السينما السودانيَّة: رسائل وموضوعات

انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
17/2/25
المؤلف:
د. راشد مصطفى بخيت
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
هند عبد الباقي عبد القادر الزبير
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.

آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.

إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.

خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).

أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.

في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.

جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.

تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!

لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

No items found.
نُشر بتاريخ
17/2/25
المؤلف:
د. راشد مصطفى بخيت
Editor
سارة النقر
مأمون التلب
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
Translator
هند عبد الباقي عبد القادر الزبير

انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.

آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.

إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.

خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).

أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.

في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.

جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.

تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!

لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي