اتجاهات جديدة
الديكور: خلق اتجاهات جديدة في مجالات عدة من الموسيقى إلى الموضة والأدب، أثرت النساء في العديد من المجالات وأسسن اتجاهات جديدة غالبًا ما تغير التصورات حول الجمال. يشكلن النساء أيضًا نوعًا من الأرشيف الذي يوثق الكثير من الأحداث الاجتماعية والتاريخية الهامة.
أزياء وزينة المرأة في فترة المهدية
أزياء وزينة المرأة في فترة المهدية
نساء في الموسيقى
نساء في الموسيقى
عائشة الفلاتيَّة
عائشة الفلاتيَّة
تستعصي الفنانة عائشة موسى أحمد إدريس المعروفة بعائشة الفلاتية على الحصر، فهي تتجدَّد في ذاكرة السودانيين مع تبدُّل أحوالهم يُسراً وعُسراً. الآن، والسودان يتمزَّق في اقتتال عنيف، تتخذ أغاني الفلاتية معانٍ جديدة لم يكن لنا أن نخترعها إلا انزلاقاً في هاوية، فيأتينا "سمسم قضارف" الفلاتية في عبوة جديدة؛ تذكاراً لحياة آفلة.
وحسب الباحث الأستاذ معاوية ياسين، فقد وُلدت عائشة موسى في مدينة كسلا، ويصعب تحديد العام الذي وُلِدت فيه على الدقّة، وتوفّيت في أم درمان شهر فبراير ١٩٧٤. نشأت الفلاتية في كنف أسرة يشملها التدين والعلم. وكان والدها الحاج موسى أحمد شيخاً قارئاً يُعلِّم الطلاب في خلوة. وذكر باحثون مختلفون أن عائشة كانت تتسلَّل إلى بيوت اللعبة تسترق السمع إلى أغاني ذلك الزمان، تحفظها بسرعة وتعود لتؤديها أمام صديقاتها. و في إشارة حسَّاسة ذكرت الأستاذة خالدة الجنيد أن صديقات عائشة الصغيرات هنَّ جمهورها الأول([i]).وفي ذلك مدعاة للتفكير في الأشياء التي نخسرها دون أن نعي وجودها؛ التواريخ غير الرسمية المُغفَلة التي تُنزع عنها الجدارة عند تأريخ النجاح بمعناه الرأسمالي.
في ١٩٣٦ م التقت موهبة الفلاتية مع موهبة الموسيقار العظيم إسماعيل عبد المعين في القاهرة عند تسجيل الأسطوانات العشر الأولى، والتي كانت كلّها من ألحانه، لكن ضاعت أغانيها واستدرك بعضاً منها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي،ومن ضمن ما استدرك "خداري الما بَدَاري"، و"حبيتو ما حبَّاني"،و"الزهور والوردي" التي تغنَّى بها لاحقاً الفنان عثمان الشفيع، وهي من أغاني الفلاتية الباكرة في الأصل. وعبد المعين لحظة كبيرة في زمن عائشة الفلاتية، حيث تعاون معها مرة أخرى عام ١٩٤١ وأنتَجا معاً خمس أغاني إضافية ([ii]). ويبدو أن عبد المعين وجد فيها رفيقة في تأسيسه لفنّ ملتحم في الثقافة. فعبد المعين استقى جلَّ أعماله من جلوسه تحت أقدام الأمهات والجارات. زوجة أبيه، السيدة فاطمة فور، لقَّنته أهزوجة "يا أم قرقدى" في (مقام الزنجران) المصور على جنس (مقام الحجاز)، وأخذ "كندروا مندروا" عن "أم الفقرا حبوبة زيتونة" التي جالسها وهو طفل في السابعة، بينما كانت تنسج الأطباق في منقلا بجنوب السودان، طراه الله بالخير ([iii]).وحسب الباحث عوض بابكر، فقد أخذ عبدالمعين إيقاع السيرة عن السَيَّارَات شريفة بتبلال، ونَجَف، وقَطَّاعة الخشوم وبِت العَقَاب، كما أخذ عن رابحة خوجلي إيقاع الـ"تُمتُم" الذي أخذته رابحة عن مُساعِدي اللَّواري ([iv]).وغنَّت عائشة الفلاتية إيقاع الـ"تُم تُم" في أغانيها المبكرة، لذلك جاءالإنتاج الباكر للفلاتية طَلِيقاً مَرِحاً مشحوناً بالأرض. في أعمالها اللاحقة،ربما لدواعي السوق، دخلت الفلاتية في الجزالة والبلاغة الذكورية التي ضرَبت نَسلَها من الشاعرات إلى يومنا هذا، فغنَّت في إيقاعات وأشعار تتفاوض مع الحداثة من موقع المُرتَاب. لكن عائشة كانت قلقة، وظلَّت ترواح، مع الشاعر محمود التنقاري، بين تلك الطلاقة الباكرة في "عَنِّي مالهم صَدُّوا واتوارُوا" وبين أشواق الطبقة الوسطى الجَنِينِيَّة الصاعدة في "ألحان الربيع" وأغانٍ أخرى جَزِلة.
ومن لحظات الفلاتية الفارقة أيضاً دخولها في مفاوضات القومية السودانية، واختراع الوجدان المشترك عبر أغانيها التي استأنَس بها السودانيون في معظم نواحي السودان تأتيهم من إذاعة أمدرمان. في تلك الأغاني التيدخلت الحيشان في التوقيت نفسه، وتسلَّلت إلى أرواح الناس بالتزامن، تحقَّق جزء من ملامح ذلك الفضاء السحري الضروري للتوسّط في عملية تَخيُّل الأمة كياناً واحداً، وهي عملية عسيرة وعنيفة بالطبيعة. قال "بنديكت أندرسون" إن خيال الأمة الواحدة لم يبدأ إلا عندما تمكَّنت الشعوب الأوربية من قراءة الصحف اليومية في توقيت واحد، يومياً. فتشكَّلت فيهم لغة روحية جامعة جرَّاء ذلك الطقس المادي. وسَهم الفلاتية في اختراع الوجدان أعلى من كثيرين وصفوا أنفسهم بـ"الحركة الوطنية"،فبينما انشغل الأفندية في إدانة الثقافة على صفحات المجلات، مُوبِّخين أهلهم على عادات وتقاليد سمّوها رجعية، اصطفَّت الفلاتية مع الناس ومع الثقافة، وفاوضت مظالمها بالفن والإرادة الصلبة. وجاء في شرح معاوية ياسين أن والد الفلاتية ظلّ غاضباً من اندراج ابنته في عالم الغناء زمناً. وكان في الحلاوين، حيث تتذكر جَدية موسى شقيقةعائشة أنهم سمعوا في الحلاوين ولأول مرة صوت ابنتهم ينبعث من الأسطوانة. وذابالغضب بالكلّية عندما عاد الأب إلى أمدرمان ووجد أن ابنته ذاع صيتها وملأت شهرتهاالآفاق، فبارك مسعاها ([v]).
ودخلت عائشة في التاريخ القومي بجولات فنية دعمت فيها المجهود الحربي لقوات دفاع السودان في جبهتي القتال الشرقية والغربية، محاربين ضمن جيوش العرش البريطاني ضد المحور النازي في الحرب العالمية الثانية، مرغماً أخاك وبَطل. وغاب عن التأريخ المنتصر في الحرب العالمية الثانية الاعتراف بتضحيات المستعمرات، حيث حاربت قوات هندية وسودانية وسنغالية ومغربية ونيجرية وغانية وكاريبية في صف فرنسا وبريطانيا، كما موَّلت المستعمرات المجهود الحربي بوصفها جزءاً من اقتصاد الإمبراطوريتين وقتها. لكن نذراً يسيراً من هذا التاريخ المُضام ظلَّ محفوظاً في أغاني عائشة الفلاتية، عندما غنَّت لجنود قوات دفاع السودان في مدينتي خشم القربة وكَرن الحدودية داعية بسلامة العودة. وسمَّت عائشة هتلر وموسليني "ريالاً برَّانياً"أي عملة مُنتهية الصلاحية، ولم تقم للرجلين بعدها قائمة.
مع ذلك، لم تُنصِف الحركة النسائية السودانية عائشة الفلاتية، ولم تحوّلها إلى رمز نسوي. والفلاتية حقَّقت أحلام الحركة قبل تكوّنها وكانت في علم الغيب. فمنذ منتصف الثلاثينيات كانت "عشوش" تُسافر في مهام مهنية، وكانت تتلقَّى أجراً مقابل أعمالها. وفي نضجها الفني ظلَّت تتحرك بحرية بين مدن السودان تحيي الحفلات، وتتجول بين دول العالم ممثلةً للسودان في مناسبات فنية،كما شاركت في تأسيس رابطة الفنانين السودانيين وهي كيان يحمي مصالح الفنانين ويتفاوض في حماية أجورهم وحقوقهم المادية والمعنوية حاله حال النقابة. كانت الفلاتية ملء السمع والبصر في الفضاء العام، رمزاً فنياً وجزءاً عزيزاً من ذاكرتنا الوطنية، فكيف أغفلتها الحركة؟.
[i] مقابلة تلفزيونية مع خالدة الجنيد (النيل الأزرق على يوتيوب).
[ii] مقابلة خاصّة أجريتها مع الباحث الأستاذ معاوية ياسين.
[iii] مقابلة تلفزيونية مع إسماعيل عبد المعين بقناة تلفزيون السودان.
[iv] مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عوض بابكر (تلفزيون السودان، منشورة على يوتيوب)
[v] ترجمة معاوية ياسين لعائشة الفلاتية الصادرة في كتاب (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، الجزءالأول. الترجمة وصلتني في اتصال خاص مع الباحث.
تستعصي الفنانة عائشة موسى أحمد إدريس المعروفة بعائشة الفلاتية على الحصر، فهي تتجدَّد في ذاكرة السودانيين مع تبدُّل أحوالهم يُسراً وعُسراً. الآن، والسودان يتمزَّق في اقتتال عنيف، تتخذ أغاني الفلاتية معانٍ جديدة لم يكن لنا أن نخترعها إلا انزلاقاً في هاوية، فيأتينا "سمسم قضارف" الفلاتية في عبوة جديدة؛ تذكاراً لحياة آفلة.
وحسب الباحث الأستاذ معاوية ياسين، فقد وُلدت عائشة موسى في مدينة كسلا، ويصعب تحديد العام الذي وُلِدت فيه على الدقّة، وتوفّيت في أم درمان شهر فبراير ١٩٧٤. نشأت الفلاتية في كنف أسرة يشملها التدين والعلم. وكان والدها الحاج موسى أحمد شيخاً قارئاً يُعلِّم الطلاب في خلوة. وذكر باحثون مختلفون أن عائشة كانت تتسلَّل إلى بيوت اللعبة تسترق السمع إلى أغاني ذلك الزمان، تحفظها بسرعة وتعود لتؤديها أمام صديقاتها. و في إشارة حسَّاسة ذكرت الأستاذة خالدة الجنيد أن صديقات عائشة الصغيرات هنَّ جمهورها الأول([i]).وفي ذلك مدعاة للتفكير في الأشياء التي نخسرها دون أن نعي وجودها؛ التواريخ غير الرسمية المُغفَلة التي تُنزع عنها الجدارة عند تأريخ النجاح بمعناه الرأسمالي.
في ١٩٣٦ م التقت موهبة الفلاتية مع موهبة الموسيقار العظيم إسماعيل عبد المعين في القاهرة عند تسجيل الأسطوانات العشر الأولى، والتي كانت كلّها من ألحانه، لكن ضاعت أغانيها واستدرك بعضاً منها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي،ومن ضمن ما استدرك "خداري الما بَدَاري"، و"حبيتو ما حبَّاني"،و"الزهور والوردي" التي تغنَّى بها لاحقاً الفنان عثمان الشفيع، وهي من أغاني الفلاتية الباكرة في الأصل. وعبد المعين لحظة كبيرة في زمن عائشة الفلاتية، حيث تعاون معها مرة أخرى عام ١٩٤١ وأنتَجا معاً خمس أغاني إضافية ([ii]). ويبدو أن عبد المعين وجد فيها رفيقة في تأسيسه لفنّ ملتحم في الثقافة. فعبد المعين استقى جلَّ أعماله من جلوسه تحت أقدام الأمهات والجارات. زوجة أبيه، السيدة فاطمة فور، لقَّنته أهزوجة "يا أم قرقدى" في (مقام الزنجران) المصور على جنس (مقام الحجاز)، وأخذ "كندروا مندروا" عن "أم الفقرا حبوبة زيتونة" التي جالسها وهو طفل في السابعة، بينما كانت تنسج الأطباق في منقلا بجنوب السودان، طراه الله بالخير ([iii]).وحسب الباحث عوض بابكر، فقد أخذ عبدالمعين إيقاع السيرة عن السَيَّارَات شريفة بتبلال، ونَجَف، وقَطَّاعة الخشوم وبِت العَقَاب، كما أخذ عن رابحة خوجلي إيقاع الـ"تُمتُم" الذي أخذته رابحة عن مُساعِدي اللَّواري ([iv]).وغنَّت عائشة الفلاتية إيقاع الـ"تُم تُم" في أغانيها المبكرة، لذلك جاءالإنتاج الباكر للفلاتية طَلِيقاً مَرِحاً مشحوناً بالأرض. في أعمالها اللاحقة،ربما لدواعي السوق، دخلت الفلاتية في الجزالة والبلاغة الذكورية التي ضرَبت نَسلَها من الشاعرات إلى يومنا هذا، فغنَّت في إيقاعات وأشعار تتفاوض مع الحداثة من موقع المُرتَاب. لكن عائشة كانت قلقة، وظلَّت ترواح، مع الشاعر محمود التنقاري، بين تلك الطلاقة الباكرة في "عَنِّي مالهم صَدُّوا واتوارُوا" وبين أشواق الطبقة الوسطى الجَنِينِيَّة الصاعدة في "ألحان الربيع" وأغانٍ أخرى جَزِلة.
ومن لحظات الفلاتية الفارقة أيضاً دخولها في مفاوضات القومية السودانية، واختراع الوجدان المشترك عبر أغانيها التي استأنَس بها السودانيون في معظم نواحي السودان تأتيهم من إذاعة أمدرمان. في تلك الأغاني التيدخلت الحيشان في التوقيت نفسه، وتسلَّلت إلى أرواح الناس بالتزامن، تحقَّق جزء من ملامح ذلك الفضاء السحري الضروري للتوسّط في عملية تَخيُّل الأمة كياناً واحداً، وهي عملية عسيرة وعنيفة بالطبيعة. قال "بنديكت أندرسون" إن خيال الأمة الواحدة لم يبدأ إلا عندما تمكَّنت الشعوب الأوربية من قراءة الصحف اليومية في توقيت واحد، يومياً. فتشكَّلت فيهم لغة روحية جامعة جرَّاء ذلك الطقس المادي. وسَهم الفلاتية في اختراع الوجدان أعلى من كثيرين وصفوا أنفسهم بـ"الحركة الوطنية"،فبينما انشغل الأفندية في إدانة الثقافة على صفحات المجلات، مُوبِّخين أهلهم على عادات وتقاليد سمّوها رجعية، اصطفَّت الفلاتية مع الناس ومع الثقافة، وفاوضت مظالمها بالفن والإرادة الصلبة. وجاء في شرح معاوية ياسين أن والد الفلاتية ظلّ غاضباً من اندراج ابنته في عالم الغناء زمناً. وكان في الحلاوين، حيث تتذكر جَدية موسى شقيقةعائشة أنهم سمعوا في الحلاوين ولأول مرة صوت ابنتهم ينبعث من الأسطوانة. وذابالغضب بالكلّية عندما عاد الأب إلى أمدرمان ووجد أن ابنته ذاع صيتها وملأت شهرتهاالآفاق، فبارك مسعاها ([v]).
ودخلت عائشة في التاريخ القومي بجولات فنية دعمت فيها المجهود الحربي لقوات دفاع السودان في جبهتي القتال الشرقية والغربية، محاربين ضمن جيوش العرش البريطاني ضد المحور النازي في الحرب العالمية الثانية، مرغماً أخاك وبَطل. وغاب عن التأريخ المنتصر في الحرب العالمية الثانية الاعتراف بتضحيات المستعمرات، حيث حاربت قوات هندية وسودانية وسنغالية ومغربية ونيجرية وغانية وكاريبية في صف فرنسا وبريطانيا، كما موَّلت المستعمرات المجهود الحربي بوصفها جزءاً من اقتصاد الإمبراطوريتين وقتها. لكن نذراً يسيراً من هذا التاريخ المُضام ظلَّ محفوظاً في أغاني عائشة الفلاتية، عندما غنَّت لجنود قوات دفاع السودان في مدينتي خشم القربة وكَرن الحدودية داعية بسلامة العودة. وسمَّت عائشة هتلر وموسليني "ريالاً برَّانياً"أي عملة مُنتهية الصلاحية، ولم تقم للرجلين بعدها قائمة.
مع ذلك، لم تُنصِف الحركة النسائية السودانية عائشة الفلاتية، ولم تحوّلها إلى رمز نسوي. والفلاتية حقَّقت أحلام الحركة قبل تكوّنها وكانت في علم الغيب. فمنذ منتصف الثلاثينيات كانت "عشوش" تُسافر في مهام مهنية، وكانت تتلقَّى أجراً مقابل أعمالها. وفي نضجها الفني ظلَّت تتحرك بحرية بين مدن السودان تحيي الحفلات، وتتجول بين دول العالم ممثلةً للسودان في مناسبات فنية،كما شاركت في تأسيس رابطة الفنانين السودانيين وهي كيان يحمي مصالح الفنانين ويتفاوض في حماية أجورهم وحقوقهم المادية والمعنوية حاله حال النقابة. كانت الفلاتية ملء السمع والبصر في الفضاء العام، رمزاً فنياً وجزءاً عزيزاً من ذاكرتنا الوطنية، فكيف أغفلتها الحركة؟.
[i] مقابلة تلفزيونية مع خالدة الجنيد (النيل الأزرق على يوتيوب).
[ii] مقابلة خاصّة أجريتها مع الباحث الأستاذ معاوية ياسين.
[iii] مقابلة تلفزيونية مع إسماعيل عبد المعين بقناة تلفزيون السودان.
[iv] مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عوض بابكر (تلفزيون السودان، منشورة على يوتيوب)
[v] ترجمة معاوية ياسين لعائشة الفلاتية الصادرة في كتاب (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، الجزءالأول. الترجمة وصلتني في اتصال خاص مع الباحث.
تستعصي الفنانة عائشة موسى أحمد إدريس المعروفة بعائشة الفلاتية على الحصر، فهي تتجدَّد في ذاكرة السودانيين مع تبدُّل أحوالهم يُسراً وعُسراً. الآن، والسودان يتمزَّق في اقتتال عنيف، تتخذ أغاني الفلاتية معانٍ جديدة لم يكن لنا أن نخترعها إلا انزلاقاً في هاوية، فيأتينا "سمسم قضارف" الفلاتية في عبوة جديدة؛ تذكاراً لحياة آفلة.
وحسب الباحث الأستاذ معاوية ياسين، فقد وُلدت عائشة موسى في مدينة كسلا، ويصعب تحديد العام الذي وُلِدت فيه على الدقّة، وتوفّيت في أم درمان شهر فبراير ١٩٧٤. نشأت الفلاتية في كنف أسرة يشملها التدين والعلم. وكان والدها الحاج موسى أحمد شيخاً قارئاً يُعلِّم الطلاب في خلوة. وذكر باحثون مختلفون أن عائشة كانت تتسلَّل إلى بيوت اللعبة تسترق السمع إلى أغاني ذلك الزمان، تحفظها بسرعة وتعود لتؤديها أمام صديقاتها. و في إشارة حسَّاسة ذكرت الأستاذة خالدة الجنيد أن صديقات عائشة الصغيرات هنَّ جمهورها الأول([i]).وفي ذلك مدعاة للتفكير في الأشياء التي نخسرها دون أن نعي وجودها؛ التواريخ غير الرسمية المُغفَلة التي تُنزع عنها الجدارة عند تأريخ النجاح بمعناه الرأسمالي.
في ١٩٣٦ م التقت موهبة الفلاتية مع موهبة الموسيقار العظيم إسماعيل عبد المعين في القاهرة عند تسجيل الأسطوانات العشر الأولى، والتي كانت كلّها من ألحانه، لكن ضاعت أغانيها واستدرك بعضاً منها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي،ومن ضمن ما استدرك "خداري الما بَدَاري"، و"حبيتو ما حبَّاني"،و"الزهور والوردي" التي تغنَّى بها لاحقاً الفنان عثمان الشفيع، وهي من أغاني الفلاتية الباكرة في الأصل. وعبد المعين لحظة كبيرة في زمن عائشة الفلاتية، حيث تعاون معها مرة أخرى عام ١٩٤١ وأنتَجا معاً خمس أغاني إضافية ([ii]). ويبدو أن عبد المعين وجد فيها رفيقة في تأسيسه لفنّ ملتحم في الثقافة. فعبد المعين استقى جلَّ أعماله من جلوسه تحت أقدام الأمهات والجارات. زوجة أبيه، السيدة فاطمة فور، لقَّنته أهزوجة "يا أم قرقدى" في (مقام الزنجران) المصور على جنس (مقام الحجاز)، وأخذ "كندروا مندروا" عن "أم الفقرا حبوبة زيتونة" التي جالسها وهو طفل في السابعة، بينما كانت تنسج الأطباق في منقلا بجنوب السودان، طراه الله بالخير ([iii]).وحسب الباحث عوض بابكر، فقد أخذ عبدالمعين إيقاع السيرة عن السَيَّارَات شريفة بتبلال، ونَجَف، وقَطَّاعة الخشوم وبِت العَقَاب، كما أخذ عن رابحة خوجلي إيقاع الـ"تُمتُم" الذي أخذته رابحة عن مُساعِدي اللَّواري ([iv]).وغنَّت عائشة الفلاتية إيقاع الـ"تُم تُم" في أغانيها المبكرة، لذلك جاءالإنتاج الباكر للفلاتية طَلِيقاً مَرِحاً مشحوناً بالأرض. في أعمالها اللاحقة،ربما لدواعي السوق، دخلت الفلاتية في الجزالة والبلاغة الذكورية التي ضرَبت نَسلَها من الشاعرات إلى يومنا هذا، فغنَّت في إيقاعات وأشعار تتفاوض مع الحداثة من موقع المُرتَاب. لكن عائشة كانت قلقة، وظلَّت ترواح، مع الشاعر محمود التنقاري، بين تلك الطلاقة الباكرة في "عَنِّي مالهم صَدُّوا واتوارُوا" وبين أشواق الطبقة الوسطى الجَنِينِيَّة الصاعدة في "ألحان الربيع" وأغانٍ أخرى جَزِلة.
ومن لحظات الفلاتية الفارقة أيضاً دخولها في مفاوضات القومية السودانية، واختراع الوجدان المشترك عبر أغانيها التي استأنَس بها السودانيون في معظم نواحي السودان تأتيهم من إذاعة أمدرمان. في تلك الأغاني التيدخلت الحيشان في التوقيت نفسه، وتسلَّلت إلى أرواح الناس بالتزامن، تحقَّق جزء من ملامح ذلك الفضاء السحري الضروري للتوسّط في عملية تَخيُّل الأمة كياناً واحداً، وهي عملية عسيرة وعنيفة بالطبيعة. قال "بنديكت أندرسون" إن خيال الأمة الواحدة لم يبدأ إلا عندما تمكَّنت الشعوب الأوربية من قراءة الصحف اليومية في توقيت واحد، يومياً. فتشكَّلت فيهم لغة روحية جامعة جرَّاء ذلك الطقس المادي. وسَهم الفلاتية في اختراع الوجدان أعلى من كثيرين وصفوا أنفسهم بـ"الحركة الوطنية"،فبينما انشغل الأفندية في إدانة الثقافة على صفحات المجلات، مُوبِّخين أهلهم على عادات وتقاليد سمّوها رجعية، اصطفَّت الفلاتية مع الناس ومع الثقافة، وفاوضت مظالمها بالفن والإرادة الصلبة. وجاء في شرح معاوية ياسين أن والد الفلاتية ظلّ غاضباً من اندراج ابنته في عالم الغناء زمناً. وكان في الحلاوين، حيث تتذكر جَدية موسى شقيقةعائشة أنهم سمعوا في الحلاوين ولأول مرة صوت ابنتهم ينبعث من الأسطوانة. وذابالغضب بالكلّية عندما عاد الأب إلى أمدرمان ووجد أن ابنته ذاع صيتها وملأت شهرتهاالآفاق، فبارك مسعاها ([v]).
ودخلت عائشة في التاريخ القومي بجولات فنية دعمت فيها المجهود الحربي لقوات دفاع السودان في جبهتي القتال الشرقية والغربية، محاربين ضمن جيوش العرش البريطاني ضد المحور النازي في الحرب العالمية الثانية، مرغماً أخاك وبَطل. وغاب عن التأريخ المنتصر في الحرب العالمية الثانية الاعتراف بتضحيات المستعمرات، حيث حاربت قوات هندية وسودانية وسنغالية ومغربية ونيجرية وغانية وكاريبية في صف فرنسا وبريطانيا، كما موَّلت المستعمرات المجهود الحربي بوصفها جزءاً من اقتصاد الإمبراطوريتين وقتها. لكن نذراً يسيراً من هذا التاريخ المُضام ظلَّ محفوظاً في أغاني عائشة الفلاتية، عندما غنَّت لجنود قوات دفاع السودان في مدينتي خشم القربة وكَرن الحدودية داعية بسلامة العودة. وسمَّت عائشة هتلر وموسليني "ريالاً برَّانياً"أي عملة مُنتهية الصلاحية، ولم تقم للرجلين بعدها قائمة.
مع ذلك، لم تُنصِف الحركة النسائية السودانية عائشة الفلاتية، ولم تحوّلها إلى رمز نسوي. والفلاتية حقَّقت أحلام الحركة قبل تكوّنها وكانت في علم الغيب. فمنذ منتصف الثلاثينيات كانت "عشوش" تُسافر في مهام مهنية، وكانت تتلقَّى أجراً مقابل أعمالها. وفي نضجها الفني ظلَّت تتحرك بحرية بين مدن السودان تحيي الحفلات، وتتجول بين دول العالم ممثلةً للسودان في مناسبات فنية،كما شاركت في تأسيس رابطة الفنانين السودانيين وهي كيان يحمي مصالح الفنانين ويتفاوض في حماية أجورهم وحقوقهم المادية والمعنوية حاله حال النقابة. كانت الفلاتية ملء السمع والبصر في الفضاء العام، رمزاً فنياً وجزءاً عزيزاً من ذاكرتنا الوطنية، فكيف أغفلتها الحركة؟.
[i] مقابلة تلفزيونية مع خالدة الجنيد (النيل الأزرق على يوتيوب).
[ii] مقابلة خاصّة أجريتها مع الباحث الأستاذ معاوية ياسين.
[iii] مقابلة تلفزيونية مع إسماعيل عبد المعين بقناة تلفزيون السودان.
[iv] مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عوض بابكر (تلفزيون السودان، منشورة على يوتيوب)
[v] ترجمة معاوية ياسين لعائشة الفلاتية الصادرة في كتاب (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، الجزءالأول. الترجمة وصلتني في اتصال خاص مع الباحث.
تسمية التوب كأداة للأرشفة
تسمية التوب كأداة للأرشفة
لقد اعتدنا أن نقرأ عن الأحداث الماضية والشخصيات الشهيرة في الكتب، أو رؤية قصصهم تتكَّشف على الشاشة في الأفلام الوثائقية، أو حتى من خلال التلاوات الشفاهية التي يرويها كبارنا. ومع ذلك، يمكن أيضاً تسجيل تاريخنا بطرق عديدة أخرى، بما في ذلك بعض الطرق غيرا لتقليدية للغاية. إحدى هذه الطرق هي من خلال ربط هذه الأحداث أو الأشخاص بالأشياء الموجودة في محيطنا، وهي ممارسة "التسمية"، وهي شائعة جداً في السودان.وتتراوح هذه النماذج بين السيارات الجديدة، كإطلاق اسم ليلى علوي (ممثلة مصرية)على سيارة تويوتا ذات الدفع الرباعي الواسعة والمنحنية بسخاء، إلى محطة حافلات"داعش" بالقرب من جامعة خاصة يُزعم أنه تم تجنيد عددٍ من طُلاَّبها للانضمام إلى الجماعة المتطرفة. هذه الأسماء سياسية وثقافية واجتماعية محمَّلة بمرجعيات يفهمها المجتمع.
في السودان، يمتدّ تقليد التسمية هذا إلى قطع الملابس، وفي هذه الحالة، إلى الزي النسائي التقليدي السوداني المعروف باسم التوب، وهو عبارة عن خامة قماش طويلة تشبه الساري، يتمّ لفّها حول جسد المرأة كطَبَقة خارجية. ومن خلال أسماء التياب يمكنك التعرُّف على بعض الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ السودان الحديث. من الطباعة الواضحة للوجوه أو الشعارات على أقمشة التياب المختلفة، إلى تمثيلات مجازية أكثر للحالات المزاجية أوالارتباطات؛ فإن أسماء هذه التياب ذكيّة وغالباً ما تكون فكاهية.
كيف يتم اختراع هذه الأسماء ومن يفكر فيها؟ كما هو الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، قديكون من الممكن تتبع أصل منشور انتشر بسرعة كبيرة، ولكن على الأرجح ستجذب ملاحظة أو وصف معيَّن انتباه المستخدمين، ثم يبدؤون في تطويره ومن ثم مشاركته ونشره.فمربط الفرس هنا هو أن الناس تمكنوا من الارتباط به. وعلى نفس المنوال، فإن أسماء التياب، التي كانت في يوم من الأيام حيلة تسويقية من قبل التجار الذين يسعون إلى خلق صيحات موضة وبالتالي زيادة المبيعات؛ قد تتلقَّى التياب أسماءها أيضاً بسبب ارتباطات ذكية بينها وبين الأشخاص أو الأحداث التي سُمّيت تيمُّناً بها؛ مثل توب "عيون زرّوق" والمقصود هو رئيس الوزراء الأسبق المشهور بعينيه الجميلتين، وهو توب مُزيَّن بأشكال دائرية لامعة. أما توب "الخرطوم بالليل"، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.وللنساء أنفسهن أيضاً الحق في تسمية التياب، مثلاً توب "يوم المرأة"، أو ندى القلعة على اسم المطربة الشهيرة التي ترتديه. ويمكن أيضاً إطلاق أسماء على التياب لأنها تُشبِع ظاهرة استحوذت على خيال الجمهور مثل توب "أبو القنفذ"،وهو توب مغطى بخيوط دائرية، سُمّي التوب بهذا الاسم نسبة إلى انتشار شائعات في ذلك الوقت حول اكتشاف الاستخدامات الطبيّة للقنافذ.
وبينما قد تحل تصميمات وأزياء أحدث محل هذه الموضات وارتباطاتها بالحياة اليومية، فإن حقيقة تسميتها في وقت معيّن ستظل شكلاً من أشكال الأرشيف السوداني غير الرسمي. هل ستؤدي الحرب والتمزق الذي أحدثته إلى تعطيل هذا التقليد في تسمية التياب أم سيستمر استخدامه؟ يتضمن إعلان تيك توك الأخير لأحد بائعي التياب توباً يسمى "القوات المسلحة"،وهي إشارة ربما لأسماء التياب القادمة وارتباطها بهذا الحدث المأساوي في تاريخ السودان.
لقد اعتدنا أن نقرأ عن الأحداث الماضية والشخصيات الشهيرة في الكتب، أو رؤية قصصهم تتكَّشف على الشاشة في الأفلام الوثائقية، أو حتى من خلال التلاوات الشفاهية التي يرويها كبارنا. ومع ذلك، يمكن أيضاً تسجيل تاريخنا بطرق عديدة أخرى، بما في ذلك بعض الطرق غيرا لتقليدية للغاية. إحدى هذه الطرق هي من خلال ربط هذه الأحداث أو الأشخاص بالأشياء الموجودة في محيطنا، وهي ممارسة "التسمية"، وهي شائعة جداً في السودان.وتتراوح هذه النماذج بين السيارات الجديدة، كإطلاق اسم ليلى علوي (ممثلة مصرية)على سيارة تويوتا ذات الدفع الرباعي الواسعة والمنحنية بسخاء، إلى محطة حافلات"داعش" بالقرب من جامعة خاصة يُزعم أنه تم تجنيد عددٍ من طُلاَّبها للانضمام إلى الجماعة المتطرفة. هذه الأسماء سياسية وثقافية واجتماعية محمَّلة بمرجعيات يفهمها المجتمع.
في السودان، يمتدّ تقليد التسمية هذا إلى قطع الملابس، وفي هذه الحالة، إلى الزي النسائي التقليدي السوداني المعروف باسم التوب، وهو عبارة عن خامة قماش طويلة تشبه الساري، يتمّ لفّها حول جسد المرأة كطَبَقة خارجية. ومن خلال أسماء التياب يمكنك التعرُّف على بعض الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ السودان الحديث. من الطباعة الواضحة للوجوه أو الشعارات على أقمشة التياب المختلفة، إلى تمثيلات مجازية أكثر للحالات المزاجية أوالارتباطات؛ فإن أسماء هذه التياب ذكيّة وغالباً ما تكون فكاهية.
كيف يتم اختراع هذه الأسماء ومن يفكر فيها؟ كما هو الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، قديكون من الممكن تتبع أصل منشور انتشر بسرعة كبيرة، ولكن على الأرجح ستجذب ملاحظة أو وصف معيَّن انتباه المستخدمين، ثم يبدؤون في تطويره ومن ثم مشاركته ونشره.فمربط الفرس هنا هو أن الناس تمكنوا من الارتباط به. وعلى نفس المنوال، فإن أسماء التياب، التي كانت في يوم من الأيام حيلة تسويقية من قبل التجار الذين يسعون إلى خلق صيحات موضة وبالتالي زيادة المبيعات؛ قد تتلقَّى التياب أسماءها أيضاً بسبب ارتباطات ذكية بينها وبين الأشخاص أو الأحداث التي سُمّيت تيمُّناً بها؛ مثل توب "عيون زرّوق" والمقصود هو رئيس الوزراء الأسبق المشهور بعينيه الجميلتين، وهو توب مُزيَّن بأشكال دائرية لامعة. أما توب "الخرطوم بالليل"، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.وللنساء أنفسهن أيضاً الحق في تسمية التياب، مثلاً توب "يوم المرأة"، أو ندى القلعة على اسم المطربة الشهيرة التي ترتديه. ويمكن أيضاً إطلاق أسماء على التياب لأنها تُشبِع ظاهرة استحوذت على خيال الجمهور مثل توب "أبو القنفذ"،وهو توب مغطى بخيوط دائرية، سُمّي التوب بهذا الاسم نسبة إلى انتشار شائعات في ذلك الوقت حول اكتشاف الاستخدامات الطبيّة للقنافذ.
وبينما قد تحل تصميمات وأزياء أحدث محل هذه الموضات وارتباطاتها بالحياة اليومية، فإن حقيقة تسميتها في وقت معيّن ستظل شكلاً من أشكال الأرشيف السوداني غير الرسمي. هل ستؤدي الحرب والتمزق الذي أحدثته إلى تعطيل هذا التقليد في تسمية التياب أم سيستمر استخدامه؟ يتضمن إعلان تيك توك الأخير لأحد بائعي التياب توباً يسمى "القوات المسلحة"،وهي إشارة ربما لأسماء التياب القادمة وارتباطها بهذا الحدث المأساوي في تاريخ السودان.
لقد اعتدنا أن نقرأ عن الأحداث الماضية والشخصيات الشهيرة في الكتب، أو رؤية قصصهم تتكَّشف على الشاشة في الأفلام الوثائقية، أو حتى من خلال التلاوات الشفاهية التي يرويها كبارنا. ومع ذلك، يمكن أيضاً تسجيل تاريخنا بطرق عديدة أخرى، بما في ذلك بعض الطرق غيرا لتقليدية للغاية. إحدى هذه الطرق هي من خلال ربط هذه الأحداث أو الأشخاص بالأشياء الموجودة في محيطنا، وهي ممارسة "التسمية"، وهي شائعة جداً في السودان.وتتراوح هذه النماذج بين السيارات الجديدة، كإطلاق اسم ليلى علوي (ممثلة مصرية)على سيارة تويوتا ذات الدفع الرباعي الواسعة والمنحنية بسخاء، إلى محطة حافلات"داعش" بالقرب من جامعة خاصة يُزعم أنه تم تجنيد عددٍ من طُلاَّبها للانضمام إلى الجماعة المتطرفة. هذه الأسماء سياسية وثقافية واجتماعية محمَّلة بمرجعيات يفهمها المجتمع.
في السودان، يمتدّ تقليد التسمية هذا إلى قطع الملابس، وفي هذه الحالة، إلى الزي النسائي التقليدي السوداني المعروف باسم التوب، وهو عبارة عن خامة قماش طويلة تشبه الساري، يتمّ لفّها حول جسد المرأة كطَبَقة خارجية. ومن خلال أسماء التياب يمكنك التعرُّف على بعض الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ السودان الحديث. من الطباعة الواضحة للوجوه أو الشعارات على أقمشة التياب المختلفة، إلى تمثيلات مجازية أكثر للحالات المزاجية أوالارتباطات؛ فإن أسماء هذه التياب ذكيّة وغالباً ما تكون فكاهية.
كيف يتم اختراع هذه الأسماء ومن يفكر فيها؟ كما هو الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، قديكون من الممكن تتبع أصل منشور انتشر بسرعة كبيرة، ولكن على الأرجح ستجذب ملاحظة أو وصف معيَّن انتباه المستخدمين، ثم يبدؤون في تطويره ومن ثم مشاركته ونشره.فمربط الفرس هنا هو أن الناس تمكنوا من الارتباط به. وعلى نفس المنوال، فإن أسماء التياب، التي كانت في يوم من الأيام حيلة تسويقية من قبل التجار الذين يسعون إلى خلق صيحات موضة وبالتالي زيادة المبيعات؛ قد تتلقَّى التياب أسماءها أيضاً بسبب ارتباطات ذكية بينها وبين الأشخاص أو الأحداث التي سُمّيت تيمُّناً بها؛ مثل توب "عيون زرّوق" والمقصود هو رئيس الوزراء الأسبق المشهور بعينيه الجميلتين، وهو توب مُزيَّن بأشكال دائرية لامعة. أما توب "الخرطوم بالليل"، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.وللنساء أنفسهن أيضاً الحق في تسمية التياب، مثلاً توب "يوم المرأة"، أو ندى القلعة على اسم المطربة الشهيرة التي ترتديه. ويمكن أيضاً إطلاق أسماء على التياب لأنها تُشبِع ظاهرة استحوذت على خيال الجمهور مثل توب "أبو القنفذ"،وهو توب مغطى بخيوط دائرية، سُمّي التوب بهذا الاسم نسبة إلى انتشار شائعات في ذلك الوقت حول اكتشاف الاستخدامات الطبيّة للقنافذ.
وبينما قد تحل تصميمات وأزياء أحدث محل هذه الموضات وارتباطاتها بالحياة اليومية، فإن حقيقة تسميتها في وقت معيّن ستظل شكلاً من أشكال الأرشيف السوداني غير الرسمي. هل ستؤدي الحرب والتمزق الذي أحدثته إلى تعطيل هذا التقليد في تسمية التياب أم سيستمر استخدامه؟ يتضمن إعلان تيك توك الأخير لأحد بائعي التياب توباً يسمى "القوات المسلحة"،وهي إشارة ربما لأسماء التياب القادمة وارتباطها بهذا الحدث المأساوي في تاريخ السودان.
اتجاهات جديدة
الديكور: خلق اتجاهات جديدة في مجالات عدة من الموسيقى إلى الموضة والأدب، أثرت النساء في العديد من المجالات وأسسن اتجاهات جديدة غالبًا ما تغير التصورات حول الجمال. يشكلن النساء أيضًا نوعًا من الأرشيف الذي يوثق الكثير من الأحداث الاجتماعية والتاريخية الهامة.
أزياء وزينة المرأة في فترة المهدية
أزياء وزينة المرأة في فترة المهدية
نساء في الموسيقى
نساء في الموسيقى
عائشة الفلاتيَّة
عائشة الفلاتيَّة
تستعصي الفنانة عائشة موسى أحمد إدريس المعروفة بعائشة الفلاتية على الحصر، فهي تتجدَّد في ذاكرة السودانيين مع تبدُّل أحوالهم يُسراً وعُسراً. الآن، والسودان يتمزَّق في اقتتال عنيف، تتخذ أغاني الفلاتية معانٍ جديدة لم يكن لنا أن نخترعها إلا انزلاقاً في هاوية، فيأتينا "سمسم قضارف" الفلاتية في عبوة جديدة؛ تذكاراً لحياة آفلة.
وحسب الباحث الأستاذ معاوية ياسين، فقد وُلدت عائشة موسى في مدينة كسلا، ويصعب تحديد العام الذي وُلِدت فيه على الدقّة، وتوفّيت في أم درمان شهر فبراير ١٩٧٤. نشأت الفلاتية في كنف أسرة يشملها التدين والعلم. وكان والدها الحاج موسى أحمد شيخاً قارئاً يُعلِّم الطلاب في خلوة. وذكر باحثون مختلفون أن عائشة كانت تتسلَّل إلى بيوت اللعبة تسترق السمع إلى أغاني ذلك الزمان، تحفظها بسرعة وتعود لتؤديها أمام صديقاتها. و في إشارة حسَّاسة ذكرت الأستاذة خالدة الجنيد أن صديقات عائشة الصغيرات هنَّ جمهورها الأول([i]).وفي ذلك مدعاة للتفكير في الأشياء التي نخسرها دون أن نعي وجودها؛ التواريخ غير الرسمية المُغفَلة التي تُنزع عنها الجدارة عند تأريخ النجاح بمعناه الرأسمالي.
في ١٩٣٦ م التقت موهبة الفلاتية مع موهبة الموسيقار العظيم إسماعيل عبد المعين في القاهرة عند تسجيل الأسطوانات العشر الأولى، والتي كانت كلّها من ألحانه، لكن ضاعت أغانيها واستدرك بعضاً منها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي،ومن ضمن ما استدرك "خداري الما بَدَاري"، و"حبيتو ما حبَّاني"،و"الزهور والوردي" التي تغنَّى بها لاحقاً الفنان عثمان الشفيع، وهي من أغاني الفلاتية الباكرة في الأصل. وعبد المعين لحظة كبيرة في زمن عائشة الفلاتية، حيث تعاون معها مرة أخرى عام ١٩٤١ وأنتَجا معاً خمس أغاني إضافية ([ii]). ويبدو أن عبد المعين وجد فيها رفيقة في تأسيسه لفنّ ملتحم في الثقافة. فعبد المعين استقى جلَّ أعماله من جلوسه تحت أقدام الأمهات والجارات. زوجة أبيه، السيدة فاطمة فور، لقَّنته أهزوجة "يا أم قرقدى" في (مقام الزنجران) المصور على جنس (مقام الحجاز)، وأخذ "كندروا مندروا" عن "أم الفقرا حبوبة زيتونة" التي جالسها وهو طفل في السابعة، بينما كانت تنسج الأطباق في منقلا بجنوب السودان، طراه الله بالخير ([iii]).وحسب الباحث عوض بابكر، فقد أخذ عبدالمعين إيقاع السيرة عن السَيَّارَات شريفة بتبلال، ونَجَف، وقَطَّاعة الخشوم وبِت العَقَاب، كما أخذ عن رابحة خوجلي إيقاع الـ"تُمتُم" الذي أخذته رابحة عن مُساعِدي اللَّواري ([iv]).وغنَّت عائشة الفلاتية إيقاع الـ"تُم تُم" في أغانيها المبكرة، لذلك جاءالإنتاج الباكر للفلاتية طَلِيقاً مَرِحاً مشحوناً بالأرض. في أعمالها اللاحقة،ربما لدواعي السوق، دخلت الفلاتية في الجزالة والبلاغة الذكورية التي ضرَبت نَسلَها من الشاعرات إلى يومنا هذا، فغنَّت في إيقاعات وأشعار تتفاوض مع الحداثة من موقع المُرتَاب. لكن عائشة كانت قلقة، وظلَّت ترواح، مع الشاعر محمود التنقاري، بين تلك الطلاقة الباكرة في "عَنِّي مالهم صَدُّوا واتوارُوا" وبين أشواق الطبقة الوسطى الجَنِينِيَّة الصاعدة في "ألحان الربيع" وأغانٍ أخرى جَزِلة.
ومن لحظات الفلاتية الفارقة أيضاً دخولها في مفاوضات القومية السودانية، واختراع الوجدان المشترك عبر أغانيها التي استأنَس بها السودانيون في معظم نواحي السودان تأتيهم من إذاعة أمدرمان. في تلك الأغاني التيدخلت الحيشان في التوقيت نفسه، وتسلَّلت إلى أرواح الناس بالتزامن، تحقَّق جزء من ملامح ذلك الفضاء السحري الضروري للتوسّط في عملية تَخيُّل الأمة كياناً واحداً، وهي عملية عسيرة وعنيفة بالطبيعة. قال "بنديكت أندرسون" إن خيال الأمة الواحدة لم يبدأ إلا عندما تمكَّنت الشعوب الأوربية من قراءة الصحف اليومية في توقيت واحد، يومياً. فتشكَّلت فيهم لغة روحية جامعة جرَّاء ذلك الطقس المادي. وسَهم الفلاتية في اختراع الوجدان أعلى من كثيرين وصفوا أنفسهم بـ"الحركة الوطنية"،فبينما انشغل الأفندية في إدانة الثقافة على صفحات المجلات، مُوبِّخين أهلهم على عادات وتقاليد سمّوها رجعية، اصطفَّت الفلاتية مع الناس ومع الثقافة، وفاوضت مظالمها بالفن والإرادة الصلبة. وجاء في شرح معاوية ياسين أن والد الفلاتية ظلّ غاضباً من اندراج ابنته في عالم الغناء زمناً. وكان في الحلاوين، حيث تتذكر جَدية موسى شقيقةعائشة أنهم سمعوا في الحلاوين ولأول مرة صوت ابنتهم ينبعث من الأسطوانة. وذابالغضب بالكلّية عندما عاد الأب إلى أمدرمان ووجد أن ابنته ذاع صيتها وملأت شهرتهاالآفاق، فبارك مسعاها ([v]).
ودخلت عائشة في التاريخ القومي بجولات فنية دعمت فيها المجهود الحربي لقوات دفاع السودان في جبهتي القتال الشرقية والغربية، محاربين ضمن جيوش العرش البريطاني ضد المحور النازي في الحرب العالمية الثانية، مرغماً أخاك وبَطل. وغاب عن التأريخ المنتصر في الحرب العالمية الثانية الاعتراف بتضحيات المستعمرات، حيث حاربت قوات هندية وسودانية وسنغالية ومغربية ونيجرية وغانية وكاريبية في صف فرنسا وبريطانيا، كما موَّلت المستعمرات المجهود الحربي بوصفها جزءاً من اقتصاد الإمبراطوريتين وقتها. لكن نذراً يسيراً من هذا التاريخ المُضام ظلَّ محفوظاً في أغاني عائشة الفلاتية، عندما غنَّت لجنود قوات دفاع السودان في مدينتي خشم القربة وكَرن الحدودية داعية بسلامة العودة. وسمَّت عائشة هتلر وموسليني "ريالاً برَّانياً"أي عملة مُنتهية الصلاحية، ولم تقم للرجلين بعدها قائمة.
مع ذلك، لم تُنصِف الحركة النسائية السودانية عائشة الفلاتية، ولم تحوّلها إلى رمز نسوي. والفلاتية حقَّقت أحلام الحركة قبل تكوّنها وكانت في علم الغيب. فمنذ منتصف الثلاثينيات كانت "عشوش" تُسافر في مهام مهنية، وكانت تتلقَّى أجراً مقابل أعمالها. وفي نضجها الفني ظلَّت تتحرك بحرية بين مدن السودان تحيي الحفلات، وتتجول بين دول العالم ممثلةً للسودان في مناسبات فنية،كما شاركت في تأسيس رابطة الفنانين السودانيين وهي كيان يحمي مصالح الفنانين ويتفاوض في حماية أجورهم وحقوقهم المادية والمعنوية حاله حال النقابة. كانت الفلاتية ملء السمع والبصر في الفضاء العام، رمزاً فنياً وجزءاً عزيزاً من ذاكرتنا الوطنية، فكيف أغفلتها الحركة؟.
[i] مقابلة تلفزيونية مع خالدة الجنيد (النيل الأزرق على يوتيوب).
[ii] مقابلة خاصّة أجريتها مع الباحث الأستاذ معاوية ياسين.
[iii] مقابلة تلفزيونية مع إسماعيل عبد المعين بقناة تلفزيون السودان.
[iv] مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عوض بابكر (تلفزيون السودان، منشورة على يوتيوب)
[v] ترجمة معاوية ياسين لعائشة الفلاتية الصادرة في كتاب (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، الجزءالأول. الترجمة وصلتني في اتصال خاص مع الباحث.
تستعصي الفنانة عائشة موسى أحمد إدريس المعروفة بعائشة الفلاتية على الحصر، فهي تتجدَّد في ذاكرة السودانيين مع تبدُّل أحوالهم يُسراً وعُسراً. الآن، والسودان يتمزَّق في اقتتال عنيف، تتخذ أغاني الفلاتية معانٍ جديدة لم يكن لنا أن نخترعها إلا انزلاقاً في هاوية، فيأتينا "سمسم قضارف" الفلاتية في عبوة جديدة؛ تذكاراً لحياة آفلة.
وحسب الباحث الأستاذ معاوية ياسين، فقد وُلدت عائشة موسى في مدينة كسلا، ويصعب تحديد العام الذي وُلِدت فيه على الدقّة، وتوفّيت في أم درمان شهر فبراير ١٩٧٤. نشأت الفلاتية في كنف أسرة يشملها التدين والعلم. وكان والدها الحاج موسى أحمد شيخاً قارئاً يُعلِّم الطلاب في خلوة. وذكر باحثون مختلفون أن عائشة كانت تتسلَّل إلى بيوت اللعبة تسترق السمع إلى أغاني ذلك الزمان، تحفظها بسرعة وتعود لتؤديها أمام صديقاتها. و في إشارة حسَّاسة ذكرت الأستاذة خالدة الجنيد أن صديقات عائشة الصغيرات هنَّ جمهورها الأول([i]).وفي ذلك مدعاة للتفكير في الأشياء التي نخسرها دون أن نعي وجودها؛ التواريخ غير الرسمية المُغفَلة التي تُنزع عنها الجدارة عند تأريخ النجاح بمعناه الرأسمالي.
في ١٩٣٦ م التقت موهبة الفلاتية مع موهبة الموسيقار العظيم إسماعيل عبد المعين في القاهرة عند تسجيل الأسطوانات العشر الأولى، والتي كانت كلّها من ألحانه، لكن ضاعت أغانيها واستدرك بعضاً منها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي،ومن ضمن ما استدرك "خداري الما بَدَاري"، و"حبيتو ما حبَّاني"،و"الزهور والوردي" التي تغنَّى بها لاحقاً الفنان عثمان الشفيع، وهي من أغاني الفلاتية الباكرة في الأصل. وعبد المعين لحظة كبيرة في زمن عائشة الفلاتية، حيث تعاون معها مرة أخرى عام ١٩٤١ وأنتَجا معاً خمس أغاني إضافية ([ii]). ويبدو أن عبد المعين وجد فيها رفيقة في تأسيسه لفنّ ملتحم في الثقافة. فعبد المعين استقى جلَّ أعماله من جلوسه تحت أقدام الأمهات والجارات. زوجة أبيه، السيدة فاطمة فور، لقَّنته أهزوجة "يا أم قرقدى" في (مقام الزنجران) المصور على جنس (مقام الحجاز)، وأخذ "كندروا مندروا" عن "أم الفقرا حبوبة زيتونة" التي جالسها وهو طفل في السابعة، بينما كانت تنسج الأطباق في منقلا بجنوب السودان، طراه الله بالخير ([iii]).وحسب الباحث عوض بابكر، فقد أخذ عبدالمعين إيقاع السيرة عن السَيَّارَات شريفة بتبلال، ونَجَف، وقَطَّاعة الخشوم وبِت العَقَاب، كما أخذ عن رابحة خوجلي إيقاع الـ"تُمتُم" الذي أخذته رابحة عن مُساعِدي اللَّواري ([iv]).وغنَّت عائشة الفلاتية إيقاع الـ"تُم تُم" في أغانيها المبكرة، لذلك جاءالإنتاج الباكر للفلاتية طَلِيقاً مَرِحاً مشحوناً بالأرض. في أعمالها اللاحقة،ربما لدواعي السوق، دخلت الفلاتية في الجزالة والبلاغة الذكورية التي ضرَبت نَسلَها من الشاعرات إلى يومنا هذا، فغنَّت في إيقاعات وأشعار تتفاوض مع الحداثة من موقع المُرتَاب. لكن عائشة كانت قلقة، وظلَّت ترواح، مع الشاعر محمود التنقاري، بين تلك الطلاقة الباكرة في "عَنِّي مالهم صَدُّوا واتوارُوا" وبين أشواق الطبقة الوسطى الجَنِينِيَّة الصاعدة في "ألحان الربيع" وأغانٍ أخرى جَزِلة.
ومن لحظات الفلاتية الفارقة أيضاً دخولها في مفاوضات القومية السودانية، واختراع الوجدان المشترك عبر أغانيها التي استأنَس بها السودانيون في معظم نواحي السودان تأتيهم من إذاعة أمدرمان. في تلك الأغاني التيدخلت الحيشان في التوقيت نفسه، وتسلَّلت إلى أرواح الناس بالتزامن، تحقَّق جزء من ملامح ذلك الفضاء السحري الضروري للتوسّط في عملية تَخيُّل الأمة كياناً واحداً، وهي عملية عسيرة وعنيفة بالطبيعة. قال "بنديكت أندرسون" إن خيال الأمة الواحدة لم يبدأ إلا عندما تمكَّنت الشعوب الأوربية من قراءة الصحف اليومية في توقيت واحد، يومياً. فتشكَّلت فيهم لغة روحية جامعة جرَّاء ذلك الطقس المادي. وسَهم الفلاتية في اختراع الوجدان أعلى من كثيرين وصفوا أنفسهم بـ"الحركة الوطنية"،فبينما انشغل الأفندية في إدانة الثقافة على صفحات المجلات، مُوبِّخين أهلهم على عادات وتقاليد سمّوها رجعية، اصطفَّت الفلاتية مع الناس ومع الثقافة، وفاوضت مظالمها بالفن والإرادة الصلبة. وجاء في شرح معاوية ياسين أن والد الفلاتية ظلّ غاضباً من اندراج ابنته في عالم الغناء زمناً. وكان في الحلاوين، حيث تتذكر جَدية موسى شقيقةعائشة أنهم سمعوا في الحلاوين ولأول مرة صوت ابنتهم ينبعث من الأسطوانة. وذابالغضب بالكلّية عندما عاد الأب إلى أمدرمان ووجد أن ابنته ذاع صيتها وملأت شهرتهاالآفاق، فبارك مسعاها ([v]).
ودخلت عائشة في التاريخ القومي بجولات فنية دعمت فيها المجهود الحربي لقوات دفاع السودان في جبهتي القتال الشرقية والغربية، محاربين ضمن جيوش العرش البريطاني ضد المحور النازي في الحرب العالمية الثانية، مرغماً أخاك وبَطل. وغاب عن التأريخ المنتصر في الحرب العالمية الثانية الاعتراف بتضحيات المستعمرات، حيث حاربت قوات هندية وسودانية وسنغالية ومغربية ونيجرية وغانية وكاريبية في صف فرنسا وبريطانيا، كما موَّلت المستعمرات المجهود الحربي بوصفها جزءاً من اقتصاد الإمبراطوريتين وقتها. لكن نذراً يسيراً من هذا التاريخ المُضام ظلَّ محفوظاً في أغاني عائشة الفلاتية، عندما غنَّت لجنود قوات دفاع السودان في مدينتي خشم القربة وكَرن الحدودية داعية بسلامة العودة. وسمَّت عائشة هتلر وموسليني "ريالاً برَّانياً"أي عملة مُنتهية الصلاحية، ولم تقم للرجلين بعدها قائمة.
مع ذلك، لم تُنصِف الحركة النسائية السودانية عائشة الفلاتية، ولم تحوّلها إلى رمز نسوي. والفلاتية حقَّقت أحلام الحركة قبل تكوّنها وكانت في علم الغيب. فمنذ منتصف الثلاثينيات كانت "عشوش" تُسافر في مهام مهنية، وكانت تتلقَّى أجراً مقابل أعمالها. وفي نضجها الفني ظلَّت تتحرك بحرية بين مدن السودان تحيي الحفلات، وتتجول بين دول العالم ممثلةً للسودان في مناسبات فنية،كما شاركت في تأسيس رابطة الفنانين السودانيين وهي كيان يحمي مصالح الفنانين ويتفاوض في حماية أجورهم وحقوقهم المادية والمعنوية حاله حال النقابة. كانت الفلاتية ملء السمع والبصر في الفضاء العام، رمزاً فنياً وجزءاً عزيزاً من ذاكرتنا الوطنية، فكيف أغفلتها الحركة؟.
[i] مقابلة تلفزيونية مع خالدة الجنيد (النيل الأزرق على يوتيوب).
[ii] مقابلة خاصّة أجريتها مع الباحث الأستاذ معاوية ياسين.
[iii] مقابلة تلفزيونية مع إسماعيل عبد المعين بقناة تلفزيون السودان.
[iv] مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عوض بابكر (تلفزيون السودان، منشورة على يوتيوب)
[v] ترجمة معاوية ياسين لعائشة الفلاتية الصادرة في كتاب (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، الجزءالأول. الترجمة وصلتني في اتصال خاص مع الباحث.
تستعصي الفنانة عائشة موسى أحمد إدريس المعروفة بعائشة الفلاتية على الحصر، فهي تتجدَّد في ذاكرة السودانيين مع تبدُّل أحوالهم يُسراً وعُسراً. الآن، والسودان يتمزَّق في اقتتال عنيف، تتخذ أغاني الفلاتية معانٍ جديدة لم يكن لنا أن نخترعها إلا انزلاقاً في هاوية، فيأتينا "سمسم قضارف" الفلاتية في عبوة جديدة؛ تذكاراً لحياة آفلة.
وحسب الباحث الأستاذ معاوية ياسين، فقد وُلدت عائشة موسى في مدينة كسلا، ويصعب تحديد العام الذي وُلِدت فيه على الدقّة، وتوفّيت في أم درمان شهر فبراير ١٩٧٤. نشأت الفلاتية في كنف أسرة يشملها التدين والعلم. وكان والدها الحاج موسى أحمد شيخاً قارئاً يُعلِّم الطلاب في خلوة. وذكر باحثون مختلفون أن عائشة كانت تتسلَّل إلى بيوت اللعبة تسترق السمع إلى أغاني ذلك الزمان، تحفظها بسرعة وتعود لتؤديها أمام صديقاتها. و في إشارة حسَّاسة ذكرت الأستاذة خالدة الجنيد أن صديقات عائشة الصغيرات هنَّ جمهورها الأول([i]).وفي ذلك مدعاة للتفكير في الأشياء التي نخسرها دون أن نعي وجودها؛ التواريخ غير الرسمية المُغفَلة التي تُنزع عنها الجدارة عند تأريخ النجاح بمعناه الرأسمالي.
في ١٩٣٦ م التقت موهبة الفلاتية مع موهبة الموسيقار العظيم إسماعيل عبد المعين في القاهرة عند تسجيل الأسطوانات العشر الأولى، والتي كانت كلّها من ألحانه، لكن ضاعت أغانيها واستدرك بعضاً منها الشاعر محمد عوض الكريم القرشي،ومن ضمن ما استدرك "خداري الما بَدَاري"، و"حبيتو ما حبَّاني"،و"الزهور والوردي" التي تغنَّى بها لاحقاً الفنان عثمان الشفيع، وهي من أغاني الفلاتية الباكرة في الأصل. وعبد المعين لحظة كبيرة في زمن عائشة الفلاتية، حيث تعاون معها مرة أخرى عام ١٩٤١ وأنتَجا معاً خمس أغاني إضافية ([ii]). ويبدو أن عبد المعين وجد فيها رفيقة في تأسيسه لفنّ ملتحم في الثقافة. فعبد المعين استقى جلَّ أعماله من جلوسه تحت أقدام الأمهات والجارات. زوجة أبيه، السيدة فاطمة فور، لقَّنته أهزوجة "يا أم قرقدى" في (مقام الزنجران) المصور على جنس (مقام الحجاز)، وأخذ "كندروا مندروا" عن "أم الفقرا حبوبة زيتونة" التي جالسها وهو طفل في السابعة، بينما كانت تنسج الأطباق في منقلا بجنوب السودان، طراه الله بالخير ([iii]).وحسب الباحث عوض بابكر، فقد أخذ عبدالمعين إيقاع السيرة عن السَيَّارَات شريفة بتبلال، ونَجَف، وقَطَّاعة الخشوم وبِت العَقَاب، كما أخذ عن رابحة خوجلي إيقاع الـ"تُمتُم" الذي أخذته رابحة عن مُساعِدي اللَّواري ([iv]).وغنَّت عائشة الفلاتية إيقاع الـ"تُم تُم" في أغانيها المبكرة، لذلك جاءالإنتاج الباكر للفلاتية طَلِيقاً مَرِحاً مشحوناً بالأرض. في أعمالها اللاحقة،ربما لدواعي السوق، دخلت الفلاتية في الجزالة والبلاغة الذكورية التي ضرَبت نَسلَها من الشاعرات إلى يومنا هذا، فغنَّت في إيقاعات وأشعار تتفاوض مع الحداثة من موقع المُرتَاب. لكن عائشة كانت قلقة، وظلَّت ترواح، مع الشاعر محمود التنقاري، بين تلك الطلاقة الباكرة في "عَنِّي مالهم صَدُّوا واتوارُوا" وبين أشواق الطبقة الوسطى الجَنِينِيَّة الصاعدة في "ألحان الربيع" وأغانٍ أخرى جَزِلة.
ومن لحظات الفلاتية الفارقة أيضاً دخولها في مفاوضات القومية السودانية، واختراع الوجدان المشترك عبر أغانيها التي استأنَس بها السودانيون في معظم نواحي السودان تأتيهم من إذاعة أمدرمان. في تلك الأغاني التيدخلت الحيشان في التوقيت نفسه، وتسلَّلت إلى أرواح الناس بالتزامن، تحقَّق جزء من ملامح ذلك الفضاء السحري الضروري للتوسّط في عملية تَخيُّل الأمة كياناً واحداً، وهي عملية عسيرة وعنيفة بالطبيعة. قال "بنديكت أندرسون" إن خيال الأمة الواحدة لم يبدأ إلا عندما تمكَّنت الشعوب الأوربية من قراءة الصحف اليومية في توقيت واحد، يومياً. فتشكَّلت فيهم لغة روحية جامعة جرَّاء ذلك الطقس المادي. وسَهم الفلاتية في اختراع الوجدان أعلى من كثيرين وصفوا أنفسهم بـ"الحركة الوطنية"،فبينما انشغل الأفندية في إدانة الثقافة على صفحات المجلات، مُوبِّخين أهلهم على عادات وتقاليد سمّوها رجعية، اصطفَّت الفلاتية مع الناس ومع الثقافة، وفاوضت مظالمها بالفن والإرادة الصلبة. وجاء في شرح معاوية ياسين أن والد الفلاتية ظلّ غاضباً من اندراج ابنته في عالم الغناء زمناً. وكان في الحلاوين، حيث تتذكر جَدية موسى شقيقةعائشة أنهم سمعوا في الحلاوين ولأول مرة صوت ابنتهم ينبعث من الأسطوانة. وذابالغضب بالكلّية عندما عاد الأب إلى أمدرمان ووجد أن ابنته ذاع صيتها وملأت شهرتهاالآفاق، فبارك مسعاها ([v]).
ودخلت عائشة في التاريخ القومي بجولات فنية دعمت فيها المجهود الحربي لقوات دفاع السودان في جبهتي القتال الشرقية والغربية، محاربين ضمن جيوش العرش البريطاني ضد المحور النازي في الحرب العالمية الثانية، مرغماً أخاك وبَطل. وغاب عن التأريخ المنتصر في الحرب العالمية الثانية الاعتراف بتضحيات المستعمرات، حيث حاربت قوات هندية وسودانية وسنغالية ومغربية ونيجرية وغانية وكاريبية في صف فرنسا وبريطانيا، كما موَّلت المستعمرات المجهود الحربي بوصفها جزءاً من اقتصاد الإمبراطوريتين وقتها. لكن نذراً يسيراً من هذا التاريخ المُضام ظلَّ محفوظاً في أغاني عائشة الفلاتية، عندما غنَّت لجنود قوات دفاع السودان في مدينتي خشم القربة وكَرن الحدودية داعية بسلامة العودة. وسمَّت عائشة هتلر وموسليني "ريالاً برَّانياً"أي عملة مُنتهية الصلاحية، ولم تقم للرجلين بعدها قائمة.
مع ذلك، لم تُنصِف الحركة النسائية السودانية عائشة الفلاتية، ولم تحوّلها إلى رمز نسوي. والفلاتية حقَّقت أحلام الحركة قبل تكوّنها وكانت في علم الغيب. فمنذ منتصف الثلاثينيات كانت "عشوش" تُسافر في مهام مهنية، وكانت تتلقَّى أجراً مقابل أعمالها. وفي نضجها الفني ظلَّت تتحرك بحرية بين مدن السودان تحيي الحفلات، وتتجول بين دول العالم ممثلةً للسودان في مناسبات فنية،كما شاركت في تأسيس رابطة الفنانين السودانيين وهي كيان يحمي مصالح الفنانين ويتفاوض في حماية أجورهم وحقوقهم المادية والمعنوية حاله حال النقابة. كانت الفلاتية ملء السمع والبصر في الفضاء العام، رمزاً فنياً وجزءاً عزيزاً من ذاكرتنا الوطنية، فكيف أغفلتها الحركة؟.
[i] مقابلة تلفزيونية مع خالدة الجنيد (النيل الأزرق على يوتيوب).
[ii] مقابلة خاصّة أجريتها مع الباحث الأستاذ معاوية ياسين.
[iii] مقابلة تلفزيونية مع إسماعيل عبد المعين بقناة تلفزيون السودان.
[iv] مقابلة تلفزيونية مع الأستاذ عوض بابكر (تلفزيون السودان، منشورة على يوتيوب)
[v] ترجمة معاوية ياسين لعائشة الفلاتية الصادرة في كتاب (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، الجزءالأول. الترجمة وصلتني في اتصال خاص مع الباحث.
تسمية التوب كأداة للأرشفة
تسمية التوب كأداة للأرشفة
لقد اعتدنا أن نقرأ عن الأحداث الماضية والشخصيات الشهيرة في الكتب، أو رؤية قصصهم تتكَّشف على الشاشة في الأفلام الوثائقية، أو حتى من خلال التلاوات الشفاهية التي يرويها كبارنا. ومع ذلك، يمكن أيضاً تسجيل تاريخنا بطرق عديدة أخرى، بما في ذلك بعض الطرق غيرا لتقليدية للغاية. إحدى هذه الطرق هي من خلال ربط هذه الأحداث أو الأشخاص بالأشياء الموجودة في محيطنا، وهي ممارسة "التسمية"، وهي شائعة جداً في السودان.وتتراوح هذه النماذج بين السيارات الجديدة، كإطلاق اسم ليلى علوي (ممثلة مصرية)على سيارة تويوتا ذات الدفع الرباعي الواسعة والمنحنية بسخاء، إلى محطة حافلات"داعش" بالقرب من جامعة خاصة يُزعم أنه تم تجنيد عددٍ من طُلاَّبها للانضمام إلى الجماعة المتطرفة. هذه الأسماء سياسية وثقافية واجتماعية محمَّلة بمرجعيات يفهمها المجتمع.
في السودان، يمتدّ تقليد التسمية هذا إلى قطع الملابس، وفي هذه الحالة، إلى الزي النسائي التقليدي السوداني المعروف باسم التوب، وهو عبارة عن خامة قماش طويلة تشبه الساري، يتمّ لفّها حول جسد المرأة كطَبَقة خارجية. ومن خلال أسماء التياب يمكنك التعرُّف على بعض الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ السودان الحديث. من الطباعة الواضحة للوجوه أو الشعارات على أقمشة التياب المختلفة، إلى تمثيلات مجازية أكثر للحالات المزاجية أوالارتباطات؛ فإن أسماء هذه التياب ذكيّة وغالباً ما تكون فكاهية.
كيف يتم اختراع هذه الأسماء ومن يفكر فيها؟ كما هو الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، قديكون من الممكن تتبع أصل منشور انتشر بسرعة كبيرة، ولكن على الأرجح ستجذب ملاحظة أو وصف معيَّن انتباه المستخدمين، ثم يبدؤون في تطويره ومن ثم مشاركته ونشره.فمربط الفرس هنا هو أن الناس تمكنوا من الارتباط به. وعلى نفس المنوال، فإن أسماء التياب، التي كانت في يوم من الأيام حيلة تسويقية من قبل التجار الذين يسعون إلى خلق صيحات موضة وبالتالي زيادة المبيعات؛ قد تتلقَّى التياب أسماءها أيضاً بسبب ارتباطات ذكية بينها وبين الأشخاص أو الأحداث التي سُمّيت تيمُّناً بها؛ مثل توب "عيون زرّوق" والمقصود هو رئيس الوزراء الأسبق المشهور بعينيه الجميلتين، وهو توب مُزيَّن بأشكال دائرية لامعة. أما توب "الخرطوم بالليل"، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.وللنساء أنفسهن أيضاً الحق في تسمية التياب، مثلاً توب "يوم المرأة"، أو ندى القلعة على اسم المطربة الشهيرة التي ترتديه. ويمكن أيضاً إطلاق أسماء على التياب لأنها تُشبِع ظاهرة استحوذت على خيال الجمهور مثل توب "أبو القنفذ"،وهو توب مغطى بخيوط دائرية، سُمّي التوب بهذا الاسم نسبة إلى انتشار شائعات في ذلك الوقت حول اكتشاف الاستخدامات الطبيّة للقنافذ.
وبينما قد تحل تصميمات وأزياء أحدث محل هذه الموضات وارتباطاتها بالحياة اليومية، فإن حقيقة تسميتها في وقت معيّن ستظل شكلاً من أشكال الأرشيف السوداني غير الرسمي. هل ستؤدي الحرب والتمزق الذي أحدثته إلى تعطيل هذا التقليد في تسمية التياب أم سيستمر استخدامه؟ يتضمن إعلان تيك توك الأخير لأحد بائعي التياب توباً يسمى "القوات المسلحة"،وهي إشارة ربما لأسماء التياب القادمة وارتباطها بهذا الحدث المأساوي في تاريخ السودان.
لقد اعتدنا أن نقرأ عن الأحداث الماضية والشخصيات الشهيرة في الكتب، أو رؤية قصصهم تتكَّشف على الشاشة في الأفلام الوثائقية، أو حتى من خلال التلاوات الشفاهية التي يرويها كبارنا. ومع ذلك، يمكن أيضاً تسجيل تاريخنا بطرق عديدة أخرى، بما في ذلك بعض الطرق غيرا لتقليدية للغاية. إحدى هذه الطرق هي من خلال ربط هذه الأحداث أو الأشخاص بالأشياء الموجودة في محيطنا، وهي ممارسة "التسمية"، وهي شائعة جداً في السودان.وتتراوح هذه النماذج بين السيارات الجديدة، كإطلاق اسم ليلى علوي (ممثلة مصرية)على سيارة تويوتا ذات الدفع الرباعي الواسعة والمنحنية بسخاء، إلى محطة حافلات"داعش" بالقرب من جامعة خاصة يُزعم أنه تم تجنيد عددٍ من طُلاَّبها للانضمام إلى الجماعة المتطرفة. هذه الأسماء سياسية وثقافية واجتماعية محمَّلة بمرجعيات يفهمها المجتمع.
في السودان، يمتدّ تقليد التسمية هذا إلى قطع الملابس، وفي هذه الحالة، إلى الزي النسائي التقليدي السوداني المعروف باسم التوب، وهو عبارة عن خامة قماش طويلة تشبه الساري، يتمّ لفّها حول جسد المرأة كطَبَقة خارجية. ومن خلال أسماء التياب يمكنك التعرُّف على بعض الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ السودان الحديث. من الطباعة الواضحة للوجوه أو الشعارات على أقمشة التياب المختلفة، إلى تمثيلات مجازية أكثر للحالات المزاجية أوالارتباطات؛ فإن أسماء هذه التياب ذكيّة وغالباً ما تكون فكاهية.
كيف يتم اختراع هذه الأسماء ومن يفكر فيها؟ كما هو الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، قديكون من الممكن تتبع أصل منشور انتشر بسرعة كبيرة، ولكن على الأرجح ستجذب ملاحظة أو وصف معيَّن انتباه المستخدمين، ثم يبدؤون في تطويره ومن ثم مشاركته ونشره.فمربط الفرس هنا هو أن الناس تمكنوا من الارتباط به. وعلى نفس المنوال، فإن أسماء التياب، التي كانت في يوم من الأيام حيلة تسويقية من قبل التجار الذين يسعون إلى خلق صيحات موضة وبالتالي زيادة المبيعات؛ قد تتلقَّى التياب أسماءها أيضاً بسبب ارتباطات ذكية بينها وبين الأشخاص أو الأحداث التي سُمّيت تيمُّناً بها؛ مثل توب "عيون زرّوق" والمقصود هو رئيس الوزراء الأسبق المشهور بعينيه الجميلتين، وهو توب مُزيَّن بأشكال دائرية لامعة. أما توب "الخرطوم بالليل"، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.وللنساء أنفسهن أيضاً الحق في تسمية التياب، مثلاً توب "يوم المرأة"، أو ندى القلعة على اسم المطربة الشهيرة التي ترتديه. ويمكن أيضاً إطلاق أسماء على التياب لأنها تُشبِع ظاهرة استحوذت على خيال الجمهور مثل توب "أبو القنفذ"،وهو توب مغطى بخيوط دائرية، سُمّي التوب بهذا الاسم نسبة إلى انتشار شائعات في ذلك الوقت حول اكتشاف الاستخدامات الطبيّة للقنافذ.
وبينما قد تحل تصميمات وأزياء أحدث محل هذه الموضات وارتباطاتها بالحياة اليومية، فإن حقيقة تسميتها في وقت معيّن ستظل شكلاً من أشكال الأرشيف السوداني غير الرسمي. هل ستؤدي الحرب والتمزق الذي أحدثته إلى تعطيل هذا التقليد في تسمية التياب أم سيستمر استخدامه؟ يتضمن إعلان تيك توك الأخير لأحد بائعي التياب توباً يسمى "القوات المسلحة"،وهي إشارة ربما لأسماء التياب القادمة وارتباطها بهذا الحدث المأساوي في تاريخ السودان.
لقد اعتدنا أن نقرأ عن الأحداث الماضية والشخصيات الشهيرة في الكتب، أو رؤية قصصهم تتكَّشف على الشاشة في الأفلام الوثائقية، أو حتى من خلال التلاوات الشفاهية التي يرويها كبارنا. ومع ذلك، يمكن أيضاً تسجيل تاريخنا بطرق عديدة أخرى، بما في ذلك بعض الطرق غيرا لتقليدية للغاية. إحدى هذه الطرق هي من خلال ربط هذه الأحداث أو الأشخاص بالأشياء الموجودة في محيطنا، وهي ممارسة "التسمية"، وهي شائعة جداً في السودان.وتتراوح هذه النماذج بين السيارات الجديدة، كإطلاق اسم ليلى علوي (ممثلة مصرية)على سيارة تويوتا ذات الدفع الرباعي الواسعة والمنحنية بسخاء، إلى محطة حافلات"داعش" بالقرب من جامعة خاصة يُزعم أنه تم تجنيد عددٍ من طُلاَّبها للانضمام إلى الجماعة المتطرفة. هذه الأسماء سياسية وثقافية واجتماعية محمَّلة بمرجعيات يفهمها المجتمع.
في السودان، يمتدّ تقليد التسمية هذا إلى قطع الملابس، وفي هذه الحالة، إلى الزي النسائي التقليدي السوداني المعروف باسم التوب، وهو عبارة عن خامة قماش طويلة تشبه الساري، يتمّ لفّها حول جسد المرأة كطَبَقة خارجية. ومن خلال أسماء التياب يمكنك التعرُّف على بعض الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ السودان الحديث. من الطباعة الواضحة للوجوه أو الشعارات على أقمشة التياب المختلفة، إلى تمثيلات مجازية أكثر للحالات المزاجية أوالارتباطات؛ فإن أسماء هذه التياب ذكيّة وغالباً ما تكون فكاهية.
كيف يتم اختراع هذه الأسماء ومن يفكر فيها؟ كما هو الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، قديكون من الممكن تتبع أصل منشور انتشر بسرعة كبيرة، ولكن على الأرجح ستجذب ملاحظة أو وصف معيَّن انتباه المستخدمين، ثم يبدؤون في تطويره ومن ثم مشاركته ونشره.فمربط الفرس هنا هو أن الناس تمكنوا من الارتباط به. وعلى نفس المنوال، فإن أسماء التياب، التي كانت في يوم من الأيام حيلة تسويقية من قبل التجار الذين يسعون إلى خلق صيحات موضة وبالتالي زيادة المبيعات؛ قد تتلقَّى التياب أسماءها أيضاً بسبب ارتباطات ذكية بينها وبين الأشخاص أو الأحداث التي سُمّيت تيمُّناً بها؛ مثل توب "عيون زرّوق" والمقصود هو رئيس الوزراء الأسبق المشهور بعينيه الجميلتين، وهو توب مُزيَّن بأشكال دائرية لامعة. أما توب "الخرطوم بالليل"، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.وللنساء أنفسهن أيضاً الحق في تسمية التياب، مثلاً توب "يوم المرأة"، أو ندى القلعة على اسم المطربة الشهيرة التي ترتديه. ويمكن أيضاً إطلاق أسماء على التياب لأنها تُشبِع ظاهرة استحوذت على خيال الجمهور مثل توب "أبو القنفذ"،وهو توب مغطى بخيوط دائرية، سُمّي التوب بهذا الاسم نسبة إلى انتشار شائعات في ذلك الوقت حول اكتشاف الاستخدامات الطبيّة للقنافذ.
وبينما قد تحل تصميمات وأزياء أحدث محل هذه الموضات وارتباطاتها بالحياة اليومية، فإن حقيقة تسميتها في وقت معيّن ستظل شكلاً من أشكال الأرشيف السوداني غير الرسمي. هل ستؤدي الحرب والتمزق الذي أحدثته إلى تعطيل هذا التقليد في تسمية التياب أم سيستمر استخدامه؟ يتضمن إعلان تيك توك الأخير لأحد بائعي التياب توباً يسمى "القوات المسلحة"،وهي إشارة ربما لأسماء التياب القادمة وارتباطها بهذا الحدث المأساوي في تاريخ السودان.