صانِعَة السعف
لم تكن الرحلة قصيرة، لكنني لم أستطع الشكوى. بقيت صامتًا حتى وصلنا إلى سوق السبت، وهو الأكبر في المنطقة. ومع اقترابنا، كان تحذيرها الأول والأكثر أهمية هو عدم التخلي عن يدها أبدًا، وإلا سأضيع.










/ الاجابات
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور