكشف عن رؤى حول جغرافيا العصر وسياساته وثقافته. كما أنها بمثابة أدوات لسرد القصص، حيث تُسَلِّط الضوء على جوانب معيَّنة، مع حذف جوانبَ أخرى، مما يمكن أن يُشكِّل التصورات ويؤثّر على الروايات.
إن فهم الطبيعة المُنَسِّقة للخرائط يساعدنا على التعامل بشكل نقدي مع كيفية تمثيل العالم، وديناميكيات القوة الأساسية المشاركة في صنع الخرائط.
تُظهر الخرائط الموجودة في هذا المعرض التغيّرات التي شهدتها الخرطوم في ظل الحكومات المختلفة، وفي فترات زمنية مختلفة، ولا تُظهِر الأحداث فحسب، بل تظهر، أيضاً، وجهات نظر هذه الحكومات ومصالحها. لاحظ التحصينات الموجودة في هذه الخرائط: فالقلعة الموجودة على الجانب الغربي من النهر هي البناء الوحيد المسجّل في الخرائط التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، على الرغم من وجود عدة قرى وتجمعات سكنية في ذلك الوقت، وكذلك سور الخرطوم الذي كان، منذ تشييده، سمةً أساسيةً حتى بعد أن تم تدميره كما ترون في التخطيط الحالي للمدينة.
اعتمادات الصورة:
الخرطوم ١٨٤٠م، يظهر الطريق التجاري من أمدرمان، منشورة في هنري دهرين: السودان المصري في عهد محمد علي، باريس، جورج كاريه وسي. نود، المحررون، ١٨٩٨.
الخرطوم عام ١٨٧٦م مخطط الخرطوم وضواحيها، نشر في د. ويل. رحلات يونكر في أفريقيا، ١٨٧٥-١٨٨٦م، بناءً على مذكراته بالتعاون مع فيلهلم يونكر، بالتعاون مع ريتشارد بوختا، فيينا: إد. هولزل، ١٨٨٩-١٨٩١. المجلد الأول، اللوحة ٤. جاليكا
الخرطوم ١٨٨٤م، مأخوذة من رسومات تقريبية رسمها الجنرال غردون. نشرت في مجلات اللواء. سي جي جوردون، سي بي، في الخرطوم. مطبوعة من المخطوطة الأصلية. مقدمة وملاحظات بقلم أ. إيجمونت هيك. بوسطن، نيويورك: هوتون، ميفلين وشركاه، ١٨٨٥م.
ملتقى النيلين، تظهر مدينة أمدرمان القديمة والمعالم الجغرافية الرئيسية، ١٨٩٠م، منشور في كتاب إفريقيا بقلم ريكلوس، الإليزيه، ١٨٣٠-١٩٠٥م.
حصار الخرطوم. خريطة تم تجميعها من "الدفاع" في المحكمة العسكرية التي عقدت في يونيو ١٨٨٧م، من أقوال شهود الحصار في ١٨٨٤-١٨٨٥م. نُشِرَ في كتاب المهدية والسودان المصري، بقلم ف. ر. وينجيت. لندن، ماكميليان وشركاه، ١٨٩١م.
الخرطوم ١٨٦٥م، الصورة مأخوذة من الصفحة ٧٠١ من كتاب السيف والنار في السودان. رواية شخصية عن أحداث دولة المهدية. ١٨٧٩-١٨٩٥، بقلم سلاطين، رودولف كارل - السير،. تم حفظها ورقمنتها من قبل المكتبة البريطانية.
الخرطوم ١٩٠٦م (ما بعد الغزو) تم تجميع خريطة مؤقتة لمدينة الخرطوم لاستخدام مديرية الخرطوم بواسطة الملازم أول. العقيد إ.أ. ستانتون حاكم الخرطوم. عن طريق: مكتبة الجمعية الجغرافية الأمريكية.
الخرطوم ١٩٥٢م نشرته إدارة مساحة السودان. عبر: مجموعة خرائط ديفيد رومزي التاريخية، مكتبات ستانفورد - ستانفورد، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية.
الخرطوم السبعينات، خرائط من فئة مقياس ٥٠٠٠ نشرتها إدارة المساحة السودانية
الخرطوم ١٩٧٤م، السودان، الخرطوم/الجنرال ني شتاب، نشر من قبل الاتحاد السوفييتي. الجنرال ني شتاب، موسكو. عبر: مكتبة أستراليا الوطنية – كانبيرا، أستراليا.
تُعدُّ الخرائط أدوات قوية تتأثر بالاعتبارات السياسية، وتُوثّق لحظات محدَّدَة في الزمان والمكان. وهي تشتمل، بشكلٍ انتقائي، على معلومات لخدمة أغراض معينة، مما يعكس أهداف راسم الخرائط وتحيّزاته. وتعني هذه الانتقائية أنه قد يتم حذف بعض المستوطنات البشرية بسبب أهميتها السياسية أو عدم أهميتها.
على الرغم من القيود المفروضة عليها، فإن الخرائط تلتقط السياقات التاريخية، ويمكن أن تُعِيد سرد قصة الأماكن التي تُصوّرها، وتكشف عن رؤى حول جغرافيا العصر وسياساته وثقافته. كما أنها بمثابة أدوات لسرد القصص، حيث تُسَلِّط الضوء على جوانب معيَّنة، مع حذف جوانبَ أخرى، مما يمكن أن يُشكِّل التصورات ويؤثّر على الروايات.
إن فهم الطبيعة المُنَسِّقة للخرائط يساعدنا على التعامل بشكل نقدي مع كيفية تمثيل العالم، وديناميكيات القوة الأساسية المشاركة في صنع الخرائط.
تُظهر الخرائط الموجودة في هذا المعرض التغيّرات التي شهدتها الخرطوم في ظل الحكومات المختلفة، وفي فترات زمنية مختلفة، ولا تُظهِر الأحداث فحسب، بل تظهر، أيضاً، وجهات نظر هذه الحكومات ومصالحها. لاحظ التحصينات الموجودة في هذه الخرائط: فالقلعة الموجودة على الجانب الغربي من النهر هي البناء الوحيد المسجّل في الخرائط التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، على الرغم من وجود عدة قرى وتجمعات سكنية في ذلك الوقت، وكذلك سور الخرطوم الذي كان، منذ تشييده، سمةً أساسيةً حتى بعد أن تم تدميره كما ترون في التخطيط الحالي للمدينة.
اعتمادات الصورة:
الخرطوم ١٨٤٠م، يظهر الطريق التجاري من أمدرمان، منشورة في هنري دهرين: السودان المصري في عهد محمد علي، باريس، جورج كاريه وسي. نود، المحررون، ١٨٩٨.
الخرطوم عام ١٨٧٦م مخطط الخرطوم وضواحيها، نشر في د. ويل. رحلات يونكر في أفريقيا، ١٨٧٥-١٨٨٦م، بناءً على مذكراته بالتعاون مع فيلهلم يونكر، بالتعاون مع ريتشارد بوختا، فيينا: إد. هولزل، ١٨٨٩-١٨٩١. المجلد الأول، اللوحة ٤. جاليكا
الخرطوم ١٨٨٤م، مأخوذة من رسومات تقريبية رسمها الجنرال غردون. نشرت في مجلات اللواء. سي جي جوردون، سي بي، في الخرطوم. مطبوعة من المخطوطة الأصلية. مقدمة وملاحظات بقلم أ. إيجمونت هيك. بوسطن، نيويورك: هوتون، ميفلين وشركاه، ١٨٨٥م.
ملتقى النيلين، تظهر مدينة أمدرمان القديمة والمعالم الجغرافية الرئيسية، ١٨٩٠م، منشور في كتاب إفريقيا بقلم ريكلوس، الإليزيه، ١٨٣٠-١٩٠٥م.
حصار الخرطوم. خريطة تم تجميعها من "الدفاع" في المحكمة العسكرية التي عقدت في يونيو ١٨٨٧م، من أقوال شهود الحصار في ١٨٨٤-١٨٨٥م. نُشِرَ في كتاب المهدية والسودان المصري، بقلم ف. ر. وينجيت. لندن، ماكميليان وشركاه، ١٨٩١م.
الخرطوم ١٨٦٥م، الصورة مأخوذة من الصفحة ٧٠١ من كتاب السيف والنار في السودان. رواية شخصية عن أحداث دولة المهدية. ١٨٧٩-١٨٩٥، بقلم سلاطين، رودولف كارل - السير،. تم حفظها ورقمنتها من قبل المكتبة البريطانية.
الخرطوم ١٩٠٦م (ما بعد الغزو) تم تجميع خريطة مؤقتة لمدينة الخرطوم لاستخدام مديرية الخرطوم بواسطة الملازم أول. العقيد إ.أ. ستانتون حاكم الخرطوم. عن طريق: مكتبة الجمعية الجغرافية الأمريكية.
الخرطوم ١٩٥٢م نشرته إدارة مساحة السودان. عبر: مجموعة خرائط ديفيد رومزي التاريخية، مكتبات ستانفورد - ستانفورد، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية.
الخرطوم السبعينات، خرائط من فئة مقياس ٥٠٠٠ نشرتها إدارة المساحة السودانية
الخرطوم ١٩٧٤م، السودان، الخرطوم/الجنرال ني شتاب، نشر من قبل الاتحاد السوفييتي. الجنرال ني شتاب، موسكو. عبر: مكتبة أستراليا الوطنية – كانبيرا، أستراليا.