أفران الجير في السودان
السودان غني بمجموعة متنوعة من المواد الجيولوجية وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منهم. يمكن التعرف عليها بسهولة في شكل كتل حجرية.

/ الاجابات

سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ

سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ