المناظر الطبيعية المأهولة
قام الناس في منطقة السودان بإعادة تنظيم الطبيعة لتناسب احتياجاتهم منذ زمن بعيد. تطورت علاقتهم بالطبيعة على مدى فترة طويلة جدًا. تغيرت المناظر الطبيعية وفقدت بعضها بسبب الصراعات والتغير المناخي، بالإضافة إلى الإدارة غير الرشيدة. يستكشف هذا الموضوع مناهج مختلفة لإعادة تنظيم الطبيعة.

نموذج الجُبرَاكة الزراعي

نموذج الجُبرَاكة الزراعي
الجبراكة -وجمعها جباريك- هو مصطلح من غرب السودان، ويُعدّ من المُمَارسات الزراعية التقليدية التي تُشَكِّل جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات الريفية في مناطق غرب السودان.
إنها نموذج للزراعة المنزلية أو الزراعة على نطاق صغير، تعتمد على قطع أراضٍ صغيرة تُحيط بالمنازل أو داخل القرى، حيث تَزرع العائلات مجموعة متنوعة من المحاصيل لتلبية احتياجاتها الغذائية ودعم الاقتصاد المحلي. تُشير كلمة جبراكة إلى قطع الأراضي الزراعية الصغيرة، حيث تُزرع محاصيل متنوّعة مثل الدخن، والذرة، والسمسم، والفول السوداني، إلى جانب مجموعة متنوعة من الخضروات. يعتمد سكان غرب السودان، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، على الجبراكة كمصدر أساسي للغذاء.
تلعب المرأة دوراً محورياً في هذا النشاط الزراعي؛ حيث تقوم بتحضير الأرض وزراعتها ثم حصادها، لذلك يعتمد هذا النموذج على جهود المرأة بصورة كبيرة، وهي تقوم بدورها في الجبراكة بالتوازي والتوازن مع مسؤليَّاتها الأسرية الأخرى. تُعزِّز هذه الأنشطة الزراعية من مكانة المرأة في المجتمع لما تُساهم به في تعزيز الأمن الغذائي لكلٍّ من الأسرة والمجتمع المحلي. علاوة على تعزيز مستواهنّ المعيشي من خلال بيع فائض المحاصيل في الأسواق المحلية، مما يدعم دخل الأسرة ويُعزِّز استقلالهنّ الاقتصادي، ذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية لدى الأسرة نتيجة لهذا الدور الهام الذي تؤديه النساء.
تتنوَّّع المحاصيل المزروعة في الجبراكة، وتَشمل الحبوب مثل الدخن والذرة التي تُعد من الأطعمة الأساسية للسكان في المنطقة. كما تُزرع محاصيل الزيوت مثل السمسم والفول السوداني، مما يوفر زيوتاً طبيعية وبروتينات أساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزرع الخضروات مثل البامية والطماطم والبصل والخيار وورقيات السلطة، مما يضيف تنوعاً إلى النظام الغذائي ويساعد في تحسين التغذية. علاوة على ذلك، ترتبط الجبراكة بالقيم الاجتماعية والثقافية في غرب السودان، ممثلةً جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية؛ فالجبراكة ليست فقط نشاطاً زراعياً لتوفير الغذاء، بل يُساهم أيضاً في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال التعاون بين أفراد العائلة والمجتمع في مختلف أنشطة الزراعة.
على الرغم من الأهمية الكبيرة للجبراكة في غرب السودان، فقد واجه هذا الشكل التقليدي من الزراعة، على مرّ السنين، العديد من التحديات. واحدة من أبرز المشكلات هي التغيّر المناخي، الذي يؤثر سلباً على أنماط هطول الأمطار ومحاصيل الزراعة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وزيادة الفقر في المناطق الريفية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجبراكة من نقص الموارد الزراعية مثل الأدوات والأسمدة، مما يحد من إنتاجيتها. أدت النزاعات المسلحة السابقة في غرب السودان، مثل تلك التي شهدتها دارفور، إلى نزوح العديد من الناس وتدمير الأراضي الزراعية، مما أثَّر بشكل مباشر على استدامة واستمرار زراعة الجبراكة.
وبالرغم من ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي ويستفيد من الموارد الطبيعية المتاحة، يساعد على ضمان الأمن الغذائي للسكان المحليين ويقلِّل من اعتمادهم على الأسواق الخارجية أو المساعدات الغذائية. خلال أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو النزاعات، تلعب الجُبراكة دوراً حاسماً في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للعائلات والمجتمعات. اليوم، وفي ضوء الحرب المدمرة المستمرة، يتم اعتماد نموذج الجبراكة لزراعة الخضروات والحبوب في جميع أنحاء السودان حيثما تتوفر الأراضي والمياه. وقد شارك السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لحدائقهم وساحاتهم وأراضيهم الفارغة التي تتم حراثتها استعداداً لاستخدامها في الزراعة. وتعرض صور الخضروات التي تم حصادها بفخر وتمثل أعمالًا صغيرة من الصمود في مواجهة نقص الغذاء وارتفاع تكلفة السلع الأساسية.
صورة الغلاف: زراعة الفول السوداني – بداية موسم الخريف واستعداد المزارعين له، قرية النزل، ولاية النيل الأبيض © الفاضل حامد
صور المعرض: جبراكة في الأبيض، شمال كردفان ٢٠٢٤© أماني بشير
الجبراكة -وجمعها جباريك- هو مصطلح من غرب السودان، ويُعدّ من المُمَارسات الزراعية التقليدية التي تُشَكِّل جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات الريفية في مناطق غرب السودان.
إنها نموذج للزراعة المنزلية أو الزراعة على نطاق صغير، تعتمد على قطع أراضٍ صغيرة تُحيط بالمنازل أو داخل القرى، حيث تَزرع العائلات مجموعة متنوعة من المحاصيل لتلبية احتياجاتها الغذائية ودعم الاقتصاد المحلي. تُشير كلمة جبراكة إلى قطع الأراضي الزراعية الصغيرة، حيث تُزرع محاصيل متنوّعة مثل الدخن، والذرة، والسمسم، والفول السوداني، إلى جانب مجموعة متنوعة من الخضروات. يعتمد سكان غرب السودان، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، على الجبراكة كمصدر أساسي للغذاء.
تلعب المرأة دوراً محورياً في هذا النشاط الزراعي؛ حيث تقوم بتحضير الأرض وزراعتها ثم حصادها، لذلك يعتمد هذا النموذج على جهود المرأة بصورة كبيرة، وهي تقوم بدورها في الجبراكة بالتوازي والتوازن مع مسؤليَّاتها الأسرية الأخرى. تُعزِّز هذه الأنشطة الزراعية من مكانة المرأة في المجتمع لما تُساهم به في تعزيز الأمن الغذائي لكلٍّ من الأسرة والمجتمع المحلي. علاوة على تعزيز مستواهنّ المعيشي من خلال بيع فائض المحاصيل في الأسواق المحلية، مما يدعم دخل الأسرة ويُعزِّز استقلالهنّ الاقتصادي، ذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية لدى الأسرة نتيجة لهذا الدور الهام الذي تؤديه النساء.
تتنوَّّع المحاصيل المزروعة في الجبراكة، وتَشمل الحبوب مثل الدخن والذرة التي تُعد من الأطعمة الأساسية للسكان في المنطقة. كما تُزرع محاصيل الزيوت مثل السمسم والفول السوداني، مما يوفر زيوتاً طبيعية وبروتينات أساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزرع الخضروات مثل البامية والطماطم والبصل والخيار وورقيات السلطة، مما يضيف تنوعاً إلى النظام الغذائي ويساعد في تحسين التغذية. علاوة على ذلك، ترتبط الجبراكة بالقيم الاجتماعية والثقافية في غرب السودان، ممثلةً جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية؛ فالجبراكة ليست فقط نشاطاً زراعياً لتوفير الغذاء، بل يُساهم أيضاً في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال التعاون بين أفراد العائلة والمجتمع في مختلف أنشطة الزراعة.
على الرغم من الأهمية الكبيرة للجبراكة في غرب السودان، فقد واجه هذا الشكل التقليدي من الزراعة، على مرّ السنين، العديد من التحديات. واحدة من أبرز المشكلات هي التغيّر المناخي، الذي يؤثر سلباً على أنماط هطول الأمطار ومحاصيل الزراعة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وزيادة الفقر في المناطق الريفية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجبراكة من نقص الموارد الزراعية مثل الأدوات والأسمدة، مما يحد من إنتاجيتها. أدت النزاعات المسلحة السابقة في غرب السودان، مثل تلك التي شهدتها دارفور، إلى نزوح العديد من الناس وتدمير الأراضي الزراعية، مما أثَّر بشكل مباشر على استدامة واستمرار زراعة الجبراكة.
وبالرغم من ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي ويستفيد من الموارد الطبيعية المتاحة، يساعد على ضمان الأمن الغذائي للسكان المحليين ويقلِّل من اعتمادهم على الأسواق الخارجية أو المساعدات الغذائية. خلال أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو النزاعات، تلعب الجُبراكة دوراً حاسماً في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للعائلات والمجتمعات. اليوم، وفي ضوء الحرب المدمرة المستمرة، يتم اعتماد نموذج الجبراكة لزراعة الخضروات والحبوب في جميع أنحاء السودان حيثما تتوفر الأراضي والمياه. وقد شارك السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لحدائقهم وساحاتهم وأراضيهم الفارغة التي تتم حراثتها استعداداً لاستخدامها في الزراعة. وتعرض صور الخضروات التي تم حصادها بفخر وتمثل أعمالًا صغيرة من الصمود في مواجهة نقص الغذاء وارتفاع تكلفة السلع الأساسية.
صورة الغلاف: زراعة الفول السوداني – بداية موسم الخريف واستعداد المزارعين له، قرية النزل، ولاية النيل الأبيض © الفاضل حامد
صور المعرض: جبراكة في الأبيض، شمال كردفان ٢٠٢٤© أماني بشير

الجبراكة -وجمعها جباريك- هو مصطلح من غرب السودان، ويُعدّ من المُمَارسات الزراعية التقليدية التي تُشَكِّل جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات الريفية في مناطق غرب السودان.
إنها نموذج للزراعة المنزلية أو الزراعة على نطاق صغير، تعتمد على قطع أراضٍ صغيرة تُحيط بالمنازل أو داخل القرى، حيث تَزرع العائلات مجموعة متنوعة من المحاصيل لتلبية احتياجاتها الغذائية ودعم الاقتصاد المحلي. تُشير كلمة جبراكة إلى قطع الأراضي الزراعية الصغيرة، حيث تُزرع محاصيل متنوّعة مثل الدخن، والذرة، والسمسم، والفول السوداني، إلى جانب مجموعة متنوعة من الخضروات. يعتمد سكان غرب السودان، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، على الجبراكة كمصدر أساسي للغذاء.
تلعب المرأة دوراً محورياً في هذا النشاط الزراعي؛ حيث تقوم بتحضير الأرض وزراعتها ثم حصادها، لذلك يعتمد هذا النموذج على جهود المرأة بصورة كبيرة، وهي تقوم بدورها في الجبراكة بالتوازي والتوازن مع مسؤليَّاتها الأسرية الأخرى. تُعزِّز هذه الأنشطة الزراعية من مكانة المرأة في المجتمع لما تُساهم به في تعزيز الأمن الغذائي لكلٍّ من الأسرة والمجتمع المحلي. علاوة على تعزيز مستواهنّ المعيشي من خلال بيع فائض المحاصيل في الأسواق المحلية، مما يدعم دخل الأسرة ويُعزِّز استقلالهنّ الاقتصادي، ذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية لدى الأسرة نتيجة لهذا الدور الهام الذي تؤديه النساء.
تتنوَّّع المحاصيل المزروعة في الجبراكة، وتَشمل الحبوب مثل الدخن والذرة التي تُعد من الأطعمة الأساسية للسكان في المنطقة. كما تُزرع محاصيل الزيوت مثل السمسم والفول السوداني، مما يوفر زيوتاً طبيعية وبروتينات أساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزرع الخضروات مثل البامية والطماطم والبصل والخيار وورقيات السلطة، مما يضيف تنوعاً إلى النظام الغذائي ويساعد في تحسين التغذية. علاوة على ذلك، ترتبط الجبراكة بالقيم الاجتماعية والثقافية في غرب السودان، ممثلةً جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية؛ فالجبراكة ليست فقط نشاطاً زراعياً لتوفير الغذاء، بل يُساهم أيضاً في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال التعاون بين أفراد العائلة والمجتمع في مختلف أنشطة الزراعة.
على الرغم من الأهمية الكبيرة للجبراكة في غرب السودان، فقد واجه هذا الشكل التقليدي من الزراعة، على مرّ السنين، العديد من التحديات. واحدة من أبرز المشكلات هي التغيّر المناخي، الذي يؤثر سلباً على أنماط هطول الأمطار ومحاصيل الزراعة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وزيادة الفقر في المناطق الريفية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجبراكة من نقص الموارد الزراعية مثل الأدوات والأسمدة، مما يحد من إنتاجيتها. أدت النزاعات المسلحة السابقة في غرب السودان، مثل تلك التي شهدتها دارفور، إلى نزوح العديد من الناس وتدمير الأراضي الزراعية، مما أثَّر بشكل مباشر على استدامة واستمرار زراعة الجبراكة.
وبالرغم من ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي ويستفيد من الموارد الطبيعية المتاحة، يساعد على ضمان الأمن الغذائي للسكان المحليين ويقلِّل من اعتمادهم على الأسواق الخارجية أو المساعدات الغذائية. خلال أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو النزاعات، تلعب الجُبراكة دوراً حاسماً في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للعائلات والمجتمعات. اليوم، وفي ضوء الحرب المدمرة المستمرة، يتم اعتماد نموذج الجبراكة لزراعة الخضروات والحبوب في جميع أنحاء السودان حيثما تتوفر الأراضي والمياه. وقد شارك السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لحدائقهم وساحاتهم وأراضيهم الفارغة التي تتم حراثتها استعداداً لاستخدامها في الزراعة. وتعرض صور الخضروات التي تم حصادها بفخر وتمثل أعمالًا صغيرة من الصمود في مواجهة نقص الغذاء وارتفاع تكلفة السلع الأساسية.
صورة الغلاف: زراعة الفول السوداني – بداية موسم الخريف واستعداد المزارعين له، قرية النزل، ولاية النيل الأبيض © الفاضل حامد
صور المعرض: جبراكة في الأبيض، شمال كردفان ٢٠٢٤© أماني بشير

التغيُّر المناخي والنزاعات

التغيُّر المناخي والنزاعات
يلعب زعماء الإدارات الأهلية والجماعات المحلية اليوم أدواراً مهمة في الحفاظ على البيئة. حيث يعملون على نشر العادات المحلية التي تحمي البيئة، ويطبقون القوانين التشريعية لحماية الموارد الطبيعية مثل الغابات والمراعي، ويخطِّطون لاستخدام الأراضي الزراعية وممرات الحيوانات كمناطق حماية من الحرائق. ومع ذلك، فقد تصاعدت المنافسة على الموارد في السنوات الأخيرة. أصبحت الآليات التقليدية التي كانت موجودة سابقاً لحل النزاعات - مثل الزيجات المشتركة بين القبائل المجاورة لتعزيز التعايش السلمي - متوترة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سكان السودان يزدادون شباباً وتمدناً. إحدى مجالات الحياة العامة التي كانت النساء منخرطات فيها بعمق، رغم قلة الاعتراف الرسمي، هي تعزيز السلام على المستويين الوطني والمجتمعي.
يؤثر التغير المناخي والنزاعات طويلة الأمد على البيئة سلبياً بطرق متشابهة تقريباً؛ فكلاهما يؤديان إلى تدهور الموارد الطبيعية مما يؤدي تلقائياً الى تأثر حياة الناس و قدرتهم على البقاء. الفقر والبيئة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا - فحرمان الإنسان وتدهور البيئة يعزّزان بعضهما البعض. تتفاقم القضايا البيئية بسبب التخطيط الحضري غير الكافي، ونقص القوانين للشركات والصناعات، مما يؤدي إلى مساهمتها في التلوث وتدهور البيئة.
تراث السودان الثقافي مُهدَّد من قوى متعددة، بما في ذلك تغير المناخ. في جميع أنحاء العالم، يجعل تغير المناخ والاحتباس الحراري أساليب الحياة التقليدية مهددة بشكل متزايد. تلعب الثقافة المادية وممارسات التراث الحي والمعرفة التقليدية والأطر الثقافية دورًا حيويًا في مساعدة المجتمعات على التكيّف مع المناخات القاسية وغير المتوقعة. ومع ذلك، فإن هذه التقاليد الغنية مهدّدة بدورها بالتحديات غير المسبوقة لتغيُّر المناخ. تعمل المتاحف كمؤسسات يتم من خلالها الحفاظ على التراث للأجيال القادمة، ولها دور في مساعدة المجتمعات على فهم آثار تغير المناخ وتقدير قيمة تقاليدهم التراثية للتكيُّف مع المناخ.
لم يتم دمج التعليم البيئي بالكامل بعد في نظام التعليم الرسمي في السودان. في عام ٢٠٢٢ قام مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية، كجزء من الجهود لحماية التراث السوداني، بتطوير برنامج التراث الأخضر بتمويل من صندوق حماية التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني. وقد زادت هذه المبادرة الوعي حول آثار تغير المناخ على المجتمعات في السودان وتأثيره على التراث المادي واللامادي. شمل البرنامج سلسلة من ورش العمل في المتاحف الثلاثة، ودراسة حول تأثير تغير المناخ على الثقافة اللامادية للرحل في كردفان، واستطلاع رئيسي للمعالم في دارفور لتقييم آثار تغير المناخ على تراث المنطقة. تم إجراء الاستطلاع من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومعهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة في جامعة الخرطوم، وقسم تراث دارفور في جامعة نيالا؛ حيث غطى الاستطلاع ١٨٠ كم، ووثق ١٢ موقعًا رئيسيًا للتراث في تلال فرنج، وتاجابو، وميدوب.
اختُتم المشروع بإقامة معارض مجتمعية في المتاحف الثلاثة، مما وفَّر مساحات تجمع بين مختلف المجتمعات للاحتفال بتراثها الفريد والمشترك، والاستمتاع به، والتعلم منه - سواء في الوقت الحاضر أو للأجيال القادمة.
يلعب زعماء الإدارات الأهلية والجماعات المحلية اليوم أدواراً مهمة في الحفاظ على البيئة. حيث يعملون على نشر العادات المحلية التي تحمي البيئة، ويطبقون القوانين التشريعية لحماية الموارد الطبيعية مثل الغابات والمراعي، ويخطِّطون لاستخدام الأراضي الزراعية وممرات الحيوانات كمناطق حماية من الحرائق. ومع ذلك، فقد تصاعدت المنافسة على الموارد في السنوات الأخيرة. أصبحت الآليات التقليدية التي كانت موجودة سابقاً لحل النزاعات - مثل الزيجات المشتركة بين القبائل المجاورة لتعزيز التعايش السلمي - متوترة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سكان السودان يزدادون شباباً وتمدناً. إحدى مجالات الحياة العامة التي كانت النساء منخرطات فيها بعمق، رغم قلة الاعتراف الرسمي، هي تعزيز السلام على المستويين الوطني والمجتمعي.
يؤثر التغير المناخي والنزاعات طويلة الأمد على البيئة سلبياً بطرق متشابهة تقريباً؛ فكلاهما يؤديان إلى تدهور الموارد الطبيعية مما يؤدي تلقائياً الى تأثر حياة الناس و قدرتهم على البقاء. الفقر والبيئة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا - فحرمان الإنسان وتدهور البيئة يعزّزان بعضهما البعض. تتفاقم القضايا البيئية بسبب التخطيط الحضري غير الكافي، ونقص القوانين للشركات والصناعات، مما يؤدي إلى مساهمتها في التلوث وتدهور البيئة.
تراث السودان الثقافي مُهدَّد من قوى متعددة، بما في ذلك تغير المناخ. في جميع أنحاء العالم، يجعل تغير المناخ والاحتباس الحراري أساليب الحياة التقليدية مهددة بشكل متزايد. تلعب الثقافة المادية وممارسات التراث الحي والمعرفة التقليدية والأطر الثقافية دورًا حيويًا في مساعدة المجتمعات على التكيّف مع المناخات القاسية وغير المتوقعة. ومع ذلك، فإن هذه التقاليد الغنية مهدّدة بدورها بالتحديات غير المسبوقة لتغيُّر المناخ. تعمل المتاحف كمؤسسات يتم من خلالها الحفاظ على التراث للأجيال القادمة، ولها دور في مساعدة المجتمعات على فهم آثار تغير المناخ وتقدير قيمة تقاليدهم التراثية للتكيُّف مع المناخ.
لم يتم دمج التعليم البيئي بالكامل بعد في نظام التعليم الرسمي في السودان. في عام ٢٠٢٢ قام مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية، كجزء من الجهود لحماية التراث السوداني، بتطوير برنامج التراث الأخضر بتمويل من صندوق حماية التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني. وقد زادت هذه المبادرة الوعي حول آثار تغير المناخ على المجتمعات في السودان وتأثيره على التراث المادي واللامادي. شمل البرنامج سلسلة من ورش العمل في المتاحف الثلاثة، ودراسة حول تأثير تغير المناخ على الثقافة اللامادية للرحل في كردفان، واستطلاع رئيسي للمعالم في دارفور لتقييم آثار تغير المناخ على تراث المنطقة. تم إجراء الاستطلاع من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومعهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة في جامعة الخرطوم، وقسم تراث دارفور في جامعة نيالا؛ حيث غطى الاستطلاع ١٨٠ كم، ووثق ١٢ موقعًا رئيسيًا للتراث في تلال فرنج، وتاجابو، وميدوب.
اختُتم المشروع بإقامة معارض مجتمعية في المتاحف الثلاثة، مما وفَّر مساحات تجمع بين مختلف المجتمعات للاحتفال بتراثها الفريد والمشترك، والاستمتاع به، والتعلم منه - سواء في الوقت الحاضر أو للأجيال القادمة.

يلعب زعماء الإدارات الأهلية والجماعات المحلية اليوم أدواراً مهمة في الحفاظ على البيئة. حيث يعملون على نشر العادات المحلية التي تحمي البيئة، ويطبقون القوانين التشريعية لحماية الموارد الطبيعية مثل الغابات والمراعي، ويخطِّطون لاستخدام الأراضي الزراعية وممرات الحيوانات كمناطق حماية من الحرائق. ومع ذلك، فقد تصاعدت المنافسة على الموارد في السنوات الأخيرة. أصبحت الآليات التقليدية التي كانت موجودة سابقاً لحل النزاعات - مثل الزيجات المشتركة بين القبائل المجاورة لتعزيز التعايش السلمي - متوترة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سكان السودان يزدادون شباباً وتمدناً. إحدى مجالات الحياة العامة التي كانت النساء منخرطات فيها بعمق، رغم قلة الاعتراف الرسمي، هي تعزيز السلام على المستويين الوطني والمجتمعي.
يؤثر التغير المناخي والنزاعات طويلة الأمد على البيئة سلبياً بطرق متشابهة تقريباً؛ فكلاهما يؤديان إلى تدهور الموارد الطبيعية مما يؤدي تلقائياً الى تأثر حياة الناس و قدرتهم على البقاء. الفقر والبيئة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا - فحرمان الإنسان وتدهور البيئة يعزّزان بعضهما البعض. تتفاقم القضايا البيئية بسبب التخطيط الحضري غير الكافي، ونقص القوانين للشركات والصناعات، مما يؤدي إلى مساهمتها في التلوث وتدهور البيئة.
تراث السودان الثقافي مُهدَّد من قوى متعددة، بما في ذلك تغير المناخ. في جميع أنحاء العالم، يجعل تغير المناخ والاحتباس الحراري أساليب الحياة التقليدية مهددة بشكل متزايد. تلعب الثقافة المادية وممارسات التراث الحي والمعرفة التقليدية والأطر الثقافية دورًا حيويًا في مساعدة المجتمعات على التكيّف مع المناخات القاسية وغير المتوقعة. ومع ذلك، فإن هذه التقاليد الغنية مهدّدة بدورها بالتحديات غير المسبوقة لتغيُّر المناخ. تعمل المتاحف كمؤسسات يتم من خلالها الحفاظ على التراث للأجيال القادمة، ولها دور في مساعدة المجتمعات على فهم آثار تغير المناخ وتقدير قيمة تقاليدهم التراثية للتكيُّف مع المناخ.
لم يتم دمج التعليم البيئي بالكامل بعد في نظام التعليم الرسمي في السودان. في عام ٢٠٢٢ قام مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية، كجزء من الجهود لحماية التراث السوداني، بتطوير برنامج التراث الأخضر بتمويل من صندوق حماية التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني. وقد زادت هذه المبادرة الوعي حول آثار تغير المناخ على المجتمعات في السودان وتأثيره على التراث المادي واللامادي. شمل البرنامج سلسلة من ورش العمل في المتاحف الثلاثة، ودراسة حول تأثير تغير المناخ على الثقافة اللامادية للرحل في كردفان، واستطلاع رئيسي للمعالم في دارفور لتقييم آثار تغير المناخ على تراث المنطقة. تم إجراء الاستطلاع من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومعهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة في جامعة الخرطوم، وقسم تراث دارفور في جامعة نيالا؛ حيث غطى الاستطلاع ١٨٠ كم، ووثق ١٢ موقعًا رئيسيًا للتراث في تلال فرنج، وتاجابو، وميدوب.
اختُتم المشروع بإقامة معارض مجتمعية في المتاحف الثلاثة، مما وفَّر مساحات تجمع بين مختلف المجتمعات للاحتفال بتراثها الفريد والمشترك، والاستمتاع به، والتعلم منه - سواء في الوقت الحاضر أو للأجيال القادمة.

أفران الجير في السودان

أفران الجير في السودان

سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ

سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ


سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ

العمارة الطينية في جزيرة دقرتا

العمارة الطينية في جزيرة دقرتا
مقدمة:
دقرتا أو دقرتي، الاسمان مستخدمان من قبل سكان الجزيرة، ويعود معنى الاسم إلى أن "دقرتي" تحولت لاحقًا إلى "دقرتا"، حيث تعني "أرتي": جزيرة بلغة الفاديجا، بينما تحمل كلمة "دقر" معنيين: الأول هو "ترحيل العروس إلى بيت زوجها"، والثاني هو "ربط عود في البحر بهدف تجميع الطمي حوله وتكوين جزيرة رسوبية بفعل الإنسان".
تقع جزيرة دقرتا في شمال السودان وتتبع لمدينة كرمة ضمن محلية البرقيق. يُعتقد أن الجزيرة مأهولة منذ آلاف السنين، حيث يعيش سكانها في منتصفها، بينما تقع الأراضي الزراعية على أطرافها.
قبل الحرب، كان تعداد سكان الجزيرة يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ فرد، إلا أنه مع النزوح، عاد إليها ما يقارب ٣٤٠ شخصًا، معظمهم من السكان الأصليين العائدين إلى بيوتهم المهجورة.
المقدمة مأخوذة من مقال لمجلة أتر العدد ١٩، المنشور بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤

عمارة الطين:
تختلف معايشة البناء الطيني حسب معطيات عدة، مثلاً أين يقع هذا البناء؟ هل هو في منطقة رطبة أم جافة (منطقة تقع التأثير المناخي للسدود)، ما هي طبيعة الأرض هناك (رملية، طينية أم حجرية)، ومن الذي يقيّم تجربة المعايشة، هل هو من السكان الأصليين أم نازح للمنطقة بسبب حرب أبريل، وأخيراً الاختلافات الفردية، فما يناسبك قد يناسبني أو لا.
ولكن لنتفق أن أزمة النزوح لها وجه أكثر قتامة من العودة الطوعية للموطن الأصلي ومسقط رأس الآباء والأجداد، هنالك دائماً رومانسية تصبغ فكرة العودة للبلد ذات الطبيعة البكر والغذاء الصحي والحياة الطبيعية التي ينشدها سكان المدن؛ فخلف هذه الطبيعة غير المشوهة هنالك الكثير من عدم التنمية والفقر وذلك في جميع أطراف السودان وليس في إقليم واحد.
في إحدى خيالاتي السابقة أني أمتلك بيتاً طينيَّاً مزخرفاً بزخارف تقليدية في البلد، ومزرعة صغيرة بها محاصيل موسمية وأشجار فاكهة بجانبه للاكتفاء الذاتي. أرى في ذلك تكفيراً عن حياتي في المدينة السودانية المسيئة لفكرة المواطنة والجمال والتحضر، وبحثاً عن هويتي الضائعة، وعقد صداقة غير مشروطة مع البيئة، لكن هذا الحلم تلاشى أمام عيني بعدما عشت في هذه المنازل لأشهر طويلة اختبرت فيها الشتاء والصيف، وسألت فيها نفسي سؤالاً غريباً: لماذا لا تزال العمارة الطينية في جزيرة دقرتا هي العمارة المستخدمة ولم تُنقل إلى خانة التراث؟ ما أجمل أن أقرأ عنها في صفحات التقارير والدراسات. وما أجمل صورها على صفحات الإنترنت، وما أقسى العيش بداخلها كما هي ودون حلول حديثة.

المهمات الموكلة للرجل والمرأة في الجزيرة والزيارات الاجتماعية اليومية تخفِّف من حدة الشعور بحر الصيف وبرد الشتاء، حيث لا يظل ساكن الجزيرة في غرفته طوال اليوم كما فعلت أنا على الأقل.
الديمومة هي تحدٍّ آخر لهذه العمارة، حيث هي دائمة التعرض للهدم، وتغدو أطلالاً بعد سنوات بسيطة من هجرانها عكس المباني المشيدة من مواد البناء الأخرى (الحجرية والأسمنتية والمشيَّدة بالطوب الأحمر). لذا الصيانة الدورية هي جزء أساسي للحياة التي تُمليها الجزيرة، البيت كالكائن الحي له احتياجاته وسُكّانه لا يتذمّرون من العناية به. كان للمباني المهجورة دور عظيم في استضافة النازحين من الغرباء والعائدين من مواطني الجزيرة الأصليين إليها في فترة الحرب، ونسبة لسهولة أسلوب التشييد، فإن الأطلال تم ترميمها بسرعة قياسية لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة.
لم يكن بناء المنازل الطينية في جزيرة دقرتا أمراً اختيارياً، نسبة انعزال الجزيرة وصعوبة نقل مواد البناء الحديثة (أسمنت، رمل، طوب أحمر أو أسمنت وحديد تسليح وغيرها) ولضيق المساحة، فلا توجد هناك مساحة آمنة لكمائن حرق الطوب دون التسبب بأضرار صحية لسكان الجزيرة، بالطبع هناك من يستطيع تحمّل نفقات تعدية وترحيل هذه المواد لكنهم قلة، والمشاريع الكبيرة التي أُنشأَت بالتمويل الحكومي أو الخاص فقط -مثل المدرسة الإبتدائية الوحيدة والمركز الطبي والمسجدين (قبلي وبحري التي تعني جنوب وشمال الجزيرة)- هي التي تم بناؤها بالطوب الأحمر وتم تشطيبها بمواد التشطيب الحديثة.
الوضع الاقتصادي لمعظم سكان الجزيرة يعتمد على الزراعة الموسمية لمحاصيل (القمح والفول المصري والتمور)، وبصورة جزئية على أبنائهم المغتربين خارج السودان. في السنوات الأخيرة أُدخِلَت الأسمدة والمبيدات كشيء أساسيّ لضمان نجاح المواسم الزراعية، لأن الطمي الذي كان يحمل المغذيات للتربة بدأ في التناقص بصورة كبيرة منذ إنشاء سد مروي، وبالتأكيد فإن أسعار المحاصيل بالنسبة لسكان الجزيرة تكون أقل بنسبة كبيرة عن سكان البر لأن ثمن تَعدِيَة جوالات المحاصيل تقع على عاتق المزارع الذي يريد بيع محصوله، كل ذلك يجب النظر إليه كسبب رئيسي عند سؤالنا لما لا تزال معظم البيوت هنالك تبنى بنفس طريقة التشييد القديمة؟ ولماذا لا تحوي وسائل تبريد وتدفئة حديثة تُعِين سكانها على الأيام الصعبة؟. الخدمات المقدمة من الحكومة، كشبكة المياه، هي بالتأكيد أمر إيجابي، إذ تم توصيل مواسير المياه لكل منزل. وسلبي في أن النساء، قبل هذه الشبكة، كنَّ يذهبن إلى النيل كنشاطٍ اجتماعيّ نسائيّ. كل النساء كبيرات السن في الجزيرة يعرفن السباحة. ولم يكنّ يجلسن في بيوتهنّ خلال النهار ليعانين من الحر الشديد. عند النظر لكل شيء يُقَدَّم كحل لمشكلة أزلية نرى أن له أثراً لم يكن موضوعاً في الاعتبار.
من ماذا يتكون المنزل:
يتكون المنزل من غرف وبرندات ومطبخ ومزيرة، أما ملحقاته، خارج السور، فهي مطبخ خارجي للعواسة إذا كان المنزل ضيّقاً وبرج حمام وراكوبة للرجال بها كراسي وأسرة لاستقبال الضيوف ومزيرة خارجية، والرصة والقوسيبة.

بالنسبة لدورة المياه فليست هناك شبكة صرف صحي لضيق مساحة الجزيرة أو تانك شفط، كما لا توجد عربة بمحرك في الجزيرة ما عدا محراث واحد لكلّ مزارع الجزيرة. الحل المستخدم هو بئر تُحفَر خلف الحمام بمواسير صرف pvc وتكون للبئر هوَّاية فقط.. ولا يتم استخدام الكثير من المياه حتى لا تُملأ البئر سريعاً، أما الاستحمام فيتم تصريف المياه ببلاعة خارجية تُغرَف لاحقاً، عند امتلاء بئر الصرف الصحي فإن الحمام يُلغَى ويتم بناء حمام جديد ببئر جديدة. ويمكن أن يبنى الحمّام خارج المنزل إذا كانت المساحة ضيقة. مياه غسل الأطباق التي تستخدم في طشت وجردل يتم دفقها في الشارع، أو عمل جدول من البيت إلى أقرب زقاق خارجي أو قطعة أرض خالية.

نرجع لأول مكونات المنزل:
يمكن قطع الطوب (تشكيل الطين في قوالب وتركها في الأرض لتجف) في مكانٍ خالٍ من الزراعة. ولكن ليس ببعيد من المنزل المراد تشييده، يُمكِن أن يشكل في مزرعة لم تتم حراثتها بعد للمحصول الجديد. وفي حادثة تم غمر كمية طوب كبيرة بالمياه لأن المزارع الذي يجب أن يحرص على سقي محصوله بالماء وقَفْل الترعة في مواعيد محددة، نام تلك الليلة، واستيقظ صاحب الطوب على حدث حزين وكأن مجهوده ضاع هباء. قَطْع الطوب عمل مأجور وقد يقوم به صاحب المنزل بنفسه تقليلاً للتكاليف، وكذلك نقل الطوب بالكارو من مكان القطع للبيت، فيما عدا ذلك فإن كل العمل يتم بالنفير (كل الرجال يجتمعون للبناء ووضع السقف ثم تأتي النساء أيضاً لليابسة بعد ذلك بالطين المغربل والصمغ). وكل المباني في الجزيرة تحوي طابقاً أرضيّاً فقط.

ما هي مواد البناء:
- طوب من الطين اللبن.
- مونة من الطين.
- بياض داخلي وخارجي من الطين.
- أحجار توضع أعلى الحائط لوضع عوارض السقف عليها.
- عوارض سقف من جذوع الأشجار.
- سقف من الجريد أو البوص فوقه طبقة من الطين لسد الفجوات.
- زنك ومواسير حديد (إذا كان السقف من الزنك فيمكن الاستغناء عن الفجوة التي تفصل بين السقف والحائط، والتي لها دور بجانب التهوية وهو منع الأرضة من الوصول للسقف ونخره، كما يظهر في المبنى المصاحب لصور بئر الحمام).

كل عام يتم تلييس المنزل مرتين على الأقل (الحوائط والأرضيات) نسبة لتأثر طبقة الحماية الخارجية بعوامل الطقس؛ حيث تُسَد الثقوب التي يمكن أن تخرج منها العقارب والآفات، ولتزيين المنزل أيضاً في الأعياد. لكن لوقوع الجزيرة في منطقة مصابة بآفة الأرضة فإن البناء بالطين، وبالرغم من دقة غربلة التربة، لا بدّ أن يصحبه وجود قش تتغذى عليه هذه الآفة، مما يجعل الحل المطروح للأثاث هو الأثاث المعدني، أو رفع القطع الخشبية في قاعدة حجرية أو بلاستيكية بحيث لا تنخره الأرضة صغيرة الحجم ذات الضرر الكبير. أما لماذا تأخذ المباني درجات مختلفة من اللون الترابي مع أنها من نفس الأرض؟ فالإجابة هي في نسبة الصمغ، وهو مسحوق يُضاف للطين ويزيد من لزوجته وتماسكه فيما بعد على الحائط، اختلاف كمية الصمغ هو ما يجعل من بيت أغبش وبيت ترابي كالح.
يجب أيضاً النظر للتغيّرات المناخية المتطرّفة بعين الاعتبار، فكما يظهر في التقارير التي ترصد ظاهرة النينو العالمية التي يقع السودان في مقدمة الدول المتأثِّرة بها، تهدّمت في خريف العام ٢٠٢٤ منازل كثيرة في البر المحازي للجزيرة، لأنها تقع في مجاري السيول الطبيعية، ( بالطبع فإن الطبيعة المناخية الصحراوية لن تعير اهتماما لمعدل أمطار شحيحة أو منعدمة عادة، وعندما تهطل بغزارة فإنها تكون ظاهرة يُؤرَّخ بها)، ذلك قبل أن يصير تزايد هطول الأمطار في الولاية أمراً معتاداً في السنوات الأخيرة. وتكاليف الصيانة الدورية، أو في أسوأ الفروض نقل المبنى في منطقة مرتفعة أو بعيداً عن مجرى السيل، يُعتبرُ أمراً حتميّاً. من الجيد أنه لم تقع حوادث هدم للمباني داخل الجزيرة، لم يَخْلُ الأمر من اقتلاع أسقف من الزنك من حوائطها نظراً لشدة الرياح التي صاحبت الأمطار، وأيضاً اختلاف مناسيب المباني والشوارع فإن المياه لم تُحبس داخل المباني لمدة طويلة لتتشرَّب الحوائط بها. الآن، وأثناء كتابة هذا النص في الأسبوع الثالث من فبراير، فإن أهالي الجزيرة يعانون من موجات برد حادة يستخدمون بعضهم فيها ما استخدمه أجدادهم في التدفئة: طشت حديد به نار داخل الغرف على هذه الطريقة تقيهم قسوة الطبيعة. ولن ننسى أيضاً درجات الحرارة القياسية المرصودة في صيف نفس العام، حيث كانت تبلغ في شهر مايو ويونيو 46 درجة مئوية كمتوسط.
تُقبَل هذه التغيرات كواقع جديد مبني على دراسات مناخية وليس كظواهر قد تحدث لعام ولن تتكرر قريباً، وقد يكون لبنة أولى في النظر لضرورة إيجاد حلول مستدامة بمواد محلية من قبل المعماريين تجعل العيش في مبنى طينيّ عيشاً يخلو من المخاطر الملازمة لكل فصل من فصول السنة.
صورة العنوان وجميع صور المعرض: جزيرة داجارتا، شمال السودان، ٢٠٢٤ © آية سنادة
مقدمة:
دقرتا أو دقرتي، الاسمان مستخدمان من قبل سكان الجزيرة، ويعود معنى الاسم إلى أن "دقرتي" تحولت لاحقًا إلى "دقرتا"، حيث تعني "أرتي": جزيرة بلغة الفاديجا، بينما تحمل كلمة "دقر" معنيين: الأول هو "ترحيل العروس إلى بيت زوجها"، والثاني هو "ربط عود في البحر بهدف تجميع الطمي حوله وتكوين جزيرة رسوبية بفعل الإنسان".
تقع جزيرة دقرتا في شمال السودان وتتبع لمدينة كرمة ضمن محلية البرقيق. يُعتقد أن الجزيرة مأهولة منذ آلاف السنين، حيث يعيش سكانها في منتصفها، بينما تقع الأراضي الزراعية على أطرافها.
قبل الحرب، كان تعداد سكان الجزيرة يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ فرد، إلا أنه مع النزوح، عاد إليها ما يقارب ٣٤٠ شخصًا، معظمهم من السكان الأصليين العائدين إلى بيوتهم المهجورة.
المقدمة مأخوذة من مقال لمجلة أتر العدد ١٩، المنشور بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤

عمارة الطين:
تختلف معايشة البناء الطيني حسب معطيات عدة، مثلاً أين يقع هذا البناء؟ هل هو في منطقة رطبة أم جافة (منطقة تقع التأثير المناخي للسدود)، ما هي طبيعة الأرض هناك (رملية، طينية أم حجرية)، ومن الذي يقيّم تجربة المعايشة، هل هو من السكان الأصليين أم نازح للمنطقة بسبب حرب أبريل، وأخيراً الاختلافات الفردية، فما يناسبك قد يناسبني أو لا.
ولكن لنتفق أن أزمة النزوح لها وجه أكثر قتامة من العودة الطوعية للموطن الأصلي ومسقط رأس الآباء والأجداد، هنالك دائماً رومانسية تصبغ فكرة العودة للبلد ذات الطبيعة البكر والغذاء الصحي والحياة الطبيعية التي ينشدها سكان المدن؛ فخلف هذه الطبيعة غير المشوهة هنالك الكثير من عدم التنمية والفقر وذلك في جميع أطراف السودان وليس في إقليم واحد.
في إحدى خيالاتي السابقة أني أمتلك بيتاً طينيَّاً مزخرفاً بزخارف تقليدية في البلد، ومزرعة صغيرة بها محاصيل موسمية وأشجار فاكهة بجانبه للاكتفاء الذاتي. أرى في ذلك تكفيراً عن حياتي في المدينة السودانية المسيئة لفكرة المواطنة والجمال والتحضر، وبحثاً عن هويتي الضائعة، وعقد صداقة غير مشروطة مع البيئة، لكن هذا الحلم تلاشى أمام عيني بعدما عشت في هذه المنازل لأشهر طويلة اختبرت فيها الشتاء والصيف، وسألت فيها نفسي سؤالاً غريباً: لماذا لا تزال العمارة الطينية في جزيرة دقرتا هي العمارة المستخدمة ولم تُنقل إلى خانة التراث؟ ما أجمل أن أقرأ عنها في صفحات التقارير والدراسات. وما أجمل صورها على صفحات الإنترنت، وما أقسى العيش بداخلها كما هي ودون حلول حديثة.

المهمات الموكلة للرجل والمرأة في الجزيرة والزيارات الاجتماعية اليومية تخفِّف من حدة الشعور بحر الصيف وبرد الشتاء، حيث لا يظل ساكن الجزيرة في غرفته طوال اليوم كما فعلت أنا على الأقل.
الديمومة هي تحدٍّ آخر لهذه العمارة، حيث هي دائمة التعرض للهدم، وتغدو أطلالاً بعد سنوات بسيطة من هجرانها عكس المباني المشيدة من مواد البناء الأخرى (الحجرية والأسمنتية والمشيَّدة بالطوب الأحمر). لذا الصيانة الدورية هي جزء أساسي للحياة التي تُمليها الجزيرة، البيت كالكائن الحي له احتياجاته وسُكّانه لا يتذمّرون من العناية به. كان للمباني المهجورة دور عظيم في استضافة النازحين من الغرباء والعائدين من مواطني الجزيرة الأصليين إليها في فترة الحرب، ونسبة لسهولة أسلوب التشييد، فإن الأطلال تم ترميمها بسرعة قياسية لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة.
لم يكن بناء المنازل الطينية في جزيرة دقرتا أمراً اختيارياً، نسبة انعزال الجزيرة وصعوبة نقل مواد البناء الحديثة (أسمنت، رمل، طوب أحمر أو أسمنت وحديد تسليح وغيرها) ولضيق المساحة، فلا توجد هناك مساحة آمنة لكمائن حرق الطوب دون التسبب بأضرار صحية لسكان الجزيرة، بالطبع هناك من يستطيع تحمّل نفقات تعدية وترحيل هذه المواد لكنهم قلة، والمشاريع الكبيرة التي أُنشأَت بالتمويل الحكومي أو الخاص فقط -مثل المدرسة الإبتدائية الوحيدة والمركز الطبي والمسجدين (قبلي وبحري التي تعني جنوب وشمال الجزيرة)- هي التي تم بناؤها بالطوب الأحمر وتم تشطيبها بمواد التشطيب الحديثة.
الوضع الاقتصادي لمعظم سكان الجزيرة يعتمد على الزراعة الموسمية لمحاصيل (القمح والفول المصري والتمور)، وبصورة جزئية على أبنائهم المغتربين خارج السودان. في السنوات الأخيرة أُدخِلَت الأسمدة والمبيدات كشيء أساسيّ لضمان نجاح المواسم الزراعية، لأن الطمي الذي كان يحمل المغذيات للتربة بدأ في التناقص بصورة كبيرة منذ إنشاء سد مروي، وبالتأكيد فإن أسعار المحاصيل بالنسبة لسكان الجزيرة تكون أقل بنسبة كبيرة عن سكان البر لأن ثمن تَعدِيَة جوالات المحاصيل تقع على عاتق المزارع الذي يريد بيع محصوله، كل ذلك يجب النظر إليه كسبب رئيسي عند سؤالنا لما لا تزال معظم البيوت هنالك تبنى بنفس طريقة التشييد القديمة؟ ولماذا لا تحوي وسائل تبريد وتدفئة حديثة تُعِين سكانها على الأيام الصعبة؟. الخدمات المقدمة من الحكومة، كشبكة المياه، هي بالتأكيد أمر إيجابي، إذ تم توصيل مواسير المياه لكل منزل. وسلبي في أن النساء، قبل هذه الشبكة، كنَّ يذهبن إلى النيل كنشاطٍ اجتماعيّ نسائيّ. كل النساء كبيرات السن في الجزيرة يعرفن السباحة. ولم يكنّ يجلسن في بيوتهنّ خلال النهار ليعانين من الحر الشديد. عند النظر لكل شيء يُقَدَّم كحل لمشكلة أزلية نرى أن له أثراً لم يكن موضوعاً في الاعتبار.
من ماذا يتكون المنزل:
يتكون المنزل من غرف وبرندات ومطبخ ومزيرة، أما ملحقاته، خارج السور، فهي مطبخ خارجي للعواسة إذا كان المنزل ضيّقاً وبرج حمام وراكوبة للرجال بها كراسي وأسرة لاستقبال الضيوف ومزيرة خارجية، والرصة والقوسيبة.

بالنسبة لدورة المياه فليست هناك شبكة صرف صحي لضيق مساحة الجزيرة أو تانك شفط، كما لا توجد عربة بمحرك في الجزيرة ما عدا محراث واحد لكلّ مزارع الجزيرة. الحل المستخدم هو بئر تُحفَر خلف الحمام بمواسير صرف pvc وتكون للبئر هوَّاية فقط.. ولا يتم استخدام الكثير من المياه حتى لا تُملأ البئر سريعاً، أما الاستحمام فيتم تصريف المياه ببلاعة خارجية تُغرَف لاحقاً، عند امتلاء بئر الصرف الصحي فإن الحمام يُلغَى ويتم بناء حمام جديد ببئر جديدة. ويمكن أن يبنى الحمّام خارج المنزل إذا كانت المساحة ضيقة. مياه غسل الأطباق التي تستخدم في طشت وجردل يتم دفقها في الشارع، أو عمل جدول من البيت إلى أقرب زقاق خارجي أو قطعة أرض خالية.

نرجع لأول مكونات المنزل:
يمكن قطع الطوب (تشكيل الطين في قوالب وتركها في الأرض لتجف) في مكانٍ خالٍ من الزراعة. ولكن ليس ببعيد من المنزل المراد تشييده، يُمكِن أن يشكل في مزرعة لم تتم حراثتها بعد للمحصول الجديد. وفي حادثة تم غمر كمية طوب كبيرة بالمياه لأن المزارع الذي يجب أن يحرص على سقي محصوله بالماء وقَفْل الترعة في مواعيد محددة، نام تلك الليلة، واستيقظ صاحب الطوب على حدث حزين وكأن مجهوده ضاع هباء. قَطْع الطوب عمل مأجور وقد يقوم به صاحب المنزل بنفسه تقليلاً للتكاليف، وكذلك نقل الطوب بالكارو من مكان القطع للبيت، فيما عدا ذلك فإن كل العمل يتم بالنفير (كل الرجال يجتمعون للبناء ووضع السقف ثم تأتي النساء أيضاً لليابسة بعد ذلك بالطين المغربل والصمغ). وكل المباني في الجزيرة تحوي طابقاً أرضيّاً فقط.

ما هي مواد البناء:
- طوب من الطين اللبن.
- مونة من الطين.
- بياض داخلي وخارجي من الطين.
- أحجار توضع أعلى الحائط لوضع عوارض السقف عليها.
- عوارض سقف من جذوع الأشجار.
- سقف من الجريد أو البوص فوقه طبقة من الطين لسد الفجوات.
- زنك ومواسير حديد (إذا كان السقف من الزنك فيمكن الاستغناء عن الفجوة التي تفصل بين السقف والحائط، والتي لها دور بجانب التهوية وهو منع الأرضة من الوصول للسقف ونخره، كما يظهر في المبنى المصاحب لصور بئر الحمام).

كل عام يتم تلييس المنزل مرتين على الأقل (الحوائط والأرضيات) نسبة لتأثر طبقة الحماية الخارجية بعوامل الطقس؛ حيث تُسَد الثقوب التي يمكن أن تخرج منها العقارب والآفات، ولتزيين المنزل أيضاً في الأعياد. لكن لوقوع الجزيرة في منطقة مصابة بآفة الأرضة فإن البناء بالطين، وبالرغم من دقة غربلة التربة، لا بدّ أن يصحبه وجود قش تتغذى عليه هذه الآفة، مما يجعل الحل المطروح للأثاث هو الأثاث المعدني، أو رفع القطع الخشبية في قاعدة حجرية أو بلاستيكية بحيث لا تنخره الأرضة صغيرة الحجم ذات الضرر الكبير. أما لماذا تأخذ المباني درجات مختلفة من اللون الترابي مع أنها من نفس الأرض؟ فالإجابة هي في نسبة الصمغ، وهو مسحوق يُضاف للطين ويزيد من لزوجته وتماسكه فيما بعد على الحائط، اختلاف كمية الصمغ هو ما يجعل من بيت أغبش وبيت ترابي كالح.
يجب أيضاً النظر للتغيّرات المناخية المتطرّفة بعين الاعتبار، فكما يظهر في التقارير التي ترصد ظاهرة النينو العالمية التي يقع السودان في مقدمة الدول المتأثِّرة بها، تهدّمت في خريف العام ٢٠٢٤ منازل كثيرة في البر المحازي للجزيرة، لأنها تقع في مجاري السيول الطبيعية، ( بالطبع فإن الطبيعة المناخية الصحراوية لن تعير اهتماما لمعدل أمطار شحيحة أو منعدمة عادة، وعندما تهطل بغزارة فإنها تكون ظاهرة يُؤرَّخ بها)، ذلك قبل أن يصير تزايد هطول الأمطار في الولاية أمراً معتاداً في السنوات الأخيرة. وتكاليف الصيانة الدورية، أو في أسوأ الفروض نقل المبنى في منطقة مرتفعة أو بعيداً عن مجرى السيل، يُعتبرُ أمراً حتميّاً. من الجيد أنه لم تقع حوادث هدم للمباني داخل الجزيرة، لم يَخْلُ الأمر من اقتلاع أسقف من الزنك من حوائطها نظراً لشدة الرياح التي صاحبت الأمطار، وأيضاً اختلاف مناسيب المباني والشوارع فإن المياه لم تُحبس داخل المباني لمدة طويلة لتتشرَّب الحوائط بها. الآن، وأثناء كتابة هذا النص في الأسبوع الثالث من فبراير، فإن أهالي الجزيرة يعانون من موجات برد حادة يستخدمون بعضهم فيها ما استخدمه أجدادهم في التدفئة: طشت حديد به نار داخل الغرف على هذه الطريقة تقيهم قسوة الطبيعة. ولن ننسى أيضاً درجات الحرارة القياسية المرصودة في صيف نفس العام، حيث كانت تبلغ في شهر مايو ويونيو 46 درجة مئوية كمتوسط.
تُقبَل هذه التغيرات كواقع جديد مبني على دراسات مناخية وليس كظواهر قد تحدث لعام ولن تتكرر قريباً، وقد يكون لبنة أولى في النظر لضرورة إيجاد حلول مستدامة بمواد محلية من قبل المعماريين تجعل العيش في مبنى طينيّ عيشاً يخلو من المخاطر الملازمة لكل فصل من فصول السنة.
صورة العنوان وجميع صور المعرض: جزيرة داجارتا، شمال السودان، ٢٠٢٤ © آية سنادة

مقدمة:
دقرتا أو دقرتي، الاسمان مستخدمان من قبل سكان الجزيرة، ويعود معنى الاسم إلى أن "دقرتي" تحولت لاحقًا إلى "دقرتا"، حيث تعني "أرتي": جزيرة بلغة الفاديجا، بينما تحمل كلمة "دقر" معنيين: الأول هو "ترحيل العروس إلى بيت زوجها"، والثاني هو "ربط عود في البحر بهدف تجميع الطمي حوله وتكوين جزيرة رسوبية بفعل الإنسان".
تقع جزيرة دقرتا في شمال السودان وتتبع لمدينة كرمة ضمن محلية البرقيق. يُعتقد أن الجزيرة مأهولة منذ آلاف السنين، حيث يعيش سكانها في منتصفها، بينما تقع الأراضي الزراعية على أطرافها.
قبل الحرب، كان تعداد سكان الجزيرة يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ فرد، إلا أنه مع النزوح، عاد إليها ما يقارب ٣٤٠ شخصًا، معظمهم من السكان الأصليين العائدين إلى بيوتهم المهجورة.
المقدمة مأخوذة من مقال لمجلة أتر العدد ١٩، المنشور بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤

عمارة الطين:
تختلف معايشة البناء الطيني حسب معطيات عدة، مثلاً أين يقع هذا البناء؟ هل هو في منطقة رطبة أم جافة (منطقة تقع التأثير المناخي للسدود)، ما هي طبيعة الأرض هناك (رملية، طينية أم حجرية)، ومن الذي يقيّم تجربة المعايشة، هل هو من السكان الأصليين أم نازح للمنطقة بسبب حرب أبريل، وأخيراً الاختلافات الفردية، فما يناسبك قد يناسبني أو لا.
ولكن لنتفق أن أزمة النزوح لها وجه أكثر قتامة من العودة الطوعية للموطن الأصلي ومسقط رأس الآباء والأجداد، هنالك دائماً رومانسية تصبغ فكرة العودة للبلد ذات الطبيعة البكر والغذاء الصحي والحياة الطبيعية التي ينشدها سكان المدن؛ فخلف هذه الطبيعة غير المشوهة هنالك الكثير من عدم التنمية والفقر وذلك في جميع أطراف السودان وليس في إقليم واحد.
في إحدى خيالاتي السابقة أني أمتلك بيتاً طينيَّاً مزخرفاً بزخارف تقليدية في البلد، ومزرعة صغيرة بها محاصيل موسمية وأشجار فاكهة بجانبه للاكتفاء الذاتي. أرى في ذلك تكفيراً عن حياتي في المدينة السودانية المسيئة لفكرة المواطنة والجمال والتحضر، وبحثاً عن هويتي الضائعة، وعقد صداقة غير مشروطة مع البيئة، لكن هذا الحلم تلاشى أمام عيني بعدما عشت في هذه المنازل لأشهر طويلة اختبرت فيها الشتاء والصيف، وسألت فيها نفسي سؤالاً غريباً: لماذا لا تزال العمارة الطينية في جزيرة دقرتا هي العمارة المستخدمة ولم تُنقل إلى خانة التراث؟ ما أجمل أن أقرأ عنها في صفحات التقارير والدراسات. وما أجمل صورها على صفحات الإنترنت، وما أقسى العيش بداخلها كما هي ودون حلول حديثة.

المهمات الموكلة للرجل والمرأة في الجزيرة والزيارات الاجتماعية اليومية تخفِّف من حدة الشعور بحر الصيف وبرد الشتاء، حيث لا يظل ساكن الجزيرة في غرفته طوال اليوم كما فعلت أنا على الأقل.
الديمومة هي تحدٍّ آخر لهذه العمارة، حيث هي دائمة التعرض للهدم، وتغدو أطلالاً بعد سنوات بسيطة من هجرانها عكس المباني المشيدة من مواد البناء الأخرى (الحجرية والأسمنتية والمشيَّدة بالطوب الأحمر). لذا الصيانة الدورية هي جزء أساسي للحياة التي تُمليها الجزيرة، البيت كالكائن الحي له احتياجاته وسُكّانه لا يتذمّرون من العناية به. كان للمباني المهجورة دور عظيم في استضافة النازحين من الغرباء والعائدين من مواطني الجزيرة الأصليين إليها في فترة الحرب، ونسبة لسهولة أسلوب التشييد، فإن الأطلال تم ترميمها بسرعة قياسية لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة.
لم يكن بناء المنازل الطينية في جزيرة دقرتا أمراً اختيارياً، نسبة انعزال الجزيرة وصعوبة نقل مواد البناء الحديثة (أسمنت، رمل، طوب أحمر أو أسمنت وحديد تسليح وغيرها) ولضيق المساحة، فلا توجد هناك مساحة آمنة لكمائن حرق الطوب دون التسبب بأضرار صحية لسكان الجزيرة، بالطبع هناك من يستطيع تحمّل نفقات تعدية وترحيل هذه المواد لكنهم قلة، والمشاريع الكبيرة التي أُنشأَت بالتمويل الحكومي أو الخاص فقط -مثل المدرسة الإبتدائية الوحيدة والمركز الطبي والمسجدين (قبلي وبحري التي تعني جنوب وشمال الجزيرة)- هي التي تم بناؤها بالطوب الأحمر وتم تشطيبها بمواد التشطيب الحديثة.
الوضع الاقتصادي لمعظم سكان الجزيرة يعتمد على الزراعة الموسمية لمحاصيل (القمح والفول المصري والتمور)، وبصورة جزئية على أبنائهم المغتربين خارج السودان. في السنوات الأخيرة أُدخِلَت الأسمدة والمبيدات كشيء أساسيّ لضمان نجاح المواسم الزراعية، لأن الطمي الذي كان يحمل المغذيات للتربة بدأ في التناقص بصورة كبيرة منذ إنشاء سد مروي، وبالتأكيد فإن أسعار المحاصيل بالنسبة لسكان الجزيرة تكون أقل بنسبة كبيرة عن سكان البر لأن ثمن تَعدِيَة جوالات المحاصيل تقع على عاتق المزارع الذي يريد بيع محصوله، كل ذلك يجب النظر إليه كسبب رئيسي عند سؤالنا لما لا تزال معظم البيوت هنالك تبنى بنفس طريقة التشييد القديمة؟ ولماذا لا تحوي وسائل تبريد وتدفئة حديثة تُعِين سكانها على الأيام الصعبة؟. الخدمات المقدمة من الحكومة، كشبكة المياه، هي بالتأكيد أمر إيجابي، إذ تم توصيل مواسير المياه لكل منزل. وسلبي في أن النساء، قبل هذه الشبكة، كنَّ يذهبن إلى النيل كنشاطٍ اجتماعيّ نسائيّ. كل النساء كبيرات السن في الجزيرة يعرفن السباحة. ولم يكنّ يجلسن في بيوتهنّ خلال النهار ليعانين من الحر الشديد. عند النظر لكل شيء يُقَدَّم كحل لمشكلة أزلية نرى أن له أثراً لم يكن موضوعاً في الاعتبار.
من ماذا يتكون المنزل:
يتكون المنزل من غرف وبرندات ومطبخ ومزيرة، أما ملحقاته، خارج السور، فهي مطبخ خارجي للعواسة إذا كان المنزل ضيّقاً وبرج حمام وراكوبة للرجال بها كراسي وأسرة لاستقبال الضيوف ومزيرة خارجية، والرصة والقوسيبة.

بالنسبة لدورة المياه فليست هناك شبكة صرف صحي لضيق مساحة الجزيرة أو تانك شفط، كما لا توجد عربة بمحرك في الجزيرة ما عدا محراث واحد لكلّ مزارع الجزيرة. الحل المستخدم هو بئر تُحفَر خلف الحمام بمواسير صرف pvc وتكون للبئر هوَّاية فقط.. ولا يتم استخدام الكثير من المياه حتى لا تُملأ البئر سريعاً، أما الاستحمام فيتم تصريف المياه ببلاعة خارجية تُغرَف لاحقاً، عند امتلاء بئر الصرف الصحي فإن الحمام يُلغَى ويتم بناء حمام جديد ببئر جديدة. ويمكن أن يبنى الحمّام خارج المنزل إذا كانت المساحة ضيقة. مياه غسل الأطباق التي تستخدم في طشت وجردل يتم دفقها في الشارع، أو عمل جدول من البيت إلى أقرب زقاق خارجي أو قطعة أرض خالية.

نرجع لأول مكونات المنزل:
يمكن قطع الطوب (تشكيل الطين في قوالب وتركها في الأرض لتجف) في مكانٍ خالٍ من الزراعة. ولكن ليس ببعيد من المنزل المراد تشييده، يُمكِن أن يشكل في مزرعة لم تتم حراثتها بعد للمحصول الجديد. وفي حادثة تم غمر كمية طوب كبيرة بالمياه لأن المزارع الذي يجب أن يحرص على سقي محصوله بالماء وقَفْل الترعة في مواعيد محددة، نام تلك الليلة، واستيقظ صاحب الطوب على حدث حزين وكأن مجهوده ضاع هباء. قَطْع الطوب عمل مأجور وقد يقوم به صاحب المنزل بنفسه تقليلاً للتكاليف، وكذلك نقل الطوب بالكارو من مكان القطع للبيت، فيما عدا ذلك فإن كل العمل يتم بالنفير (كل الرجال يجتمعون للبناء ووضع السقف ثم تأتي النساء أيضاً لليابسة بعد ذلك بالطين المغربل والصمغ). وكل المباني في الجزيرة تحوي طابقاً أرضيّاً فقط.

ما هي مواد البناء:
- طوب من الطين اللبن.
- مونة من الطين.
- بياض داخلي وخارجي من الطين.
- أحجار توضع أعلى الحائط لوضع عوارض السقف عليها.
- عوارض سقف من جذوع الأشجار.
- سقف من الجريد أو البوص فوقه طبقة من الطين لسد الفجوات.
- زنك ومواسير حديد (إذا كان السقف من الزنك فيمكن الاستغناء عن الفجوة التي تفصل بين السقف والحائط، والتي لها دور بجانب التهوية وهو منع الأرضة من الوصول للسقف ونخره، كما يظهر في المبنى المصاحب لصور بئر الحمام).

كل عام يتم تلييس المنزل مرتين على الأقل (الحوائط والأرضيات) نسبة لتأثر طبقة الحماية الخارجية بعوامل الطقس؛ حيث تُسَد الثقوب التي يمكن أن تخرج منها العقارب والآفات، ولتزيين المنزل أيضاً في الأعياد. لكن لوقوع الجزيرة في منطقة مصابة بآفة الأرضة فإن البناء بالطين، وبالرغم من دقة غربلة التربة، لا بدّ أن يصحبه وجود قش تتغذى عليه هذه الآفة، مما يجعل الحل المطروح للأثاث هو الأثاث المعدني، أو رفع القطع الخشبية في قاعدة حجرية أو بلاستيكية بحيث لا تنخره الأرضة صغيرة الحجم ذات الضرر الكبير. أما لماذا تأخذ المباني درجات مختلفة من اللون الترابي مع أنها من نفس الأرض؟ فالإجابة هي في نسبة الصمغ، وهو مسحوق يُضاف للطين ويزيد من لزوجته وتماسكه فيما بعد على الحائط، اختلاف كمية الصمغ هو ما يجعل من بيت أغبش وبيت ترابي كالح.
يجب أيضاً النظر للتغيّرات المناخية المتطرّفة بعين الاعتبار، فكما يظهر في التقارير التي ترصد ظاهرة النينو العالمية التي يقع السودان في مقدمة الدول المتأثِّرة بها، تهدّمت في خريف العام ٢٠٢٤ منازل كثيرة في البر المحازي للجزيرة، لأنها تقع في مجاري السيول الطبيعية، ( بالطبع فإن الطبيعة المناخية الصحراوية لن تعير اهتماما لمعدل أمطار شحيحة أو منعدمة عادة، وعندما تهطل بغزارة فإنها تكون ظاهرة يُؤرَّخ بها)، ذلك قبل أن يصير تزايد هطول الأمطار في الولاية أمراً معتاداً في السنوات الأخيرة. وتكاليف الصيانة الدورية، أو في أسوأ الفروض نقل المبنى في منطقة مرتفعة أو بعيداً عن مجرى السيل، يُعتبرُ أمراً حتميّاً. من الجيد أنه لم تقع حوادث هدم للمباني داخل الجزيرة، لم يَخْلُ الأمر من اقتلاع أسقف من الزنك من حوائطها نظراً لشدة الرياح التي صاحبت الأمطار، وأيضاً اختلاف مناسيب المباني والشوارع فإن المياه لم تُحبس داخل المباني لمدة طويلة لتتشرَّب الحوائط بها. الآن، وأثناء كتابة هذا النص في الأسبوع الثالث من فبراير، فإن أهالي الجزيرة يعانون من موجات برد حادة يستخدمون بعضهم فيها ما استخدمه أجدادهم في التدفئة: طشت حديد به نار داخل الغرف على هذه الطريقة تقيهم قسوة الطبيعة. ولن ننسى أيضاً درجات الحرارة القياسية المرصودة في صيف نفس العام، حيث كانت تبلغ في شهر مايو ويونيو 46 درجة مئوية كمتوسط.
تُقبَل هذه التغيرات كواقع جديد مبني على دراسات مناخية وليس كظواهر قد تحدث لعام ولن تتكرر قريباً، وقد يكون لبنة أولى في النظر لضرورة إيجاد حلول مستدامة بمواد محلية من قبل المعماريين تجعل العيش في مبنى طينيّ عيشاً يخلو من المخاطر الملازمة لكل فصل من فصول السنة.
صورة العنوان وجميع صور المعرض: جزيرة داجارتا، شمال السودان، ٢٠٢٤ © آية سنادة

مهرجان الدخن

مهرجان الدخن
في الفترة من ١١-١٣/ ٢٠٢٣م من شهر مارس، شَهِدَت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مهرجان الدخن السنوي الثاني، اجتاح المهرجان شوارع المدينة وأسواقها ومتاحفها، وسط مشاركة شعبية كبيرة ورسمية، بجانب شركاء من منظمات دولية بهدف تحفيز الاهتمام بإنتاج الدخن. دشَّن والي جنوب دارفور حامد التجاني هنون بمتحف دارفور المجتمعي مهرجان الدخن السنوي. وقال هنون إن هذا المهرجان جاء والسودان يشهد اهتماماً كبيراً بهذا الغذاء المهم، وأضاف إن العام ٢٠٢٣م هو عام الدخن الدولي استناداً لإعلان الأمم المتحدة نفس العام. وصرَّح أنه البديل للقمح في المرحلة القادمة للمواطن السوداني. ويهدف المهرجان إلى خلق الوعي وزيادة إنتاج واستهلاك حبوب الدخن؛ حيث يُعتبر الدُخن من الأغذية المفيدة لصحة الإنسان مع انخفاض متطلبات المياه والمدخلات لزراعتها.
على الرغم من عدم دعم السلطات لإنتاج الدخن كما القمح، إلا أن مساحة زراعة وإنتاج محصول الدخن في السودان تأتي بعد الذرة مباشرة، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة منه سنوياً حوالي ٦ ملايين فدان، وتتم زراعة حوالي ٩٥% من هذه المساحة بولايات غرب السودان في كردفان ودارفور بجانب القضارف وكسلا والنيل الأزرق وحلفا الجديدة. في ذلك يقول رئيس مبادرة مهرجان الدخن السنوي، أشرف أحمد سعد، إن المهرجان يهدف إلى حفظ التراث الإنساني، وأن استصلاح الأراضي بعد تجاوز تحديات التقانة، التمويل، التقاوي؛ ستُسهم في التعافي الاقتصادي بتوفير الدخن كبديل للقمح والحبوب التي يعتمد السودان في تغطيتها بالاستيراد.
واحتوى مهرجان الدخن على العديد من الفقرات كزفَّة نفير ودق العيش، ومجموعة من المعارض، والأوراق العلمية، وعروض مسرحية وغناء ومسابقات. من أبرز الفقرات هي مسابقة "قدح الميرم" التي أُقيمت في حدائق منتجع التكتيك. حيث دُعيت إليها شابات تمَّ اختيارهن للتنافس على عَمَل أكلات تقليدية؛ مثل الفروندو والكول والمينداجي، وتم التركيز على أطعمة الدخن أبرزها العصيدة، وتم تتويج الشابة الفائزة "ملكة الدخن”.
كما كان هناك عرض لمختلف الأطعمة التي يمكن صنعها بالدخن مثل الجوجار، والدمسورو، والعبود تاكارو، وأم طبج. كما عرض مجموعة من المخبوزات كالعيش والبسكويت والكب كيك والبيتزا.
بالإضافة إلى البرنامج الثقافي الذي تم تنظيمه من قبل مجموعة المكفوفين ومنتدى كرري الثقافي، حيث أبدع المكفوفين في أداء الشعر والغناء وإبراز مختلف المواهب. كما احتوى البرنامج على تقديم ورقة علمية بعنوان: (زراعة الدخن بالري المطري بالسودان وتحديداً ولاية جنوب دارفور) قدمها الأستاذ: علي بقادي فضالي، متحدثاً عن أهمية الدخن في غرب السودان بالإضافة إلى أهميته في تغذية الحيوان.
في الفترة من ١١-١٣/ ٢٠٢٣م من شهر مارس، شَهِدَت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مهرجان الدخن السنوي الثاني، اجتاح المهرجان شوارع المدينة وأسواقها ومتاحفها، وسط مشاركة شعبية كبيرة ورسمية، بجانب شركاء من منظمات دولية بهدف تحفيز الاهتمام بإنتاج الدخن. دشَّن والي جنوب دارفور حامد التجاني هنون بمتحف دارفور المجتمعي مهرجان الدخن السنوي. وقال هنون إن هذا المهرجان جاء والسودان يشهد اهتماماً كبيراً بهذا الغذاء المهم، وأضاف إن العام ٢٠٢٣م هو عام الدخن الدولي استناداً لإعلان الأمم المتحدة نفس العام. وصرَّح أنه البديل للقمح في المرحلة القادمة للمواطن السوداني. ويهدف المهرجان إلى خلق الوعي وزيادة إنتاج واستهلاك حبوب الدخن؛ حيث يُعتبر الدُخن من الأغذية المفيدة لصحة الإنسان مع انخفاض متطلبات المياه والمدخلات لزراعتها.
على الرغم من عدم دعم السلطات لإنتاج الدخن كما القمح، إلا أن مساحة زراعة وإنتاج محصول الدخن في السودان تأتي بعد الذرة مباشرة، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة منه سنوياً حوالي ٦ ملايين فدان، وتتم زراعة حوالي ٩٥% من هذه المساحة بولايات غرب السودان في كردفان ودارفور بجانب القضارف وكسلا والنيل الأزرق وحلفا الجديدة. في ذلك يقول رئيس مبادرة مهرجان الدخن السنوي، أشرف أحمد سعد، إن المهرجان يهدف إلى حفظ التراث الإنساني، وأن استصلاح الأراضي بعد تجاوز تحديات التقانة، التمويل، التقاوي؛ ستُسهم في التعافي الاقتصادي بتوفير الدخن كبديل للقمح والحبوب التي يعتمد السودان في تغطيتها بالاستيراد.
واحتوى مهرجان الدخن على العديد من الفقرات كزفَّة نفير ودق العيش، ومجموعة من المعارض، والأوراق العلمية، وعروض مسرحية وغناء ومسابقات. من أبرز الفقرات هي مسابقة "قدح الميرم" التي أُقيمت في حدائق منتجع التكتيك. حيث دُعيت إليها شابات تمَّ اختيارهن للتنافس على عَمَل أكلات تقليدية؛ مثل الفروندو والكول والمينداجي، وتم التركيز على أطعمة الدخن أبرزها العصيدة، وتم تتويج الشابة الفائزة "ملكة الدخن”.
كما كان هناك عرض لمختلف الأطعمة التي يمكن صنعها بالدخن مثل الجوجار، والدمسورو، والعبود تاكارو، وأم طبج. كما عرض مجموعة من المخبوزات كالعيش والبسكويت والكب كيك والبيتزا.
بالإضافة إلى البرنامج الثقافي الذي تم تنظيمه من قبل مجموعة المكفوفين ومنتدى كرري الثقافي، حيث أبدع المكفوفين في أداء الشعر والغناء وإبراز مختلف المواهب. كما احتوى البرنامج على تقديم ورقة علمية بعنوان: (زراعة الدخن بالري المطري بالسودان وتحديداً ولاية جنوب دارفور) قدمها الأستاذ: علي بقادي فضالي، متحدثاً عن أهمية الدخن في غرب السودان بالإضافة إلى أهميته في تغذية الحيوان.

في الفترة من ١١-١٣/ ٢٠٢٣م من شهر مارس، شَهِدَت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مهرجان الدخن السنوي الثاني، اجتاح المهرجان شوارع المدينة وأسواقها ومتاحفها، وسط مشاركة شعبية كبيرة ورسمية، بجانب شركاء من منظمات دولية بهدف تحفيز الاهتمام بإنتاج الدخن. دشَّن والي جنوب دارفور حامد التجاني هنون بمتحف دارفور المجتمعي مهرجان الدخن السنوي. وقال هنون إن هذا المهرجان جاء والسودان يشهد اهتماماً كبيراً بهذا الغذاء المهم، وأضاف إن العام ٢٠٢٣م هو عام الدخن الدولي استناداً لإعلان الأمم المتحدة نفس العام. وصرَّح أنه البديل للقمح في المرحلة القادمة للمواطن السوداني. ويهدف المهرجان إلى خلق الوعي وزيادة إنتاج واستهلاك حبوب الدخن؛ حيث يُعتبر الدُخن من الأغذية المفيدة لصحة الإنسان مع انخفاض متطلبات المياه والمدخلات لزراعتها.
على الرغم من عدم دعم السلطات لإنتاج الدخن كما القمح، إلا أن مساحة زراعة وإنتاج محصول الدخن في السودان تأتي بعد الذرة مباشرة، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة منه سنوياً حوالي ٦ ملايين فدان، وتتم زراعة حوالي ٩٥% من هذه المساحة بولايات غرب السودان في كردفان ودارفور بجانب القضارف وكسلا والنيل الأزرق وحلفا الجديدة. في ذلك يقول رئيس مبادرة مهرجان الدخن السنوي، أشرف أحمد سعد، إن المهرجان يهدف إلى حفظ التراث الإنساني، وأن استصلاح الأراضي بعد تجاوز تحديات التقانة، التمويل، التقاوي؛ ستُسهم في التعافي الاقتصادي بتوفير الدخن كبديل للقمح والحبوب التي يعتمد السودان في تغطيتها بالاستيراد.
واحتوى مهرجان الدخن على العديد من الفقرات كزفَّة نفير ودق العيش، ومجموعة من المعارض، والأوراق العلمية، وعروض مسرحية وغناء ومسابقات. من أبرز الفقرات هي مسابقة "قدح الميرم" التي أُقيمت في حدائق منتجع التكتيك. حيث دُعيت إليها شابات تمَّ اختيارهن للتنافس على عَمَل أكلات تقليدية؛ مثل الفروندو والكول والمينداجي، وتم التركيز على أطعمة الدخن أبرزها العصيدة، وتم تتويج الشابة الفائزة "ملكة الدخن”.
كما كان هناك عرض لمختلف الأطعمة التي يمكن صنعها بالدخن مثل الجوجار، والدمسورو، والعبود تاكارو، وأم طبج. كما عرض مجموعة من المخبوزات كالعيش والبسكويت والكب كيك والبيتزا.
بالإضافة إلى البرنامج الثقافي الذي تم تنظيمه من قبل مجموعة المكفوفين ومنتدى كرري الثقافي، حيث أبدع المكفوفين في أداء الشعر والغناء وإبراز مختلف المواهب. كما احتوى البرنامج على تقديم ورقة علمية بعنوان: (زراعة الدخن بالري المطري بالسودان وتحديداً ولاية جنوب دارفور) قدمها الأستاذ: علي بقادي فضالي، متحدثاً عن أهمية الدخن في غرب السودان بالإضافة إلى أهميته في تغذية الحيوان.

الجلد عبر الأزمان

الجلد عبر الأزمان
تدعم البيئات الطبيعية في السودان، التي تعتمد على الأمطار، الكثير من أنواع الحيوانات، وقد كان ذلك لآلاف السنين. إنها تناسب الظروف المناخية شبه الجافة في الساحل لأن الحيوانات يمكن أن تنتقل بين المراعي الموسمية. اليوم، تتضمن هذه الأنواع أكثر من ١٠٠ مليون من الأبقار والجمال والأغنام والماعز، جميعها جيدة لإنتاج الجلد. يشمل التراث الحي في السودان دباغة الجلد وصناعاته الحرفية عبر معظم أرجاء البلاد. يمكنك رؤية مجموعة واسعة من منتجات الجلد في الأسواق، بما في ذلك صانعي الأحذية الذين ينتجون المركوب السوداني الشهير. هذا التراث هو أساس الصناعات الجلدية الحديثة في السودان، التي بدأت عام ١٩٤٥ مع إنشاء مصنع للدباغة ومصنع للأحذية في الخرطوم. ومع ذلك، هناك تحديات.


في عام ٢٠٢٢، تم التبرع بسرج جمل جلدي جميل وكامل بجميع ملحقاته إلى متحف شيكان في الأبيض. جاءت هذه المبادرة خلال ورشة عمل جمعت قادة المجتمع المحلي وممثلي المدينة، وكان الهدف منها إنشاء معرض بعنوان "التراث الأخضر" لدراسة تأثير تغير المناخ على الثقافة المحلية.
تم التبرع بالسرج من قبل حفيد مالكه، وهو أحد شيوخ المنطقة، حيث كانت عائلته قد تخلت عن مهنة الرعي. وبينما كنا نتأمل هذا السرج الرائع، تساءلنا عمّا إذا كان من الممكن صنع مثله اليوم. لم يُصنع هذا السرج للبيع، بل كان للاستخدام داخل سياق مجتمعي معين مرتبط بأسلوب حياة محدد.
وبما أننا كنا نعمل في مجال المتاحف، فقد أثار اهتمامنا البحث عن أمثلة قديمة لصناعة الجلود وأنماط الحياة المرتبطة بها. بالمقارنة مع الأحجار أو الفخار، فإن العثور على آثار الجلود القديمة وفهمها أمر صعب، إذ إنها، كغيرها من المواد العضوية، تتحلل وتعود إلى الأرض دون أن تترك أثرًا يُذكر. لكن في بعض الحالات النادرة، حيث تكون الظروف شديدة الجفاف، كما هو الحال في بعض المواقع في النوبة بشمال السودان، تبقى بعض الشظايا الجلدية محفوظة، وهي تروي لنا قصصًا شيقة للغاية.
صناعة الجلد في النوبة القديمة، شمال السودان
لقد استغرق استكشاف قصة الجلد النوبي القديم سنوات من البحث والتحليل المخبري للقِطَع المحفوظة بعناية في المتاحف، بالإضافة إلى التجارب العمليّة لمحاولة إعادة إنشاء العمليات التي تم بها صنعه. شملت الأبحاث الهامة للوسي سكينر (التي يستند إليها هذا المقال) زيارة ورشة دباغة تقليدية في الهواء الطلق في منطقة بالقرب أم درمان. على الرغم من أنها كانت تُعِدّ جلودًا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتنتج جلدًا رخيصًا للاستخدام المحلي، فإنها قدمت لمحة عن كيفية عمل ورشة الدباغة التقليدية. ومن الدروس المستفادة أن جميع المواد المستخدمة كانت من المنطقة المجاورة: الجير، قرون شجرة الأكاسيا، فضلات الحمام، قش الذرة، زيت السمسم.


معلوم أن المصريين القدماء كانوا يوقِّرون النوبيين باعتبارهم هم المتخصصين المتميزين في صناعة الجلود، وذلك لسبب وجيه. تخيل ارتداء ملابس جلدية فائقة النعومة، خفيفة ومرنة بشكل استثنائي، مثل أجود أنواع الجلد المدبوغ أو جلد الشامواه. وقد وُجدت هذه الملابس في مقابر نوبية للذكور والإناث، وشملت ملابس ذات ألواح مخيطة، وأوشحة، وملابس قصيرة، وملابس داخلية. والأكثر غرابة كانت الملابس المصنوعة من الجلد المثقوب. تم عمل صفوف من القطع المتوازية الصغيرة المتداخلة في صفائح الجلد، وعندما يتم سحب الجلد جانباً، فإنه يُشَكِّل بنية شَبَكِيَّة. وقد مكّن ذلك من صنع ملابس ضيقة مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس، حيث كانت أكثر مرونة وجيدة التهوية. تشير رسومات المقابر إلى أن الملابس الداخلية النوبية المثقوبة أصبحت مفضلة لدى المصريين، وخاصة أولئك الذين يعملون في الحقول أو يجدفون القوارب في العصر الفرعوني. كان الثوب متينًا ومريحًا في الحرارة، حيث كان يمتص العرق ويحافظ على برودة الجسم.
بجانب صناعة الملابس، استخدم النوبيون الجلود في العديد من المجالات الأخرى. فقد اشتهر رماة النوبة باستخدام واقيات ذراع سميكة مصنوعة من الجلد ومقوّسة لتناسب شكل المعصم، مما كان يحمي الساعد الداخلي من ارتداد وتر القوس أثناء الرماية. كما شملت الاستخدامات الأخرى للجلد جُعبات وحافظات، وأحزمة بأنواعها المختلفة، وأربطة الأدوات، وخيوط الأسرّة، وأغطية المدافن، وأحزمة الحيوانات، والأساور، والحقائب، والحاويات، والأكياس، وبالطبع الصنادل. كان كل غرض يُصنع من نوع معين من الجلد، سواء من حيث مصدر الحيوان أو العملية المستخدمة في تصنيعه.
كان النوبيون ماهرين في معالجة الجلود واستخدموها في العديد من الأغراض. كان الشكل الأساسي -الجلد الخام- يُستخدم في أي مكان تفتقر فيه البدائل النباتية إلى القوة. يتطلب الجلد الخام القليل جدًا من المعالجة بعد إزالة جلد الحيوان وكشط السطح الداخلي من الدهون واللحوم. يمكن إزالة الشعر من الجلد إما عن طريق تفكيكه بمحلول قلوي (محلول مصنوع من مستحلب رماد الخشب)، أو عن طريق "التعرق". وذلك بتركه في ظروف دافئة ورطبة لتحفيز تحلل السطح وتسهيل إزالة الشعر. نظرًا لأن هذه العملية تُضعف الجلد الخام، فقد يُترك الشعر لتحقيق أقصى قدر من القوة - حصائر الفراء هي مثال شائع. المرحلة التالية هي قطع الجلد الخام بينما لا يزال مرطبًا جزئيًا وقابلاً للانحناء. عندما يجف، يشتد وينكمش، وهي سمة مفيدة عند صنع أسرة العنقريب التي تكون قوية ومرنة.
على الرغم من إمكانية صنع الجلد الخام من أي نوع من جلود الحيوانات، إلا أنه يُفضل جلد الأبقار للعديد من الأسباب؛ حيث يظل محتفظاً بسماكة عند الجفاف. في حين أن جلد الأغنام والماعز الخام يجف مثل الرقاق، ولكن يمكن الحفاظ على معظم جلود الحيوانات قابلة للانحناء عن طريق "الدباغة" أو "التجليد". تمنع هذه العمليات الجلد من التصلب، وذلك بشكل أساسي عن طريق منع ألياف الكولاجين من الالتصاق ببعضها البعض، والتي يمكن بعد ذلك تزييتها عن طريق نقعها بالدهون مثل الشحوم أو البيض أو الزيوت المستحلبة. تشتهر هذه الصناعة بكونها ضارة و ذات روائح مزعجة وغالبًا ما تقع في عكس اتجاه الرياح من أي مناطق سكنية. تتضمن الدباغة عمومًا الكثير من عمليات الغسيل والنقع والكشط والتمديد والضرب والتعليق، وتشمل عوامل كيميائية قوية مثل الملح أو الجير المطفي، أو التخمير بواسطة الإنزيمات المُشتقَّة من النباتات مثل لحاء الأكاسيا، أو بول الحيوانات أو الروث، بالإضافة إلى تطبيق محاليل الدهون والتدخين والتلوين. تنطوي عملية الطهي على العديد من العوامل التي تعتمد على خصائص الجلد الأصلي، ويؤثر كل منها على جودة المنتج الجلدي النهائي.
جلد الأبقار كثيف وسميك ومرن أكثر من الجلد الخام، لكنه صلب وتصعب خياطته، بينما جلد الماعز والأغنام أرق وأسهل في التعامل، لكن جلد الماعز أكثر متانة ومرونة، مما يجعله مثاليًا لأحزمة الصنادل، إذ يحتفظ بشكله لفترة أطول. كان للنوبيين القدماء استخدامات محددة جدًا لجلود الحيوانات.
كان اختيار نوع الجلد المستخدم في هذه الاستخدامات دقيقًا ويعتمد على عدد من العوامل العملية والثقافية ذات الصلة. لإنتاج الجلد النوبي الفاخر منزوع الحبيبات، جربت الباحثة لوسي أنواعًا مختلفة من الجلود، بما في ذلك جلود الغزلان والأغنام والماعز، وتوصلت إلى أن الأغنام الصحراوية، التي تمتلك شعرًا خشنًا بدلًا من الصوف، كانت الأرجح أن تكون المصدر المستخدم في العصور القديمة. هذه السلالة لا تزال مفضلة في السودان اليوم، وكانت شائعة في النوبة القديمة.
اقتَرحت أن خبرة صنع الجلود التي طورها النوبيون القدماء يمكن أن ترتبط بتفضيلهم لرعي الأغنام بدلاً من الماعز، حيث تتناسب هذه الحيوانات بشكل أفضل مع نمط حياة شبه البدوية. الأغنام أسهل توجيهًا وأقل عرضة للتوهان، كما أنها لا تنافس الإنسان في غذائه بل تتغذى في الغالب على الأعشاب.
كان المناخ النوبي جافًا (وما زال كذلك) ويتناسب بشكل أفضل مع الرعي شبه البدوي أكثر من الزراعة المستقرة. كانت سلالات الحيوانات مثل الأغنام الصوفية مناسبة تمامًا لتلك البيئة الصحراوية. كانت الجلود المستخدمة في إنتاج الملابس الجلدية تعتبر منتجًا ثانويًا مريحًا بجانب الحليب واللحوم التي تنتجها الأغنام. أدت الأمطار القليلة المستمرة ودرجات الحرارة العالية في الصيف إلى أن معظم النوبيين لم يكونوا قادرين على زراعة المحاصيل الزراعية طوال العام حتى فترة مملكة مروى، عندما تم إدخال طرق الري. كانوا محدودين بشهور الشتاء، بعد الفيضانات السنوية للنيل. بدلاً من ذلك، كانوا ينتجون بعضًا من أفضل الأعمال الجلدية في العالم القديم.
المتحف الإثنوغرافي، بالخرطوم
كان لدى المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم مجموعة رائعة جدًا من المنتجات الجلدية التي تم جمعها على مدى القرون السابقة. كانت تروي قصصًا حقيقية عن الثقافة والبيئة، وكيف تغيرت ولا تزال تتغير، عبر السنين. وإن احتمال فقدانها لأمرٌ محزن.

تدعم البيئات الطبيعية في السودان، التي تعتمد على الأمطار، الكثير من أنواع الحيوانات، وقد كان ذلك لآلاف السنين. إنها تناسب الظروف المناخية شبه الجافة في الساحل لأن الحيوانات يمكن أن تنتقل بين المراعي الموسمية. اليوم، تتضمن هذه الأنواع أكثر من ١٠٠ مليون من الأبقار والجمال والأغنام والماعز، جميعها جيدة لإنتاج الجلد. يشمل التراث الحي في السودان دباغة الجلد وصناعاته الحرفية عبر معظم أرجاء البلاد. يمكنك رؤية مجموعة واسعة من منتجات الجلد في الأسواق، بما في ذلك صانعي الأحذية الذين ينتجون المركوب السوداني الشهير. هذا التراث هو أساس الصناعات الجلدية الحديثة في السودان، التي بدأت عام ١٩٤٥ مع إنشاء مصنع للدباغة ومصنع للأحذية في الخرطوم. ومع ذلك، هناك تحديات.


في عام ٢٠٢٢، تم التبرع بسرج جمل جلدي جميل وكامل بجميع ملحقاته إلى متحف شيكان في الأبيض. جاءت هذه المبادرة خلال ورشة عمل جمعت قادة المجتمع المحلي وممثلي المدينة، وكان الهدف منها إنشاء معرض بعنوان "التراث الأخضر" لدراسة تأثير تغير المناخ على الثقافة المحلية.
تم التبرع بالسرج من قبل حفيد مالكه، وهو أحد شيوخ المنطقة، حيث كانت عائلته قد تخلت عن مهنة الرعي. وبينما كنا نتأمل هذا السرج الرائع، تساءلنا عمّا إذا كان من الممكن صنع مثله اليوم. لم يُصنع هذا السرج للبيع، بل كان للاستخدام داخل سياق مجتمعي معين مرتبط بأسلوب حياة محدد.
وبما أننا كنا نعمل في مجال المتاحف، فقد أثار اهتمامنا البحث عن أمثلة قديمة لصناعة الجلود وأنماط الحياة المرتبطة بها. بالمقارنة مع الأحجار أو الفخار، فإن العثور على آثار الجلود القديمة وفهمها أمر صعب، إذ إنها، كغيرها من المواد العضوية، تتحلل وتعود إلى الأرض دون أن تترك أثرًا يُذكر. لكن في بعض الحالات النادرة، حيث تكون الظروف شديدة الجفاف، كما هو الحال في بعض المواقع في النوبة بشمال السودان، تبقى بعض الشظايا الجلدية محفوظة، وهي تروي لنا قصصًا شيقة للغاية.
صناعة الجلد في النوبة القديمة، شمال السودان
لقد استغرق استكشاف قصة الجلد النوبي القديم سنوات من البحث والتحليل المخبري للقِطَع المحفوظة بعناية في المتاحف، بالإضافة إلى التجارب العمليّة لمحاولة إعادة إنشاء العمليات التي تم بها صنعه. شملت الأبحاث الهامة للوسي سكينر (التي يستند إليها هذا المقال) زيارة ورشة دباغة تقليدية في الهواء الطلق في منطقة بالقرب أم درمان. على الرغم من أنها كانت تُعِدّ جلودًا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتنتج جلدًا رخيصًا للاستخدام المحلي، فإنها قدمت لمحة عن كيفية عمل ورشة الدباغة التقليدية. ومن الدروس المستفادة أن جميع المواد المستخدمة كانت من المنطقة المجاورة: الجير، قرون شجرة الأكاسيا، فضلات الحمام، قش الذرة، زيت السمسم.


معلوم أن المصريين القدماء كانوا يوقِّرون النوبيين باعتبارهم هم المتخصصين المتميزين في صناعة الجلود، وذلك لسبب وجيه. تخيل ارتداء ملابس جلدية فائقة النعومة، خفيفة ومرنة بشكل استثنائي، مثل أجود أنواع الجلد المدبوغ أو جلد الشامواه. وقد وُجدت هذه الملابس في مقابر نوبية للذكور والإناث، وشملت ملابس ذات ألواح مخيطة، وأوشحة، وملابس قصيرة، وملابس داخلية. والأكثر غرابة كانت الملابس المصنوعة من الجلد المثقوب. تم عمل صفوف من القطع المتوازية الصغيرة المتداخلة في صفائح الجلد، وعندما يتم سحب الجلد جانباً، فإنه يُشَكِّل بنية شَبَكِيَّة. وقد مكّن ذلك من صنع ملابس ضيقة مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس، حيث كانت أكثر مرونة وجيدة التهوية. تشير رسومات المقابر إلى أن الملابس الداخلية النوبية المثقوبة أصبحت مفضلة لدى المصريين، وخاصة أولئك الذين يعملون في الحقول أو يجدفون القوارب في العصر الفرعوني. كان الثوب متينًا ومريحًا في الحرارة، حيث كان يمتص العرق ويحافظ على برودة الجسم.
بجانب صناعة الملابس، استخدم النوبيون الجلود في العديد من المجالات الأخرى. فقد اشتهر رماة النوبة باستخدام واقيات ذراع سميكة مصنوعة من الجلد ومقوّسة لتناسب شكل المعصم، مما كان يحمي الساعد الداخلي من ارتداد وتر القوس أثناء الرماية. كما شملت الاستخدامات الأخرى للجلد جُعبات وحافظات، وأحزمة بأنواعها المختلفة، وأربطة الأدوات، وخيوط الأسرّة، وأغطية المدافن، وأحزمة الحيوانات، والأساور، والحقائب، والحاويات، والأكياس، وبالطبع الصنادل. كان كل غرض يُصنع من نوع معين من الجلد، سواء من حيث مصدر الحيوان أو العملية المستخدمة في تصنيعه.
كان النوبيون ماهرين في معالجة الجلود واستخدموها في العديد من الأغراض. كان الشكل الأساسي -الجلد الخام- يُستخدم في أي مكان تفتقر فيه البدائل النباتية إلى القوة. يتطلب الجلد الخام القليل جدًا من المعالجة بعد إزالة جلد الحيوان وكشط السطح الداخلي من الدهون واللحوم. يمكن إزالة الشعر من الجلد إما عن طريق تفكيكه بمحلول قلوي (محلول مصنوع من مستحلب رماد الخشب)، أو عن طريق "التعرق". وذلك بتركه في ظروف دافئة ورطبة لتحفيز تحلل السطح وتسهيل إزالة الشعر. نظرًا لأن هذه العملية تُضعف الجلد الخام، فقد يُترك الشعر لتحقيق أقصى قدر من القوة - حصائر الفراء هي مثال شائع. المرحلة التالية هي قطع الجلد الخام بينما لا يزال مرطبًا جزئيًا وقابلاً للانحناء. عندما يجف، يشتد وينكمش، وهي سمة مفيدة عند صنع أسرة العنقريب التي تكون قوية ومرنة.
على الرغم من إمكانية صنع الجلد الخام من أي نوع من جلود الحيوانات، إلا أنه يُفضل جلد الأبقار للعديد من الأسباب؛ حيث يظل محتفظاً بسماكة عند الجفاف. في حين أن جلد الأغنام والماعز الخام يجف مثل الرقاق، ولكن يمكن الحفاظ على معظم جلود الحيوانات قابلة للانحناء عن طريق "الدباغة" أو "التجليد". تمنع هذه العمليات الجلد من التصلب، وذلك بشكل أساسي عن طريق منع ألياف الكولاجين من الالتصاق ببعضها البعض، والتي يمكن بعد ذلك تزييتها عن طريق نقعها بالدهون مثل الشحوم أو البيض أو الزيوت المستحلبة. تشتهر هذه الصناعة بكونها ضارة و ذات روائح مزعجة وغالبًا ما تقع في عكس اتجاه الرياح من أي مناطق سكنية. تتضمن الدباغة عمومًا الكثير من عمليات الغسيل والنقع والكشط والتمديد والضرب والتعليق، وتشمل عوامل كيميائية قوية مثل الملح أو الجير المطفي، أو التخمير بواسطة الإنزيمات المُشتقَّة من النباتات مثل لحاء الأكاسيا، أو بول الحيوانات أو الروث، بالإضافة إلى تطبيق محاليل الدهون والتدخين والتلوين. تنطوي عملية الطهي على العديد من العوامل التي تعتمد على خصائص الجلد الأصلي، ويؤثر كل منها على جودة المنتج الجلدي النهائي.
جلد الأبقار كثيف وسميك ومرن أكثر من الجلد الخام، لكنه صلب وتصعب خياطته، بينما جلد الماعز والأغنام أرق وأسهل في التعامل، لكن جلد الماعز أكثر متانة ومرونة، مما يجعله مثاليًا لأحزمة الصنادل، إذ يحتفظ بشكله لفترة أطول. كان للنوبيين القدماء استخدامات محددة جدًا لجلود الحيوانات.
كان اختيار نوع الجلد المستخدم في هذه الاستخدامات دقيقًا ويعتمد على عدد من العوامل العملية والثقافية ذات الصلة. لإنتاج الجلد النوبي الفاخر منزوع الحبيبات، جربت الباحثة لوسي أنواعًا مختلفة من الجلود، بما في ذلك جلود الغزلان والأغنام والماعز، وتوصلت إلى أن الأغنام الصحراوية، التي تمتلك شعرًا خشنًا بدلًا من الصوف، كانت الأرجح أن تكون المصدر المستخدم في العصور القديمة. هذه السلالة لا تزال مفضلة في السودان اليوم، وكانت شائعة في النوبة القديمة.
اقتَرحت أن خبرة صنع الجلود التي طورها النوبيون القدماء يمكن أن ترتبط بتفضيلهم لرعي الأغنام بدلاً من الماعز، حيث تتناسب هذه الحيوانات بشكل أفضل مع نمط حياة شبه البدوية. الأغنام أسهل توجيهًا وأقل عرضة للتوهان، كما أنها لا تنافس الإنسان في غذائه بل تتغذى في الغالب على الأعشاب.
كان المناخ النوبي جافًا (وما زال كذلك) ويتناسب بشكل أفضل مع الرعي شبه البدوي أكثر من الزراعة المستقرة. كانت سلالات الحيوانات مثل الأغنام الصوفية مناسبة تمامًا لتلك البيئة الصحراوية. كانت الجلود المستخدمة في إنتاج الملابس الجلدية تعتبر منتجًا ثانويًا مريحًا بجانب الحليب واللحوم التي تنتجها الأغنام. أدت الأمطار القليلة المستمرة ودرجات الحرارة العالية في الصيف إلى أن معظم النوبيين لم يكونوا قادرين على زراعة المحاصيل الزراعية طوال العام حتى فترة مملكة مروى، عندما تم إدخال طرق الري. كانوا محدودين بشهور الشتاء، بعد الفيضانات السنوية للنيل. بدلاً من ذلك، كانوا ينتجون بعضًا من أفضل الأعمال الجلدية في العالم القديم.
المتحف الإثنوغرافي، بالخرطوم
كان لدى المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم مجموعة رائعة جدًا من المنتجات الجلدية التي تم جمعها على مدى القرون السابقة. كانت تروي قصصًا حقيقية عن الثقافة والبيئة، وكيف تغيرت ولا تزال تتغير، عبر السنين. وإن احتمال فقدانها لأمرٌ محزن.


تدعم البيئات الطبيعية في السودان، التي تعتمد على الأمطار، الكثير من أنواع الحيوانات، وقد كان ذلك لآلاف السنين. إنها تناسب الظروف المناخية شبه الجافة في الساحل لأن الحيوانات يمكن أن تنتقل بين المراعي الموسمية. اليوم، تتضمن هذه الأنواع أكثر من ١٠٠ مليون من الأبقار والجمال والأغنام والماعز، جميعها جيدة لإنتاج الجلد. يشمل التراث الحي في السودان دباغة الجلد وصناعاته الحرفية عبر معظم أرجاء البلاد. يمكنك رؤية مجموعة واسعة من منتجات الجلد في الأسواق، بما في ذلك صانعي الأحذية الذين ينتجون المركوب السوداني الشهير. هذا التراث هو أساس الصناعات الجلدية الحديثة في السودان، التي بدأت عام ١٩٤٥ مع إنشاء مصنع للدباغة ومصنع للأحذية في الخرطوم. ومع ذلك، هناك تحديات.


في عام ٢٠٢٢، تم التبرع بسرج جمل جلدي جميل وكامل بجميع ملحقاته إلى متحف شيكان في الأبيض. جاءت هذه المبادرة خلال ورشة عمل جمعت قادة المجتمع المحلي وممثلي المدينة، وكان الهدف منها إنشاء معرض بعنوان "التراث الأخضر" لدراسة تأثير تغير المناخ على الثقافة المحلية.
تم التبرع بالسرج من قبل حفيد مالكه، وهو أحد شيوخ المنطقة، حيث كانت عائلته قد تخلت عن مهنة الرعي. وبينما كنا نتأمل هذا السرج الرائع، تساءلنا عمّا إذا كان من الممكن صنع مثله اليوم. لم يُصنع هذا السرج للبيع، بل كان للاستخدام داخل سياق مجتمعي معين مرتبط بأسلوب حياة محدد.
وبما أننا كنا نعمل في مجال المتاحف، فقد أثار اهتمامنا البحث عن أمثلة قديمة لصناعة الجلود وأنماط الحياة المرتبطة بها. بالمقارنة مع الأحجار أو الفخار، فإن العثور على آثار الجلود القديمة وفهمها أمر صعب، إذ إنها، كغيرها من المواد العضوية، تتحلل وتعود إلى الأرض دون أن تترك أثرًا يُذكر. لكن في بعض الحالات النادرة، حيث تكون الظروف شديدة الجفاف، كما هو الحال في بعض المواقع في النوبة بشمال السودان، تبقى بعض الشظايا الجلدية محفوظة، وهي تروي لنا قصصًا شيقة للغاية.
صناعة الجلد في النوبة القديمة، شمال السودان
لقد استغرق استكشاف قصة الجلد النوبي القديم سنوات من البحث والتحليل المخبري للقِطَع المحفوظة بعناية في المتاحف، بالإضافة إلى التجارب العمليّة لمحاولة إعادة إنشاء العمليات التي تم بها صنعه. شملت الأبحاث الهامة للوسي سكينر (التي يستند إليها هذا المقال) زيارة ورشة دباغة تقليدية في الهواء الطلق في منطقة بالقرب أم درمان. على الرغم من أنها كانت تُعِدّ جلودًا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتنتج جلدًا رخيصًا للاستخدام المحلي، فإنها قدمت لمحة عن كيفية عمل ورشة الدباغة التقليدية. ومن الدروس المستفادة أن جميع المواد المستخدمة كانت من المنطقة المجاورة: الجير، قرون شجرة الأكاسيا، فضلات الحمام، قش الذرة، زيت السمسم.


معلوم أن المصريين القدماء كانوا يوقِّرون النوبيين باعتبارهم هم المتخصصين المتميزين في صناعة الجلود، وذلك لسبب وجيه. تخيل ارتداء ملابس جلدية فائقة النعومة، خفيفة ومرنة بشكل استثنائي، مثل أجود أنواع الجلد المدبوغ أو جلد الشامواه. وقد وُجدت هذه الملابس في مقابر نوبية للذكور والإناث، وشملت ملابس ذات ألواح مخيطة، وأوشحة، وملابس قصيرة، وملابس داخلية. والأكثر غرابة كانت الملابس المصنوعة من الجلد المثقوب. تم عمل صفوف من القطع المتوازية الصغيرة المتداخلة في صفائح الجلد، وعندما يتم سحب الجلد جانباً، فإنه يُشَكِّل بنية شَبَكِيَّة. وقد مكّن ذلك من صنع ملابس ضيقة مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس، حيث كانت أكثر مرونة وجيدة التهوية. تشير رسومات المقابر إلى أن الملابس الداخلية النوبية المثقوبة أصبحت مفضلة لدى المصريين، وخاصة أولئك الذين يعملون في الحقول أو يجدفون القوارب في العصر الفرعوني. كان الثوب متينًا ومريحًا في الحرارة، حيث كان يمتص العرق ويحافظ على برودة الجسم.
بجانب صناعة الملابس، استخدم النوبيون الجلود في العديد من المجالات الأخرى. فقد اشتهر رماة النوبة باستخدام واقيات ذراع سميكة مصنوعة من الجلد ومقوّسة لتناسب شكل المعصم، مما كان يحمي الساعد الداخلي من ارتداد وتر القوس أثناء الرماية. كما شملت الاستخدامات الأخرى للجلد جُعبات وحافظات، وأحزمة بأنواعها المختلفة، وأربطة الأدوات، وخيوط الأسرّة، وأغطية المدافن، وأحزمة الحيوانات، والأساور، والحقائب، والحاويات، والأكياس، وبالطبع الصنادل. كان كل غرض يُصنع من نوع معين من الجلد، سواء من حيث مصدر الحيوان أو العملية المستخدمة في تصنيعه.
كان النوبيون ماهرين في معالجة الجلود واستخدموها في العديد من الأغراض. كان الشكل الأساسي -الجلد الخام- يُستخدم في أي مكان تفتقر فيه البدائل النباتية إلى القوة. يتطلب الجلد الخام القليل جدًا من المعالجة بعد إزالة جلد الحيوان وكشط السطح الداخلي من الدهون واللحوم. يمكن إزالة الشعر من الجلد إما عن طريق تفكيكه بمحلول قلوي (محلول مصنوع من مستحلب رماد الخشب)، أو عن طريق "التعرق". وذلك بتركه في ظروف دافئة ورطبة لتحفيز تحلل السطح وتسهيل إزالة الشعر. نظرًا لأن هذه العملية تُضعف الجلد الخام، فقد يُترك الشعر لتحقيق أقصى قدر من القوة - حصائر الفراء هي مثال شائع. المرحلة التالية هي قطع الجلد الخام بينما لا يزال مرطبًا جزئيًا وقابلاً للانحناء. عندما يجف، يشتد وينكمش، وهي سمة مفيدة عند صنع أسرة العنقريب التي تكون قوية ومرنة.
على الرغم من إمكانية صنع الجلد الخام من أي نوع من جلود الحيوانات، إلا أنه يُفضل جلد الأبقار للعديد من الأسباب؛ حيث يظل محتفظاً بسماكة عند الجفاف. في حين أن جلد الأغنام والماعز الخام يجف مثل الرقاق، ولكن يمكن الحفاظ على معظم جلود الحيوانات قابلة للانحناء عن طريق "الدباغة" أو "التجليد". تمنع هذه العمليات الجلد من التصلب، وذلك بشكل أساسي عن طريق منع ألياف الكولاجين من الالتصاق ببعضها البعض، والتي يمكن بعد ذلك تزييتها عن طريق نقعها بالدهون مثل الشحوم أو البيض أو الزيوت المستحلبة. تشتهر هذه الصناعة بكونها ضارة و ذات روائح مزعجة وغالبًا ما تقع في عكس اتجاه الرياح من أي مناطق سكنية. تتضمن الدباغة عمومًا الكثير من عمليات الغسيل والنقع والكشط والتمديد والضرب والتعليق، وتشمل عوامل كيميائية قوية مثل الملح أو الجير المطفي، أو التخمير بواسطة الإنزيمات المُشتقَّة من النباتات مثل لحاء الأكاسيا، أو بول الحيوانات أو الروث، بالإضافة إلى تطبيق محاليل الدهون والتدخين والتلوين. تنطوي عملية الطهي على العديد من العوامل التي تعتمد على خصائص الجلد الأصلي، ويؤثر كل منها على جودة المنتج الجلدي النهائي.
جلد الأبقار كثيف وسميك ومرن أكثر من الجلد الخام، لكنه صلب وتصعب خياطته، بينما جلد الماعز والأغنام أرق وأسهل في التعامل، لكن جلد الماعز أكثر متانة ومرونة، مما يجعله مثاليًا لأحزمة الصنادل، إذ يحتفظ بشكله لفترة أطول. كان للنوبيين القدماء استخدامات محددة جدًا لجلود الحيوانات.
كان اختيار نوع الجلد المستخدم في هذه الاستخدامات دقيقًا ويعتمد على عدد من العوامل العملية والثقافية ذات الصلة. لإنتاج الجلد النوبي الفاخر منزوع الحبيبات، جربت الباحثة لوسي أنواعًا مختلفة من الجلود، بما في ذلك جلود الغزلان والأغنام والماعز، وتوصلت إلى أن الأغنام الصحراوية، التي تمتلك شعرًا خشنًا بدلًا من الصوف، كانت الأرجح أن تكون المصدر المستخدم في العصور القديمة. هذه السلالة لا تزال مفضلة في السودان اليوم، وكانت شائعة في النوبة القديمة.
اقتَرحت أن خبرة صنع الجلود التي طورها النوبيون القدماء يمكن أن ترتبط بتفضيلهم لرعي الأغنام بدلاً من الماعز، حيث تتناسب هذه الحيوانات بشكل أفضل مع نمط حياة شبه البدوية. الأغنام أسهل توجيهًا وأقل عرضة للتوهان، كما أنها لا تنافس الإنسان في غذائه بل تتغذى في الغالب على الأعشاب.
كان المناخ النوبي جافًا (وما زال كذلك) ويتناسب بشكل أفضل مع الرعي شبه البدوي أكثر من الزراعة المستقرة. كانت سلالات الحيوانات مثل الأغنام الصوفية مناسبة تمامًا لتلك البيئة الصحراوية. كانت الجلود المستخدمة في إنتاج الملابس الجلدية تعتبر منتجًا ثانويًا مريحًا بجانب الحليب واللحوم التي تنتجها الأغنام. أدت الأمطار القليلة المستمرة ودرجات الحرارة العالية في الصيف إلى أن معظم النوبيين لم يكونوا قادرين على زراعة المحاصيل الزراعية طوال العام حتى فترة مملكة مروى، عندما تم إدخال طرق الري. كانوا محدودين بشهور الشتاء، بعد الفيضانات السنوية للنيل. بدلاً من ذلك، كانوا ينتجون بعضًا من أفضل الأعمال الجلدية في العالم القديم.
المتحف الإثنوغرافي، بالخرطوم
كان لدى المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم مجموعة رائعة جدًا من المنتجات الجلدية التي تم جمعها على مدى القرون السابقة. كانت تروي قصصًا حقيقية عن الثقافة والبيئة، وكيف تغيرت ولا تزال تتغير، عبر السنين. وإن احتمال فقدانها لأمرٌ محزن.


سرج الجمل

سرج الجمل
هو أداة تقليدية تُصنع من عيدان الأشجار الصلبة مثل المهوقني والحميض والجوغان. يتكون من ثلاث قطع وهي: الجالسة، القائم، والضلفة. يُجلد بجلد الأبقار أو الإبل ويوضع على سنام الجمل بغرض توفير ركوب مريح. يُرصّع بالكباسين والأبزيم لأغراض تجميلية. هذا السرج من إنتاج مجتمع الأبالة.
تم بيعه لمتحف شيكان من قبل صالح الجلخ.
هو أداة تقليدية تُصنع من عيدان الأشجار الصلبة مثل المهوقني والحميض والجوغان. يتكون من ثلاث قطع وهي: الجالسة، القائم، والضلفة. يُجلد بجلد الأبقار أو الإبل ويوضع على سنام الجمل بغرض توفير ركوب مريح. يُرصّع بالكباسين والأبزيم لأغراض تجميلية. هذا السرج من إنتاج مجتمع الأبالة.
تم بيعه لمتحف شيكان من قبل صالح الجلخ.

هو أداة تقليدية تُصنع من عيدان الأشجار الصلبة مثل المهوقني والحميض والجوغان. يتكون من ثلاث قطع وهي: الجالسة، القائم، والضلفة. يُجلد بجلد الأبقار أو الإبل ويوضع على سنام الجمل بغرض توفير ركوب مريح. يُرصّع بالكباسين والأبزيم لأغراض تجميلية. هذا السرج من إنتاج مجتمع الأبالة.
تم بيعه لمتحف شيكان من قبل صالح الجلخ.
صانِعَة السعف
صانِعَة السعف
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور

تمثال ضفدع

تمثال ضفدع
تمثال ضفدع برونزي، حصلت عليه مصلحة الآثار، ١٩٥٩-١٩٦٠.
يشبه هذا تمثال ضفدع أكبر حجمًا من الحجر، وهو رمز لإلهة الماء هيكت المرتبطة بالمراحل الأخيرة من فيضان النيل. هيكت معروفة منذ ٥٠٠٠ عام في مصر. في السودان، كانت تمائم الضفادع رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة والحظ السعيد. كانت الضفادع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدورة الكلية لفيضانات النيل ومصادر المياه الأخرى. ود بانقا. فترة مروي.
مجموعة متحف شيكان
SHM-00062/9/30
تمثال ضفدع برونزي، حصلت عليه مصلحة الآثار، ١٩٥٩-١٩٦٠.
يشبه هذا تمثال ضفدع أكبر حجمًا من الحجر، وهو رمز لإلهة الماء هيكت المرتبطة بالمراحل الأخيرة من فيضان النيل. هيكت معروفة منذ ٥٠٠٠ عام في مصر. في السودان، كانت تمائم الضفادع رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة والحظ السعيد. كانت الضفادع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدورة الكلية لفيضانات النيل ومصادر المياه الأخرى. ود بانقا. فترة مروي.
مجموعة متحف شيكان
SHM-00062/9/30

تمثال ضفدع برونزي، حصلت عليه مصلحة الآثار، ١٩٥٩-١٩٦٠.
يشبه هذا تمثال ضفدع أكبر حجمًا من الحجر، وهو رمز لإلهة الماء هيكت المرتبطة بالمراحل الأخيرة من فيضان النيل. هيكت معروفة منذ ٥٠٠٠ عام في مصر. في السودان، كانت تمائم الضفادع رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة والحظ السعيد. كانت الضفادع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدورة الكلية لفيضانات النيل ومصادر المياه الأخرى. ود بانقا. فترة مروي.
مجموعة متحف شيكان
SHM-00062/9/30
المناظر الطبيعية المأهولة
قام الناس في منطقة السودان بإعادة تنظيم الطبيعة لتناسب احتياجاتهم منذ زمن بعيد. تطورت علاقتهم بالطبيعة على مدى فترة طويلة جدًا. تغيرت المناظر الطبيعية وفقدت بعضها بسبب الصراعات والتغير المناخي، بالإضافة إلى الإدارة غير الرشيدة. يستكشف هذا الموضوع مناهج مختلفة لإعادة تنظيم الطبيعة.

نموذج الجُبرَاكة الزراعي

نموذج الجُبرَاكة الزراعي
الجبراكة -وجمعها جباريك- هو مصطلح من غرب السودان، ويُعدّ من المُمَارسات الزراعية التقليدية التي تُشَكِّل جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات الريفية في مناطق غرب السودان.
إنها نموذج للزراعة المنزلية أو الزراعة على نطاق صغير، تعتمد على قطع أراضٍ صغيرة تُحيط بالمنازل أو داخل القرى، حيث تَزرع العائلات مجموعة متنوعة من المحاصيل لتلبية احتياجاتها الغذائية ودعم الاقتصاد المحلي. تُشير كلمة جبراكة إلى قطع الأراضي الزراعية الصغيرة، حيث تُزرع محاصيل متنوّعة مثل الدخن، والذرة، والسمسم، والفول السوداني، إلى جانب مجموعة متنوعة من الخضروات. يعتمد سكان غرب السودان، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، على الجبراكة كمصدر أساسي للغذاء.
تلعب المرأة دوراً محورياً في هذا النشاط الزراعي؛ حيث تقوم بتحضير الأرض وزراعتها ثم حصادها، لذلك يعتمد هذا النموذج على جهود المرأة بصورة كبيرة، وهي تقوم بدورها في الجبراكة بالتوازي والتوازن مع مسؤليَّاتها الأسرية الأخرى. تُعزِّز هذه الأنشطة الزراعية من مكانة المرأة في المجتمع لما تُساهم به في تعزيز الأمن الغذائي لكلٍّ من الأسرة والمجتمع المحلي. علاوة على تعزيز مستواهنّ المعيشي من خلال بيع فائض المحاصيل في الأسواق المحلية، مما يدعم دخل الأسرة ويُعزِّز استقلالهنّ الاقتصادي، ذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية لدى الأسرة نتيجة لهذا الدور الهام الذي تؤديه النساء.
تتنوَّّع المحاصيل المزروعة في الجبراكة، وتَشمل الحبوب مثل الدخن والذرة التي تُعد من الأطعمة الأساسية للسكان في المنطقة. كما تُزرع محاصيل الزيوت مثل السمسم والفول السوداني، مما يوفر زيوتاً طبيعية وبروتينات أساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزرع الخضروات مثل البامية والطماطم والبصل والخيار وورقيات السلطة، مما يضيف تنوعاً إلى النظام الغذائي ويساعد في تحسين التغذية. علاوة على ذلك، ترتبط الجبراكة بالقيم الاجتماعية والثقافية في غرب السودان، ممثلةً جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية؛ فالجبراكة ليست فقط نشاطاً زراعياً لتوفير الغذاء، بل يُساهم أيضاً في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال التعاون بين أفراد العائلة والمجتمع في مختلف أنشطة الزراعة.
على الرغم من الأهمية الكبيرة للجبراكة في غرب السودان، فقد واجه هذا الشكل التقليدي من الزراعة، على مرّ السنين، العديد من التحديات. واحدة من أبرز المشكلات هي التغيّر المناخي، الذي يؤثر سلباً على أنماط هطول الأمطار ومحاصيل الزراعة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وزيادة الفقر في المناطق الريفية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجبراكة من نقص الموارد الزراعية مثل الأدوات والأسمدة، مما يحد من إنتاجيتها. أدت النزاعات المسلحة السابقة في غرب السودان، مثل تلك التي شهدتها دارفور، إلى نزوح العديد من الناس وتدمير الأراضي الزراعية، مما أثَّر بشكل مباشر على استدامة واستمرار زراعة الجبراكة.
وبالرغم من ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي ويستفيد من الموارد الطبيعية المتاحة، يساعد على ضمان الأمن الغذائي للسكان المحليين ويقلِّل من اعتمادهم على الأسواق الخارجية أو المساعدات الغذائية. خلال أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو النزاعات، تلعب الجُبراكة دوراً حاسماً في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للعائلات والمجتمعات. اليوم، وفي ضوء الحرب المدمرة المستمرة، يتم اعتماد نموذج الجبراكة لزراعة الخضروات والحبوب في جميع أنحاء السودان حيثما تتوفر الأراضي والمياه. وقد شارك السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لحدائقهم وساحاتهم وأراضيهم الفارغة التي تتم حراثتها استعداداً لاستخدامها في الزراعة. وتعرض صور الخضروات التي تم حصادها بفخر وتمثل أعمالًا صغيرة من الصمود في مواجهة نقص الغذاء وارتفاع تكلفة السلع الأساسية.
صورة الغلاف: زراعة الفول السوداني – بداية موسم الخريف واستعداد المزارعين له، قرية النزل، ولاية النيل الأبيض © الفاضل حامد
صور المعرض: جبراكة في الأبيض، شمال كردفان ٢٠٢٤© أماني بشير
الجبراكة -وجمعها جباريك- هو مصطلح من غرب السودان، ويُعدّ من المُمَارسات الزراعية التقليدية التي تُشَكِّل جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات الريفية في مناطق غرب السودان.
إنها نموذج للزراعة المنزلية أو الزراعة على نطاق صغير، تعتمد على قطع أراضٍ صغيرة تُحيط بالمنازل أو داخل القرى، حيث تَزرع العائلات مجموعة متنوعة من المحاصيل لتلبية احتياجاتها الغذائية ودعم الاقتصاد المحلي. تُشير كلمة جبراكة إلى قطع الأراضي الزراعية الصغيرة، حيث تُزرع محاصيل متنوّعة مثل الدخن، والذرة، والسمسم، والفول السوداني، إلى جانب مجموعة متنوعة من الخضروات. يعتمد سكان غرب السودان، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، على الجبراكة كمصدر أساسي للغذاء.
تلعب المرأة دوراً محورياً في هذا النشاط الزراعي؛ حيث تقوم بتحضير الأرض وزراعتها ثم حصادها، لذلك يعتمد هذا النموذج على جهود المرأة بصورة كبيرة، وهي تقوم بدورها في الجبراكة بالتوازي والتوازن مع مسؤليَّاتها الأسرية الأخرى. تُعزِّز هذه الأنشطة الزراعية من مكانة المرأة في المجتمع لما تُساهم به في تعزيز الأمن الغذائي لكلٍّ من الأسرة والمجتمع المحلي. علاوة على تعزيز مستواهنّ المعيشي من خلال بيع فائض المحاصيل في الأسواق المحلية، مما يدعم دخل الأسرة ويُعزِّز استقلالهنّ الاقتصادي، ذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية لدى الأسرة نتيجة لهذا الدور الهام الذي تؤديه النساء.
تتنوَّّع المحاصيل المزروعة في الجبراكة، وتَشمل الحبوب مثل الدخن والذرة التي تُعد من الأطعمة الأساسية للسكان في المنطقة. كما تُزرع محاصيل الزيوت مثل السمسم والفول السوداني، مما يوفر زيوتاً طبيعية وبروتينات أساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزرع الخضروات مثل البامية والطماطم والبصل والخيار وورقيات السلطة، مما يضيف تنوعاً إلى النظام الغذائي ويساعد في تحسين التغذية. علاوة على ذلك، ترتبط الجبراكة بالقيم الاجتماعية والثقافية في غرب السودان، ممثلةً جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية؛ فالجبراكة ليست فقط نشاطاً زراعياً لتوفير الغذاء، بل يُساهم أيضاً في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال التعاون بين أفراد العائلة والمجتمع في مختلف أنشطة الزراعة.
على الرغم من الأهمية الكبيرة للجبراكة في غرب السودان، فقد واجه هذا الشكل التقليدي من الزراعة، على مرّ السنين، العديد من التحديات. واحدة من أبرز المشكلات هي التغيّر المناخي، الذي يؤثر سلباً على أنماط هطول الأمطار ومحاصيل الزراعة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وزيادة الفقر في المناطق الريفية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجبراكة من نقص الموارد الزراعية مثل الأدوات والأسمدة، مما يحد من إنتاجيتها. أدت النزاعات المسلحة السابقة في غرب السودان، مثل تلك التي شهدتها دارفور، إلى نزوح العديد من الناس وتدمير الأراضي الزراعية، مما أثَّر بشكل مباشر على استدامة واستمرار زراعة الجبراكة.
وبالرغم من ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي ويستفيد من الموارد الطبيعية المتاحة، يساعد على ضمان الأمن الغذائي للسكان المحليين ويقلِّل من اعتمادهم على الأسواق الخارجية أو المساعدات الغذائية. خلال أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو النزاعات، تلعب الجُبراكة دوراً حاسماً في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للعائلات والمجتمعات. اليوم، وفي ضوء الحرب المدمرة المستمرة، يتم اعتماد نموذج الجبراكة لزراعة الخضروات والحبوب في جميع أنحاء السودان حيثما تتوفر الأراضي والمياه. وقد شارك السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لحدائقهم وساحاتهم وأراضيهم الفارغة التي تتم حراثتها استعداداً لاستخدامها في الزراعة. وتعرض صور الخضروات التي تم حصادها بفخر وتمثل أعمالًا صغيرة من الصمود في مواجهة نقص الغذاء وارتفاع تكلفة السلع الأساسية.
صورة الغلاف: زراعة الفول السوداني – بداية موسم الخريف واستعداد المزارعين له، قرية النزل، ولاية النيل الأبيض © الفاضل حامد
صور المعرض: جبراكة في الأبيض، شمال كردفان ٢٠٢٤© أماني بشير

الجبراكة -وجمعها جباريك- هو مصطلح من غرب السودان، ويُعدّ من المُمَارسات الزراعية التقليدية التي تُشَكِّل جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات الريفية في مناطق غرب السودان.
إنها نموذج للزراعة المنزلية أو الزراعة على نطاق صغير، تعتمد على قطع أراضٍ صغيرة تُحيط بالمنازل أو داخل القرى، حيث تَزرع العائلات مجموعة متنوعة من المحاصيل لتلبية احتياجاتها الغذائية ودعم الاقتصاد المحلي. تُشير كلمة جبراكة إلى قطع الأراضي الزراعية الصغيرة، حيث تُزرع محاصيل متنوّعة مثل الدخن، والذرة، والسمسم، والفول السوداني، إلى جانب مجموعة متنوعة من الخضروات. يعتمد سكان غرب السودان، خاصة في مناطق مثل دارفور وكردفان، على الجبراكة كمصدر أساسي للغذاء.
تلعب المرأة دوراً محورياً في هذا النشاط الزراعي؛ حيث تقوم بتحضير الأرض وزراعتها ثم حصادها، لذلك يعتمد هذا النموذج على جهود المرأة بصورة كبيرة، وهي تقوم بدورها في الجبراكة بالتوازي والتوازن مع مسؤليَّاتها الأسرية الأخرى. تُعزِّز هذه الأنشطة الزراعية من مكانة المرأة في المجتمع لما تُساهم به في تعزيز الأمن الغذائي لكلٍّ من الأسرة والمجتمع المحلي. علاوة على تعزيز مستواهنّ المعيشي من خلال بيع فائض المحاصيل في الأسواق المحلية، مما يدعم دخل الأسرة ويُعزِّز استقلالهنّ الاقتصادي، ذلك يؤدي بطبيعة الحال إلى تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية لدى الأسرة نتيجة لهذا الدور الهام الذي تؤديه النساء.
تتنوَّّع المحاصيل المزروعة في الجبراكة، وتَشمل الحبوب مثل الدخن والذرة التي تُعد من الأطعمة الأساسية للسكان في المنطقة. كما تُزرع محاصيل الزيوت مثل السمسم والفول السوداني، مما يوفر زيوتاً طبيعية وبروتينات أساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزرع الخضروات مثل البامية والطماطم والبصل والخيار وورقيات السلطة، مما يضيف تنوعاً إلى النظام الغذائي ويساعد في تحسين التغذية. علاوة على ذلك، ترتبط الجبراكة بالقيم الاجتماعية والثقافية في غرب السودان، ممثلةً جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية؛ فالجبراكة ليست فقط نشاطاً زراعياً لتوفير الغذاء، بل يُساهم أيضاً في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال التعاون بين أفراد العائلة والمجتمع في مختلف أنشطة الزراعة.
على الرغم من الأهمية الكبيرة للجبراكة في غرب السودان، فقد واجه هذا الشكل التقليدي من الزراعة، على مرّ السنين، العديد من التحديات. واحدة من أبرز المشكلات هي التغيّر المناخي، الذي يؤثر سلباً على أنماط هطول الأمطار ومحاصيل الزراعة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وزيادة الفقر في المناطق الريفية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجبراكة من نقص الموارد الزراعية مثل الأدوات والأسمدة، مما يحد من إنتاجيتها. أدت النزاعات المسلحة السابقة في غرب السودان، مثل تلك التي شهدتها دارفور، إلى نزوح العديد من الناس وتدمير الأراضي الزراعية، مما أثَّر بشكل مباشر على استدامة واستمرار زراعة الجبراكة.
وبالرغم من ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي ويستفيد من الموارد الطبيعية المتاحة، يساعد على ضمان الأمن الغذائي للسكان المحليين ويقلِّل من اعتمادهم على الأسواق الخارجية أو المساعدات الغذائية. خلال أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو النزاعات، تلعب الجُبراكة دوراً حاسماً في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للعائلات والمجتمعات. اليوم، وفي ضوء الحرب المدمرة المستمرة، يتم اعتماد نموذج الجبراكة لزراعة الخضروات والحبوب في جميع أنحاء السودان حيثما تتوفر الأراضي والمياه. وقد شارك السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لحدائقهم وساحاتهم وأراضيهم الفارغة التي تتم حراثتها استعداداً لاستخدامها في الزراعة. وتعرض صور الخضروات التي تم حصادها بفخر وتمثل أعمالًا صغيرة من الصمود في مواجهة نقص الغذاء وارتفاع تكلفة السلع الأساسية.
صورة الغلاف: زراعة الفول السوداني – بداية موسم الخريف واستعداد المزارعين له، قرية النزل، ولاية النيل الأبيض © الفاضل حامد
صور المعرض: جبراكة في الأبيض، شمال كردفان ٢٠٢٤© أماني بشير

التغيُّر المناخي والنزاعات

التغيُّر المناخي والنزاعات
يلعب زعماء الإدارات الأهلية والجماعات المحلية اليوم أدواراً مهمة في الحفاظ على البيئة. حيث يعملون على نشر العادات المحلية التي تحمي البيئة، ويطبقون القوانين التشريعية لحماية الموارد الطبيعية مثل الغابات والمراعي، ويخطِّطون لاستخدام الأراضي الزراعية وممرات الحيوانات كمناطق حماية من الحرائق. ومع ذلك، فقد تصاعدت المنافسة على الموارد في السنوات الأخيرة. أصبحت الآليات التقليدية التي كانت موجودة سابقاً لحل النزاعات - مثل الزيجات المشتركة بين القبائل المجاورة لتعزيز التعايش السلمي - متوترة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سكان السودان يزدادون شباباً وتمدناً. إحدى مجالات الحياة العامة التي كانت النساء منخرطات فيها بعمق، رغم قلة الاعتراف الرسمي، هي تعزيز السلام على المستويين الوطني والمجتمعي.
يؤثر التغير المناخي والنزاعات طويلة الأمد على البيئة سلبياً بطرق متشابهة تقريباً؛ فكلاهما يؤديان إلى تدهور الموارد الطبيعية مما يؤدي تلقائياً الى تأثر حياة الناس و قدرتهم على البقاء. الفقر والبيئة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا - فحرمان الإنسان وتدهور البيئة يعزّزان بعضهما البعض. تتفاقم القضايا البيئية بسبب التخطيط الحضري غير الكافي، ونقص القوانين للشركات والصناعات، مما يؤدي إلى مساهمتها في التلوث وتدهور البيئة.
تراث السودان الثقافي مُهدَّد من قوى متعددة، بما في ذلك تغير المناخ. في جميع أنحاء العالم، يجعل تغير المناخ والاحتباس الحراري أساليب الحياة التقليدية مهددة بشكل متزايد. تلعب الثقافة المادية وممارسات التراث الحي والمعرفة التقليدية والأطر الثقافية دورًا حيويًا في مساعدة المجتمعات على التكيّف مع المناخات القاسية وغير المتوقعة. ومع ذلك، فإن هذه التقاليد الغنية مهدّدة بدورها بالتحديات غير المسبوقة لتغيُّر المناخ. تعمل المتاحف كمؤسسات يتم من خلالها الحفاظ على التراث للأجيال القادمة، ولها دور في مساعدة المجتمعات على فهم آثار تغير المناخ وتقدير قيمة تقاليدهم التراثية للتكيُّف مع المناخ.
لم يتم دمج التعليم البيئي بالكامل بعد في نظام التعليم الرسمي في السودان. في عام ٢٠٢٢ قام مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية، كجزء من الجهود لحماية التراث السوداني، بتطوير برنامج التراث الأخضر بتمويل من صندوق حماية التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني. وقد زادت هذه المبادرة الوعي حول آثار تغير المناخ على المجتمعات في السودان وتأثيره على التراث المادي واللامادي. شمل البرنامج سلسلة من ورش العمل في المتاحف الثلاثة، ودراسة حول تأثير تغير المناخ على الثقافة اللامادية للرحل في كردفان، واستطلاع رئيسي للمعالم في دارفور لتقييم آثار تغير المناخ على تراث المنطقة. تم إجراء الاستطلاع من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومعهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة في جامعة الخرطوم، وقسم تراث دارفور في جامعة نيالا؛ حيث غطى الاستطلاع ١٨٠ كم، ووثق ١٢ موقعًا رئيسيًا للتراث في تلال فرنج، وتاجابو، وميدوب.
اختُتم المشروع بإقامة معارض مجتمعية في المتاحف الثلاثة، مما وفَّر مساحات تجمع بين مختلف المجتمعات للاحتفال بتراثها الفريد والمشترك، والاستمتاع به، والتعلم منه - سواء في الوقت الحاضر أو للأجيال القادمة.
يلعب زعماء الإدارات الأهلية والجماعات المحلية اليوم أدواراً مهمة في الحفاظ على البيئة. حيث يعملون على نشر العادات المحلية التي تحمي البيئة، ويطبقون القوانين التشريعية لحماية الموارد الطبيعية مثل الغابات والمراعي، ويخطِّطون لاستخدام الأراضي الزراعية وممرات الحيوانات كمناطق حماية من الحرائق. ومع ذلك، فقد تصاعدت المنافسة على الموارد في السنوات الأخيرة. أصبحت الآليات التقليدية التي كانت موجودة سابقاً لحل النزاعات - مثل الزيجات المشتركة بين القبائل المجاورة لتعزيز التعايش السلمي - متوترة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سكان السودان يزدادون شباباً وتمدناً. إحدى مجالات الحياة العامة التي كانت النساء منخرطات فيها بعمق، رغم قلة الاعتراف الرسمي، هي تعزيز السلام على المستويين الوطني والمجتمعي.
يؤثر التغير المناخي والنزاعات طويلة الأمد على البيئة سلبياً بطرق متشابهة تقريباً؛ فكلاهما يؤديان إلى تدهور الموارد الطبيعية مما يؤدي تلقائياً الى تأثر حياة الناس و قدرتهم على البقاء. الفقر والبيئة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا - فحرمان الإنسان وتدهور البيئة يعزّزان بعضهما البعض. تتفاقم القضايا البيئية بسبب التخطيط الحضري غير الكافي، ونقص القوانين للشركات والصناعات، مما يؤدي إلى مساهمتها في التلوث وتدهور البيئة.
تراث السودان الثقافي مُهدَّد من قوى متعددة، بما في ذلك تغير المناخ. في جميع أنحاء العالم، يجعل تغير المناخ والاحتباس الحراري أساليب الحياة التقليدية مهددة بشكل متزايد. تلعب الثقافة المادية وممارسات التراث الحي والمعرفة التقليدية والأطر الثقافية دورًا حيويًا في مساعدة المجتمعات على التكيّف مع المناخات القاسية وغير المتوقعة. ومع ذلك، فإن هذه التقاليد الغنية مهدّدة بدورها بالتحديات غير المسبوقة لتغيُّر المناخ. تعمل المتاحف كمؤسسات يتم من خلالها الحفاظ على التراث للأجيال القادمة، ولها دور في مساعدة المجتمعات على فهم آثار تغير المناخ وتقدير قيمة تقاليدهم التراثية للتكيُّف مع المناخ.
لم يتم دمج التعليم البيئي بالكامل بعد في نظام التعليم الرسمي في السودان. في عام ٢٠٢٢ قام مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية، كجزء من الجهود لحماية التراث السوداني، بتطوير برنامج التراث الأخضر بتمويل من صندوق حماية التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني. وقد زادت هذه المبادرة الوعي حول آثار تغير المناخ على المجتمعات في السودان وتأثيره على التراث المادي واللامادي. شمل البرنامج سلسلة من ورش العمل في المتاحف الثلاثة، ودراسة حول تأثير تغير المناخ على الثقافة اللامادية للرحل في كردفان، واستطلاع رئيسي للمعالم في دارفور لتقييم آثار تغير المناخ على تراث المنطقة. تم إجراء الاستطلاع من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومعهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة في جامعة الخرطوم، وقسم تراث دارفور في جامعة نيالا؛ حيث غطى الاستطلاع ١٨٠ كم، ووثق ١٢ موقعًا رئيسيًا للتراث في تلال فرنج، وتاجابو، وميدوب.
اختُتم المشروع بإقامة معارض مجتمعية في المتاحف الثلاثة، مما وفَّر مساحات تجمع بين مختلف المجتمعات للاحتفال بتراثها الفريد والمشترك، والاستمتاع به، والتعلم منه - سواء في الوقت الحاضر أو للأجيال القادمة.

يلعب زعماء الإدارات الأهلية والجماعات المحلية اليوم أدواراً مهمة في الحفاظ على البيئة. حيث يعملون على نشر العادات المحلية التي تحمي البيئة، ويطبقون القوانين التشريعية لحماية الموارد الطبيعية مثل الغابات والمراعي، ويخطِّطون لاستخدام الأراضي الزراعية وممرات الحيوانات كمناطق حماية من الحرائق. ومع ذلك، فقد تصاعدت المنافسة على الموارد في السنوات الأخيرة. أصبحت الآليات التقليدية التي كانت موجودة سابقاً لحل النزاعات - مثل الزيجات المشتركة بين القبائل المجاورة لتعزيز التعايش السلمي - متوترة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سكان السودان يزدادون شباباً وتمدناً. إحدى مجالات الحياة العامة التي كانت النساء منخرطات فيها بعمق، رغم قلة الاعتراف الرسمي، هي تعزيز السلام على المستويين الوطني والمجتمعي.
يؤثر التغير المناخي والنزاعات طويلة الأمد على البيئة سلبياً بطرق متشابهة تقريباً؛ فكلاهما يؤديان إلى تدهور الموارد الطبيعية مما يؤدي تلقائياً الى تأثر حياة الناس و قدرتهم على البقاء. الفقر والبيئة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا - فحرمان الإنسان وتدهور البيئة يعزّزان بعضهما البعض. تتفاقم القضايا البيئية بسبب التخطيط الحضري غير الكافي، ونقص القوانين للشركات والصناعات، مما يؤدي إلى مساهمتها في التلوث وتدهور البيئة.
تراث السودان الثقافي مُهدَّد من قوى متعددة، بما في ذلك تغير المناخ. في جميع أنحاء العالم، يجعل تغير المناخ والاحتباس الحراري أساليب الحياة التقليدية مهددة بشكل متزايد. تلعب الثقافة المادية وممارسات التراث الحي والمعرفة التقليدية والأطر الثقافية دورًا حيويًا في مساعدة المجتمعات على التكيّف مع المناخات القاسية وغير المتوقعة. ومع ذلك، فإن هذه التقاليد الغنية مهدّدة بدورها بالتحديات غير المسبوقة لتغيُّر المناخ. تعمل المتاحف كمؤسسات يتم من خلالها الحفاظ على التراث للأجيال القادمة، ولها دور في مساعدة المجتمعات على فهم آثار تغير المناخ وتقدير قيمة تقاليدهم التراثية للتكيُّف مع المناخ.
لم يتم دمج التعليم البيئي بالكامل بعد في نظام التعليم الرسمي في السودان. في عام ٢٠٢٢ قام مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية، كجزء من الجهود لحماية التراث السوداني، بتطوير برنامج التراث الأخضر بتمويل من صندوق حماية التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني. وقد زادت هذه المبادرة الوعي حول آثار تغير المناخ على المجتمعات في السودان وتأثيره على التراث المادي واللامادي. شمل البرنامج سلسلة من ورش العمل في المتاحف الثلاثة، ودراسة حول تأثير تغير المناخ على الثقافة اللامادية للرحل في كردفان، واستطلاع رئيسي للمعالم في دارفور لتقييم آثار تغير المناخ على تراث المنطقة. تم إجراء الاستطلاع من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، ومعهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة في جامعة الخرطوم، وقسم تراث دارفور في جامعة نيالا؛ حيث غطى الاستطلاع ١٨٠ كم، ووثق ١٢ موقعًا رئيسيًا للتراث في تلال فرنج، وتاجابو، وميدوب.
اختُتم المشروع بإقامة معارض مجتمعية في المتاحف الثلاثة، مما وفَّر مساحات تجمع بين مختلف المجتمعات للاحتفال بتراثها الفريد والمشترك، والاستمتاع به، والتعلم منه - سواء في الوقت الحاضر أو للأجيال القادمة.

أفران الجير في السودان

أفران الجير في السودان

سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ

سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ


سؤال: ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الجير في المباني المستقبلية للسودان؟
السودان غني بتنوع مواده الجيولوجية، وقد تم استخدام العديد منها منذ العصور القديمة. الحجر الجيري هو واحد منها. يمكن التعرف عليه بسهولة في شكل كتل حجرية. فقط فَكِّر في المعابد الحجرية القديمة، والأعمدة، أو التماثيل، أو حجارة الواجهة على المباني الحديثة. إنه أقل وضوحًا عندما يتم سحقه ومزجه مع مواد أخرى مثل الطين أو الرمل. من السهل الخلط بينه وبين الأسمنت لأنه يبدو مشابهًا جدًا -ولسبب وجيه، حيث أن الأسمنت مصنوع من الحجر الجيري المسحوق- لكن خصائصه مختلفة تمامًا. من المهم معرفة ما هي الاختلافات بينهما عند ترميم المباني التقليدية مثل بيت الخليفة في أم درمان إذا كنا نرغب في تجنب مزيد من الضرر. في السودان، يمكن أن تؤدي تقنيات الترميم إلى تقدير أوسع للموارد المحلية وطرق البناء التقليدية، وطرق استخدامها لتناسب مناخ اليوم دون تكاليف باهظة.



أفران الجير في البحر الأحمر تقع على طول شاطئ البحر، حيث كانت الشعاب المرجانية تُرفع للحرق، وتمت إعادة تدوير القوارب القديمة باستخدامها كوقود.
تخيل خريطة لأفران الجير في السودان
اكتشف علماء الآثار أن الجير والرماد استُخدما في صناعة الأرضيات منذ آلاف السنين، حتى قبل اختراع أفران الفخار. الجير مادة قلوية ذات خصائص مطهرة، لذا فهو مضاض جيّد للبكتيريا والكائنات الدقيقة. يتم تصنيعه باستخدام النار أو الحرارة، مما يحول تركيبه الكيميائي. توفر الأفران مصدرًا فعالًا للحرارة، وعلى الرغم من اختلافها في الحجم والنوع، إلا أنها تستخدم في اغراض مختلفة كخبز الخبز، وحرق الأواني أو الطوب، وتشكيل الزجاج أو النحاس أو البرونز أو الحديد، بالإضافة إلى حرق الجير. يمكن إعداد خريطة لأفران الجير في السودان. من شأنها تعطي تصوّراً للنشاط البشري يشمل المحاجر وآبار التروية وجميع أنواع الهياكل المبنية، بالإضافة إلى آثار في الأراضي الزراعية حيث يُستخدم الجير كمحسن للتربة.
الفرن الجيري يُشبه إلى حدٍّ كبير فرن الفخار، ولكن بدلاً من حرق الأواني الفخارية، يتم حرق قطع الحجر الجيري لإنتاج مادة صلبة بلورية بيضاء تُعرف باسم الجير الحي. ولأغراض البناء، يتم إطفاء الجير الحي بالماء ويُترك ليرتاح حتى يتحول إلى معجون قابل للتشكيل وسهل الاستخدام، يمكن استخدامه كمونة جيرية و كطلاء. كما يمكن خلطه بمواد أخرى، وأهمها الطين أو الرمل، مما يعزز خصائصها. يجفّ الجير عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، ويتحول كيميائيًا مرة أخرى إلى الحجر الجيري في عملية تُعرف بدورة الجير. يحتفظ الجير بتركيب بلوري دقيق (مفيد في التشطيبات المصقولة) وبالكثير من الفراغات، مما يسمح له بالتنفس ونفاذية الهواء والرطوبة. وعند نهاية عمره، يمكن أن تبدأ العملية بأكملها من جديد.
الخط الزمني
إذا كانت خريطتنا تُظهر المباني التي استخدمت الجير، فسيكون من الممكن تتبع تاريخها. ستحكي لنا أن الجص الجيري استُخدم في الأهرامات والمعابد الحجرية الكوشية. وخلال الفترة الرومانية، أصبح شائعًا على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد رواسب كبيرة من الشعاب المرجانية الكلسية، مع ارتفاع الرطوبة وهطول الأمطار الموسمية. هنا، أصبح الحجر الجيري والجص الجيري جزءًا دائمًا من أسلوب العمارة في البحر الأحمر، والذي يتجلى في المباني الأيقونية في سواكن.
خلال الفترة المسيحية، استُخدمت مونة الجير في الكنائس المبنية من الطوب المحروق في وادي النيل، مثل الكاتدرائية في فرس والكنائس في دنقلا وسوبا. واستُخدِمَت تقنيات بناء مُمَاثِلة في القباب في العصور الوسطى، وكذلك في المساجد والقصور، وأيضًا عبر منطقة الساحل في دارفور وكردفان.
وخلال الاحتلال العثماني، تم إدخال تقنيات أكثر تفصيلاً لمونة الجير، وانتشر استخدامه على نطاق أوسع حتى القرن العشرين، حيث تم استبداله بالأسمنت.

في ذات الوقت، في المناطق الأكثر جفافاً في السودان، كان الطوب الطيني والمونة الطينية أكثر شعبية. على سبيل المثال، كانت القباب في الشمال مصنوعة من الطوب الطيني والمونة، حتى البيوت والقرى. وقد أدى نقص الجير إلى جعل المباني أكثر هشاشة، لكن بسبب الجو الجاف ومعدّل الأمطار المنخفض لم تكن المباني متأثرة حتّى وقت قريب، وجعلت التغيرات المناخية هطول الأمطار في السودان أكثر غزارة و غير متطابقة مع التوقعات.
أفران الجير، الخرسانة، وتغير المناخ
تحتاج الأفران إلى شيء يُحرق، وكان الخشب عبر تاريخ السودان هو المصدر الرئيسي، مما يعني أن الغابات ضرورية. يرتبط التصحر في السودان إما بتغير المناخ نحو الجفاف، أو بالاستخدام المفرط للأخشاب من قبل البشر، أو بكليهما معًا. هذه العوامل تُفسِّر سبب وزمن توقف استخدام الجير كمادة بناء، ما لم يكن هناك دافع للاستمرار، كما هو الحال على الساحل الرطب للبحر الأحمر أو في المناطق الجنوبية حيث لا تزال الغابات موجودة. خريطتنا المتخيلة لأفران الجير ستُظهر العديد من الأطلال لأفران قديمة في المناطق الجافة أو التي تعرضت لإزالة الغابات. ومع ذلك، ستُظهر أيضًا نوعًا جديدًا من أفران حرق الحجر الجيري على شكل مصانع حديثة لإنتاج الأسمنت، والتي تفضل المواقع القريبة من مصادر المياه بدلًا من الغابات.
في السودان، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، تفوقت صناعة الأسمنت على إنتاج الجير، حيث أصبحت الخرسانة مادة البناء الأولى. تأثيرها على المناظر الطبيعية، سواء الطبيعية أو المشيدة، هائل لدرجة أنها تُستخدم كرمز بصري لعصر الأنثروبولوجي، وهو عصرنا الجيولوجي الذي أصبح فيه النشاط البشري القوة المهيمنة على المناخ والبيئة. على مستوى العالم، أصبح هذا المنتج المكرر للغاية أكثر المواد استهلاكًا بعد الماء، بل إنه يُسهم في زيادة استهلاك الماء نفسه.
يُستخدم الأسمنت في مشاريع البنية التحتية وجميع أنواع المباني، حيث يتميز بالقوة والمتانة وسرعة الإنتاج. يُنظر إليه على أنه عملي لأنه يتناسب مع الإنتاج الضخم لوحدات المكاتب والسكن. كما أنه يتماشى مع الموضة. تُستخدم الخرسانة كرمز للحداثة وتتناسب مع المشاريع الخيالية القابلة للتنفيذ، فلا يبدو أن هناك شيئًا كبيرًا جدًا أو مرتفعًا جدًا أو غريب الشكل.
في عام ٢٠١٨، وصفت مجلة (سودان ناو) السودان بأنه يمتلك صناعة أسمنت مزدهرة بمستقبل واعد. كان الحجر الجيري اللازم متوفرًا في العديد من مناطق البلاد، كما وفر نهر النيل مصدرًا للمياه. أما أول سد بُني في السودان، وهو سد سنار (١٩٢٥)، فقد استخدم الجرانيت غير المنتظم المرصوص بالأسمنت، والذي تم إنتاجه محليًا في مصنع أسمنت جديد على مقربة من الموقع، بطاقة إنتاجية بلغت ١٠٠٠ طن من الأسمنت أسبوعيًا.
ومع ذلك، فإن للخرسانة سلبياتها. يُعد إنتاج الأسمنت من أهم مسببات التغير المناخي بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وانبعاثاته العالية من الغازات الدفيئة (١ كجم من الأسمنت = ١ كجم من ثاني أكسيد الكربون)، واعتماده على الوقود الأحفوري، وما يسببه من أضرار بيئية. ولكن المفارقة أن أول من دق ناقوس الخطر لم يكن خبراء البيئة، بل أنصار ترميم المباني التاريخية. فقد لوحظ أن المباني الأثرية التي تم ترميمها باستخدام منتجات الأسمنت كانت تتدهور بشكل أسرع وتتعرض للتلف بسبب الأسمنت.
ورغم أن الأسمنت بدا وكأنه بديل مُحسَّن للجير، حيث يُصنع من نفس المواد الأساسية وباستخدام عمليات التسخين ذاتها، إلا أن الحقيقة أنه ليس "أفضل" بل مختلف. فالطريقة التي يُنتج بها تؤدي إلى خصائص مادية مختلفة، مما يجعله غير مناسب لبعض الاستخدامات التاريخية والبنائية.
ترميم بيت الخليفة


تعود أفران الجير في أم درمان إلى فترة المهدي. أراد الخليفة بناء دفاعات قوية بما يكفي لتحمل الأسلحة الحديثة. كانت الجدران الأمامية والجدران المحيطة الكبيرة بحي الملازمين بارتفاع ٦ أمتار ومبنية من الجير والحجر. هذه هي المواد المستخدمة في المرحلة الأولى والثانية من بناء بيت الخليفة.



الحجر الجيري المحروق المسحوق، والجير المطفأ في برميل زيت، ولوحات التدريب في بيت الخليفة التي تُظهر إزالة طبقة الأسمنت وإعادة الترميم باستخدام مونة الجير.


اللمسة الأخيرة هي الطِلاء الجيري، حيث يُستخدم للحصول على اللون الأبيض أو أي لون مطلوب. يمنح هذا الطلاء تأثيرًا أكثر نعومة ولمعانًا بسبب الطريقة التي ينكسر بها الضوء داخل البلورات الدقيقة من الكالسيت في المونة. كما أن الطلاء الجيري يتمتع بخصائص مطهرة ضد البكتيريا والعفن، مما يساعد في الحفاظ على نظافة الأسطح.
بدأت عملية ترميم بيت الخليفة في أم درمان عام ٢٠١٨. وكانت المادة الوحيدة التي لم تُستخدم في الترميم هي الأسمنت، بل إن جميع آثاره تقريبًا أُزيلت بعناية واستُبدلت بالجص القائم على الجير. كان هذا العمل ضخمًا، لأن العديد من الجدران في السنوات السابقة قد تم إصلاحها وتغطيتها بالأسمنت ظنًا أنه سيحميها بشكل أفضل. لكن المشكلة أن الأسمنت مادة أقسى وأقل نفاذية، مما يعني أنه ينقل جميع مشكلات الحركة والرطوبة إلى الطوب أو الطين أو الحجر، مما يؤدي إلى تآكلها بسرعة أكبر. ولضمان ترميم بيت الخليفة بالشكل الصحيح، كان على العمال توفير الجير، وإطفائه في حفر، وإتقان التقنيات التقليدية. وقد أنجزوا عملًا رائعًا.
يجري الآن تطبيق هذه المعرفة في مشروع "حديقة السلام" في كسلا، حيث يتم بناء اثني عشر نوعًا مختلفًا من البيوت من مختلف مناطق السودان. يدرس الفريق استخدام الجير في البناء الطيني كوسيلة لتحسين مقاومته لهطول المطر الغزير. هناك العديد من المباني المبنية من الطوب الطيني في السودان التي صمدت لقرون، وكذلك في بلدان أخرى حول العالم. فما هو سرها؟






فرن الجير في كسلا يتم تفقده من قبل فريق صون تراث السودان الحي القائم على تنفيذ حدائق السلام
عوامل يجب أخذها في الاعتبار
في عام ٢٠٠٧، بدأ العمل في مصنع الشمال للأسمنت في الدامر، والذي تم تجهيزه بأحدث التقنيات الأوروبية، كما يضم محطة طاقة شمسية توفر للمصنع كميات كبيرة من الطاقة النظيفة. وكان "المستقبل المشرق" الذي تنبأت به لصناعة الأسمنت في السودان يعتمد على عاملين: مشاركة السودان في سوق مزدهر، وتطور السودان نفسه. فإفريقيا جنوب الصحراء تُعد واحدة من آخر المساحات غير المشغولة على خريطة صناعة الخرسانة العالمية.
لكن المشكلة في الصناعات والأبنية القائمة على الأسمنت هي أنها تعتمد على نمط حياة مختلف، فهي قوية وسريعة التنفيذ، لكنها أقل تكيّفًا مع البيئة الطبيعية. كما أنها تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لكي تعمل، من المحاجر إلى الطرق، ومن مصادر المياه والطاقة إلى أنظمة التوريد والتوزيع الصناعية.
في المقابل، ترتبط تقنيات البناء التقليدية في السودان بشكل وثيق بتوفر الموارد الطبيعية، ووسائل النقل المحلية، والمناخ، وسُبل العيش، والثقافة. ويمكن أن تساعد المواد القائمة على الجير في الحفاظ على التوازن البيئي في المناطق السكنية الطبيعية. كما أن قدرة الجير على التحكم في الرطوبة تجعله متوافقًا مع المواد المستدامة منخفضة الاستهلاك للطاقة، مثل القصب والقش، الحشائش والخشب، والطين.
يُحرق الجير عند ٩٠٠ درجة مئوية، مقارنةً بالأسمنت الذي يُحرق عند ١٣٠٠ درجة مئوية، مما يجعله أقل استهلاكًا للطاقة. كما أنه من الممكن، مستقبلاً، استخدام مجمعات شمسية مشابهة لإشعال أفران دوارة تعمل بالطاقة الشمسية، مما يجعله أكثر استدامة.
تُظهر خريطة أفران الجير في السودان مشهداً مليئاً بأنماط بناء تقليدية تكيَّفت مع تغيُّر المناخ عبر التاريخ. ويمكن لهذه التقنيات أن تلعب دورًا مهمًا في التكيف مع التغير المناخي في المستقبل. الخلاصة أنه ليس كل شيء يجب أن يُبنى بالخرسانة.
صورة الغلاف: سواكن © عصام أحمد عبد الحفيظ

العمارة الطينية في جزيرة دقرتا

العمارة الطينية في جزيرة دقرتا
مقدمة:
دقرتا أو دقرتي، الاسمان مستخدمان من قبل سكان الجزيرة، ويعود معنى الاسم إلى أن "دقرتي" تحولت لاحقًا إلى "دقرتا"، حيث تعني "أرتي": جزيرة بلغة الفاديجا، بينما تحمل كلمة "دقر" معنيين: الأول هو "ترحيل العروس إلى بيت زوجها"، والثاني هو "ربط عود في البحر بهدف تجميع الطمي حوله وتكوين جزيرة رسوبية بفعل الإنسان".
تقع جزيرة دقرتا في شمال السودان وتتبع لمدينة كرمة ضمن محلية البرقيق. يُعتقد أن الجزيرة مأهولة منذ آلاف السنين، حيث يعيش سكانها في منتصفها، بينما تقع الأراضي الزراعية على أطرافها.
قبل الحرب، كان تعداد سكان الجزيرة يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ فرد، إلا أنه مع النزوح، عاد إليها ما يقارب ٣٤٠ شخصًا، معظمهم من السكان الأصليين العائدين إلى بيوتهم المهجورة.
المقدمة مأخوذة من مقال لمجلة أتر العدد ١٩، المنشور بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤

عمارة الطين:
تختلف معايشة البناء الطيني حسب معطيات عدة، مثلاً أين يقع هذا البناء؟ هل هو في منطقة رطبة أم جافة (منطقة تقع التأثير المناخي للسدود)، ما هي طبيعة الأرض هناك (رملية، طينية أم حجرية)، ومن الذي يقيّم تجربة المعايشة، هل هو من السكان الأصليين أم نازح للمنطقة بسبب حرب أبريل، وأخيراً الاختلافات الفردية، فما يناسبك قد يناسبني أو لا.
ولكن لنتفق أن أزمة النزوح لها وجه أكثر قتامة من العودة الطوعية للموطن الأصلي ومسقط رأس الآباء والأجداد، هنالك دائماً رومانسية تصبغ فكرة العودة للبلد ذات الطبيعة البكر والغذاء الصحي والحياة الطبيعية التي ينشدها سكان المدن؛ فخلف هذه الطبيعة غير المشوهة هنالك الكثير من عدم التنمية والفقر وذلك في جميع أطراف السودان وليس في إقليم واحد.
في إحدى خيالاتي السابقة أني أمتلك بيتاً طينيَّاً مزخرفاً بزخارف تقليدية في البلد، ومزرعة صغيرة بها محاصيل موسمية وأشجار فاكهة بجانبه للاكتفاء الذاتي. أرى في ذلك تكفيراً عن حياتي في المدينة السودانية المسيئة لفكرة المواطنة والجمال والتحضر، وبحثاً عن هويتي الضائعة، وعقد صداقة غير مشروطة مع البيئة، لكن هذا الحلم تلاشى أمام عيني بعدما عشت في هذه المنازل لأشهر طويلة اختبرت فيها الشتاء والصيف، وسألت فيها نفسي سؤالاً غريباً: لماذا لا تزال العمارة الطينية في جزيرة دقرتا هي العمارة المستخدمة ولم تُنقل إلى خانة التراث؟ ما أجمل أن أقرأ عنها في صفحات التقارير والدراسات. وما أجمل صورها على صفحات الإنترنت، وما أقسى العيش بداخلها كما هي ودون حلول حديثة.

المهمات الموكلة للرجل والمرأة في الجزيرة والزيارات الاجتماعية اليومية تخفِّف من حدة الشعور بحر الصيف وبرد الشتاء، حيث لا يظل ساكن الجزيرة في غرفته طوال اليوم كما فعلت أنا على الأقل.
الديمومة هي تحدٍّ آخر لهذه العمارة، حيث هي دائمة التعرض للهدم، وتغدو أطلالاً بعد سنوات بسيطة من هجرانها عكس المباني المشيدة من مواد البناء الأخرى (الحجرية والأسمنتية والمشيَّدة بالطوب الأحمر). لذا الصيانة الدورية هي جزء أساسي للحياة التي تُمليها الجزيرة، البيت كالكائن الحي له احتياجاته وسُكّانه لا يتذمّرون من العناية به. كان للمباني المهجورة دور عظيم في استضافة النازحين من الغرباء والعائدين من مواطني الجزيرة الأصليين إليها في فترة الحرب، ونسبة لسهولة أسلوب التشييد، فإن الأطلال تم ترميمها بسرعة قياسية لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة.
لم يكن بناء المنازل الطينية في جزيرة دقرتا أمراً اختيارياً، نسبة انعزال الجزيرة وصعوبة نقل مواد البناء الحديثة (أسمنت، رمل، طوب أحمر أو أسمنت وحديد تسليح وغيرها) ولضيق المساحة، فلا توجد هناك مساحة آمنة لكمائن حرق الطوب دون التسبب بأضرار صحية لسكان الجزيرة، بالطبع هناك من يستطيع تحمّل نفقات تعدية وترحيل هذه المواد لكنهم قلة، والمشاريع الكبيرة التي أُنشأَت بالتمويل الحكومي أو الخاص فقط -مثل المدرسة الإبتدائية الوحيدة والمركز الطبي والمسجدين (قبلي وبحري التي تعني جنوب وشمال الجزيرة)- هي التي تم بناؤها بالطوب الأحمر وتم تشطيبها بمواد التشطيب الحديثة.
الوضع الاقتصادي لمعظم سكان الجزيرة يعتمد على الزراعة الموسمية لمحاصيل (القمح والفول المصري والتمور)، وبصورة جزئية على أبنائهم المغتربين خارج السودان. في السنوات الأخيرة أُدخِلَت الأسمدة والمبيدات كشيء أساسيّ لضمان نجاح المواسم الزراعية، لأن الطمي الذي كان يحمل المغذيات للتربة بدأ في التناقص بصورة كبيرة منذ إنشاء سد مروي، وبالتأكيد فإن أسعار المحاصيل بالنسبة لسكان الجزيرة تكون أقل بنسبة كبيرة عن سكان البر لأن ثمن تَعدِيَة جوالات المحاصيل تقع على عاتق المزارع الذي يريد بيع محصوله، كل ذلك يجب النظر إليه كسبب رئيسي عند سؤالنا لما لا تزال معظم البيوت هنالك تبنى بنفس طريقة التشييد القديمة؟ ولماذا لا تحوي وسائل تبريد وتدفئة حديثة تُعِين سكانها على الأيام الصعبة؟. الخدمات المقدمة من الحكومة، كشبكة المياه، هي بالتأكيد أمر إيجابي، إذ تم توصيل مواسير المياه لكل منزل. وسلبي في أن النساء، قبل هذه الشبكة، كنَّ يذهبن إلى النيل كنشاطٍ اجتماعيّ نسائيّ. كل النساء كبيرات السن في الجزيرة يعرفن السباحة. ولم يكنّ يجلسن في بيوتهنّ خلال النهار ليعانين من الحر الشديد. عند النظر لكل شيء يُقَدَّم كحل لمشكلة أزلية نرى أن له أثراً لم يكن موضوعاً في الاعتبار.
من ماذا يتكون المنزل:
يتكون المنزل من غرف وبرندات ومطبخ ومزيرة، أما ملحقاته، خارج السور، فهي مطبخ خارجي للعواسة إذا كان المنزل ضيّقاً وبرج حمام وراكوبة للرجال بها كراسي وأسرة لاستقبال الضيوف ومزيرة خارجية، والرصة والقوسيبة.

بالنسبة لدورة المياه فليست هناك شبكة صرف صحي لضيق مساحة الجزيرة أو تانك شفط، كما لا توجد عربة بمحرك في الجزيرة ما عدا محراث واحد لكلّ مزارع الجزيرة. الحل المستخدم هو بئر تُحفَر خلف الحمام بمواسير صرف pvc وتكون للبئر هوَّاية فقط.. ولا يتم استخدام الكثير من المياه حتى لا تُملأ البئر سريعاً، أما الاستحمام فيتم تصريف المياه ببلاعة خارجية تُغرَف لاحقاً، عند امتلاء بئر الصرف الصحي فإن الحمام يُلغَى ويتم بناء حمام جديد ببئر جديدة. ويمكن أن يبنى الحمّام خارج المنزل إذا كانت المساحة ضيقة. مياه غسل الأطباق التي تستخدم في طشت وجردل يتم دفقها في الشارع، أو عمل جدول من البيت إلى أقرب زقاق خارجي أو قطعة أرض خالية.

نرجع لأول مكونات المنزل:
يمكن قطع الطوب (تشكيل الطين في قوالب وتركها في الأرض لتجف) في مكانٍ خالٍ من الزراعة. ولكن ليس ببعيد من المنزل المراد تشييده، يُمكِن أن يشكل في مزرعة لم تتم حراثتها بعد للمحصول الجديد. وفي حادثة تم غمر كمية طوب كبيرة بالمياه لأن المزارع الذي يجب أن يحرص على سقي محصوله بالماء وقَفْل الترعة في مواعيد محددة، نام تلك الليلة، واستيقظ صاحب الطوب على حدث حزين وكأن مجهوده ضاع هباء. قَطْع الطوب عمل مأجور وقد يقوم به صاحب المنزل بنفسه تقليلاً للتكاليف، وكذلك نقل الطوب بالكارو من مكان القطع للبيت، فيما عدا ذلك فإن كل العمل يتم بالنفير (كل الرجال يجتمعون للبناء ووضع السقف ثم تأتي النساء أيضاً لليابسة بعد ذلك بالطين المغربل والصمغ). وكل المباني في الجزيرة تحوي طابقاً أرضيّاً فقط.

ما هي مواد البناء:
- طوب من الطين اللبن.
- مونة من الطين.
- بياض داخلي وخارجي من الطين.
- أحجار توضع أعلى الحائط لوضع عوارض السقف عليها.
- عوارض سقف من جذوع الأشجار.
- سقف من الجريد أو البوص فوقه طبقة من الطين لسد الفجوات.
- زنك ومواسير حديد (إذا كان السقف من الزنك فيمكن الاستغناء عن الفجوة التي تفصل بين السقف والحائط، والتي لها دور بجانب التهوية وهو منع الأرضة من الوصول للسقف ونخره، كما يظهر في المبنى المصاحب لصور بئر الحمام).

كل عام يتم تلييس المنزل مرتين على الأقل (الحوائط والأرضيات) نسبة لتأثر طبقة الحماية الخارجية بعوامل الطقس؛ حيث تُسَد الثقوب التي يمكن أن تخرج منها العقارب والآفات، ولتزيين المنزل أيضاً في الأعياد. لكن لوقوع الجزيرة في منطقة مصابة بآفة الأرضة فإن البناء بالطين، وبالرغم من دقة غربلة التربة، لا بدّ أن يصحبه وجود قش تتغذى عليه هذه الآفة، مما يجعل الحل المطروح للأثاث هو الأثاث المعدني، أو رفع القطع الخشبية في قاعدة حجرية أو بلاستيكية بحيث لا تنخره الأرضة صغيرة الحجم ذات الضرر الكبير. أما لماذا تأخذ المباني درجات مختلفة من اللون الترابي مع أنها من نفس الأرض؟ فالإجابة هي في نسبة الصمغ، وهو مسحوق يُضاف للطين ويزيد من لزوجته وتماسكه فيما بعد على الحائط، اختلاف كمية الصمغ هو ما يجعل من بيت أغبش وبيت ترابي كالح.
يجب أيضاً النظر للتغيّرات المناخية المتطرّفة بعين الاعتبار، فكما يظهر في التقارير التي ترصد ظاهرة النينو العالمية التي يقع السودان في مقدمة الدول المتأثِّرة بها، تهدّمت في خريف العام ٢٠٢٤ منازل كثيرة في البر المحازي للجزيرة، لأنها تقع في مجاري السيول الطبيعية، ( بالطبع فإن الطبيعة المناخية الصحراوية لن تعير اهتماما لمعدل أمطار شحيحة أو منعدمة عادة، وعندما تهطل بغزارة فإنها تكون ظاهرة يُؤرَّخ بها)، ذلك قبل أن يصير تزايد هطول الأمطار في الولاية أمراً معتاداً في السنوات الأخيرة. وتكاليف الصيانة الدورية، أو في أسوأ الفروض نقل المبنى في منطقة مرتفعة أو بعيداً عن مجرى السيل، يُعتبرُ أمراً حتميّاً. من الجيد أنه لم تقع حوادث هدم للمباني داخل الجزيرة، لم يَخْلُ الأمر من اقتلاع أسقف من الزنك من حوائطها نظراً لشدة الرياح التي صاحبت الأمطار، وأيضاً اختلاف مناسيب المباني والشوارع فإن المياه لم تُحبس داخل المباني لمدة طويلة لتتشرَّب الحوائط بها. الآن، وأثناء كتابة هذا النص في الأسبوع الثالث من فبراير، فإن أهالي الجزيرة يعانون من موجات برد حادة يستخدمون بعضهم فيها ما استخدمه أجدادهم في التدفئة: طشت حديد به نار داخل الغرف على هذه الطريقة تقيهم قسوة الطبيعة. ولن ننسى أيضاً درجات الحرارة القياسية المرصودة في صيف نفس العام، حيث كانت تبلغ في شهر مايو ويونيو 46 درجة مئوية كمتوسط.
تُقبَل هذه التغيرات كواقع جديد مبني على دراسات مناخية وليس كظواهر قد تحدث لعام ولن تتكرر قريباً، وقد يكون لبنة أولى في النظر لضرورة إيجاد حلول مستدامة بمواد محلية من قبل المعماريين تجعل العيش في مبنى طينيّ عيشاً يخلو من المخاطر الملازمة لكل فصل من فصول السنة.
صورة العنوان وجميع صور المعرض: جزيرة داجارتا، شمال السودان، ٢٠٢٤ © آية سنادة
مقدمة:
دقرتا أو دقرتي، الاسمان مستخدمان من قبل سكان الجزيرة، ويعود معنى الاسم إلى أن "دقرتي" تحولت لاحقًا إلى "دقرتا"، حيث تعني "أرتي": جزيرة بلغة الفاديجا، بينما تحمل كلمة "دقر" معنيين: الأول هو "ترحيل العروس إلى بيت زوجها"، والثاني هو "ربط عود في البحر بهدف تجميع الطمي حوله وتكوين جزيرة رسوبية بفعل الإنسان".
تقع جزيرة دقرتا في شمال السودان وتتبع لمدينة كرمة ضمن محلية البرقيق. يُعتقد أن الجزيرة مأهولة منذ آلاف السنين، حيث يعيش سكانها في منتصفها، بينما تقع الأراضي الزراعية على أطرافها.
قبل الحرب، كان تعداد سكان الجزيرة يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ فرد، إلا أنه مع النزوح، عاد إليها ما يقارب ٣٤٠ شخصًا، معظمهم من السكان الأصليين العائدين إلى بيوتهم المهجورة.
المقدمة مأخوذة من مقال لمجلة أتر العدد ١٩، المنشور بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤

عمارة الطين:
تختلف معايشة البناء الطيني حسب معطيات عدة، مثلاً أين يقع هذا البناء؟ هل هو في منطقة رطبة أم جافة (منطقة تقع التأثير المناخي للسدود)، ما هي طبيعة الأرض هناك (رملية، طينية أم حجرية)، ومن الذي يقيّم تجربة المعايشة، هل هو من السكان الأصليين أم نازح للمنطقة بسبب حرب أبريل، وأخيراً الاختلافات الفردية، فما يناسبك قد يناسبني أو لا.
ولكن لنتفق أن أزمة النزوح لها وجه أكثر قتامة من العودة الطوعية للموطن الأصلي ومسقط رأس الآباء والأجداد، هنالك دائماً رومانسية تصبغ فكرة العودة للبلد ذات الطبيعة البكر والغذاء الصحي والحياة الطبيعية التي ينشدها سكان المدن؛ فخلف هذه الطبيعة غير المشوهة هنالك الكثير من عدم التنمية والفقر وذلك في جميع أطراف السودان وليس في إقليم واحد.
في إحدى خيالاتي السابقة أني أمتلك بيتاً طينيَّاً مزخرفاً بزخارف تقليدية في البلد، ومزرعة صغيرة بها محاصيل موسمية وأشجار فاكهة بجانبه للاكتفاء الذاتي. أرى في ذلك تكفيراً عن حياتي في المدينة السودانية المسيئة لفكرة المواطنة والجمال والتحضر، وبحثاً عن هويتي الضائعة، وعقد صداقة غير مشروطة مع البيئة، لكن هذا الحلم تلاشى أمام عيني بعدما عشت في هذه المنازل لأشهر طويلة اختبرت فيها الشتاء والصيف، وسألت فيها نفسي سؤالاً غريباً: لماذا لا تزال العمارة الطينية في جزيرة دقرتا هي العمارة المستخدمة ولم تُنقل إلى خانة التراث؟ ما أجمل أن أقرأ عنها في صفحات التقارير والدراسات. وما أجمل صورها على صفحات الإنترنت، وما أقسى العيش بداخلها كما هي ودون حلول حديثة.

المهمات الموكلة للرجل والمرأة في الجزيرة والزيارات الاجتماعية اليومية تخفِّف من حدة الشعور بحر الصيف وبرد الشتاء، حيث لا يظل ساكن الجزيرة في غرفته طوال اليوم كما فعلت أنا على الأقل.
الديمومة هي تحدٍّ آخر لهذه العمارة، حيث هي دائمة التعرض للهدم، وتغدو أطلالاً بعد سنوات بسيطة من هجرانها عكس المباني المشيدة من مواد البناء الأخرى (الحجرية والأسمنتية والمشيَّدة بالطوب الأحمر). لذا الصيانة الدورية هي جزء أساسي للحياة التي تُمليها الجزيرة، البيت كالكائن الحي له احتياجاته وسُكّانه لا يتذمّرون من العناية به. كان للمباني المهجورة دور عظيم في استضافة النازحين من الغرباء والعائدين من مواطني الجزيرة الأصليين إليها في فترة الحرب، ونسبة لسهولة أسلوب التشييد، فإن الأطلال تم ترميمها بسرعة قياسية لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة.
لم يكن بناء المنازل الطينية في جزيرة دقرتا أمراً اختيارياً، نسبة انعزال الجزيرة وصعوبة نقل مواد البناء الحديثة (أسمنت، رمل، طوب أحمر أو أسمنت وحديد تسليح وغيرها) ولضيق المساحة، فلا توجد هناك مساحة آمنة لكمائن حرق الطوب دون التسبب بأضرار صحية لسكان الجزيرة، بالطبع هناك من يستطيع تحمّل نفقات تعدية وترحيل هذه المواد لكنهم قلة، والمشاريع الكبيرة التي أُنشأَت بالتمويل الحكومي أو الخاص فقط -مثل المدرسة الإبتدائية الوحيدة والمركز الطبي والمسجدين (قبلي وبحري التي تعني جنوب وشمال الجزيرة)- هي التي تم بناؤها بالطوب الأحمر وتم تشطيبها بمواد التشطيب الحديثة.
الوضع الاقتصادي لمعظم سكان الجزيرة يعتمد على الزراعة الموسمية لمحاصيل (القمح والفول المصري والتمور)، وبصورة جزئية على أبنائهم المغتربين خارج السودان. في السنوات الأخيرة أُدخِلَت الأسمدة والمبيدات كشيء أساسيّ لضمان نجاح المواسم الزراعية، لأن الطمي الذي كان يحمل المغذيات للتربة بدأ في التناقص بصورة كبيرة منذ إنشاء سد مروي، وبالتأكيد فإن أسعار المحاصيل بالنسبة لسكان الجزيرة تكون أقل بنسبة كبيرة عن سكان البر لأن ثمن تَعدِيَة جوالات المحاصيل تقع على عاتق المزارع الذي يريد بيع محصوله، كل ذلك يجب النظر إليه كسبب رئيسي عند سؤالنا لما لا تزال معظم البيوت هنالك تبنى بنفس طريقة التشييد القديمة؟ ولماذا لا تحوي وسائل تبريد وتدفئة حديثة تُعِين سكانها على الأيام الصعبة؟. الخدمات المقدمة من الحكومة، كشبكة المياه، هي بالتأكيد أمر إيجابي، إذ تم توصيل مواسير المياه لكل منزل. وسلبي في أن النساء، قبل هذه الشبكة، كنَّ يذهبن إلى النيل كنشاطٍ اجتماعيّ نسائيّ. كل النساء كبيرات السن في الجزيرة يعرفن السباحة. ولم يكنّ يجلسن في بيوتهنّ خلال النهار ليعانين من الحر الشديد. عند النظر لكل شيء يُقَدَّم كحل لمشكلة أزلية نرى أن له أثراً لم يكن موضوعاً في الاعتبار.
من ماذا يتكون المنزل:
يتكون المنزل من غرف وبرندات ومطبخ ومزيرة، أما ملحقاته، خارج السور، فهي مطبخ خارجي للعواسة إذا كان المنزل ضيّقاً وبرج حمام وراكوبة للرجال بها كراسي وأسرة لاستقبال الضيوف ومزيرة خارجية، والرصة والقوسيبة.

بالنسبة لدورة المياه فليست هناك شبكة صرف صحي لضيق مساحة الجزيرة أو تانك شفط، كما لا توجد عربة بمحرك في الجزيرة ما عدا محراث واحد لكلّ مزارع الجزيرة. الحل المستخدم هو بئر تُحفَر خلف الحمام بمواسير صرف pvc وتكون للبئر هوَّاية فقط.. ولا يتم استخدام الكثير من المياه حتى لا تُملأ البئر سريعاً، أما الاستحمام فيتم تصريف المياه ببلاعة خارجية تُغرَف لاحقاً، عند امتلاء بئر الصرف الصحي فإن الحمام يُلغَى ويتم بناء حمام جديد ببئر جديدة. ويمكن أن يبنى الحمّام خارج المنزل إذا كانت المساحة ضيقة. مياه غسل الأطباق التي تستخدم في طشت وجردل يتم دفقها في الشارع، أو عمل جدول من البيت إلى أقرب زقاق خارجي أو قطعة أرض خالية.

نرجع لأول مكونات المنزل:
يمكن قطع الطوب (تشكيل الطين في قوالب وتركها في الأرض لتجف) في مكانٍ خالٍ من الزراعة. ولكن ليس ببعيد من المنزل المراد تشييده، يُمكِن أن يشكل في مزرعة لم تتم حراثتها بعد للمحصول الجديد. وفي حادثة تم غمر كمية طوب كبيرة بالمياه لأن المزارع الذي يجب أن يحرص على سقي محصوله بالماء وقَفْل الترعة في مواعيد محددة، نام تلك الليلة، واستيقظ صاحب الطوب على حدث حزين وكأن مجهوده ضاع هباء. قَطْع الطوب عمل مأجور وقد يقوم به صاحب المنزل بنفسه تقليلاً للتكاليف، وكذلك نقل الطوب بالكارو من مكان القطع للبيت، فيما عدا ذلك فإن كل العمل يتم بالنفير (كل الرجال يجتمعون للبناء ووضع السقف ثم تأتي النساء أيضاً لليابسة بعد ذلك بالطين المغربل والصمغ). وكل المباني في الجزيرة تحوي طابقاً أرضيّاً فقط.

ما هي مواد البناء:
- طوب من الطين اللبن.
- مونة من الطين.
- بياض داخلي وخارجي من الطين.
- أحجار توضع أعلى الحائط لوضع عوارض السقف عليها.
- عوارض سقف من جذوع الأشجار.
- سقف من الجريد أو البوص فوقه طبقة من الطين لسد الفجوات.
- زنك ومواسير حديد (إذا كان السقف من الزنك فيمكن الاستغناء عن الفجوة التي تفصل بين السقف والحائط، والتي لها دور بجانب التهوية وهو منع الأرضة من الوصول للسقف ونخره، كما يظهر في المبنى المصاحب لصور بئر الحمام).

كل عام يتم تلييس المنزل مرتين على الأقل (الحوائط والأرضيات) نسبة لتأثر طبقة الحماية الخارجية بعوامل الطقس؛ حيث تُسَد الثقوب التي يمكن أن تخرج منها العقارب والآفات، ولتزيين المنزل أيضاً في الأعياد. لكن لوقوع الجزيرة في منطقة مصابة بآفة الأرضة فإن البناء بالطين، وبالرغم من دقة غربلة التربة، لا بدّ أن يصحبه وجود قش تتغذى عليه هذه الآفة، مما يجعل الحل المطروح للأثاث هو الأثاث المعدني، أو رفع القطع الخشبية في قاعدة حجرية أو بلاستيكية بحيث لا تنخره الأرضة صغيرة الحجم ذات الضرر الكبير. أما لماذا تأخذ المباني درجات مختلفة من اللون الترابي مع أنها من نفس الأرض؟ فالإجابة هي في نسبة الصمغ، وهو مسحوق يُضاف للطين ويزيد من لزوجته وتماسكه فيما بعد على الحائط، اختلاف كمية الصمغ هو ما يجعل من بيت أغبش وبيت ترابي كالح.
يجب أيضاً النظر للتغيّرات المناخية المتطرّفة بعين الاعتبار، فكما يظهر في التقارير التي ترصد ظاهرة النينو العالمية التي يقع السودان في مقدمة الدول المتأثِّرة بها، تهدّمت في خريف العام ٢٠٢٤ منازل كثيرة في البر المحازي للجزيرة، لأنها تقع في مجاري السيول الطبيعية، ( بالطبع فإن الطبيعة المناخية الصحراوية لن تعير اهتماما لمعدل أمطار شحيحة أو منعدمة عادة، وعندما تهطل بغزارة فإنها تكون ظاهرة يُؤرَّخ بها)، ذلك قبل أن يصير تزايد هطول الأمطار في الولاية أمراً معتاداً في السنوات الأخيرة. وتكاليف الصيانة الدورية، أو في أسوأ الفروض نقل المبنى في منطقة مرتفعة أو بعيداً عن مجرى السيل، يُعتبرُ أمراً حتميّاً. من الجيد أنه لم تقع حوادث هدم للمباني داخل الجزيرة، لم يَخْلُ الأمر من اقتلاع أسقف من الزنك من حوائطها نظراً لشدة الرياح التي صاحبت الأمطار، وأيضاً اختلاف مناسيب المباني والشوارع فإن المياه لم تُحبس داخل المباني لمدة طويلة لتتشرَّب الحوائط بها. الآن، وأثناء كتابة هذا النص في الأسبوع الثالث من فبراير، فإن أهالي الجزيرة يعانون من موجات برد حادة يستخدمون بعضهم فيها ما استخدمه أجدادهم في التدفئة: طشت حديد به نار داخل الغرف على هذه الطريقة تقيهم قسوة الطبيعة. ولن ننسى أيضاً درجات الحرارة القياسية المرصودة في صيف نفس العام، حيث كانت تبلغ في شهر مايو ويونيو 46 درجة مئوية كمتوسط.
تُقبَل هذه التغيرات كواقع جديد مبني على دراسات مناخية وليس كظواهر قد تحدث لعام ولن تتكرر قريباً، وقد يكون لبنة أولى في النظر لضرورة إيجاد حلول مستدامة بمواد محلية من قبل المعماريين تجعل العيش في مبنى طينيّ عيشاً يخلو من المخاطر الملازمة لكل فصل من فصول السنة.
صورة العنوان وجميع صور المعرض: جزيرة داجارتا، شمال السودان، ٢٠٢٤ © آية سنادة

مقدمة:
دقرتا أو دقرتي، الاسمان مستخدمان من قبل سكان الجزيرة، ويعود معنى الاسم إلى أن "دقرتي" تحولت لاحقًا إلى "دقرتا"، حيث تعني "أرتي": جزيرة بلغة الفاديجا، بينما تحمل كلمة "دقر" معنيين: الأول هو "ترحيل العروس إلى بيت زوجها"، والثاني هو "ربط عود في البحر بهدف تجميع الطمي حوله وتكوين جزيرة رسوبية بفعل الإنسان".
تقع جزيرة دقرتا في شمال السودان وتتبع لمدينة كرمة ضمن محلية البرقيق. يُعتقد أن الجزيرة مأهولة منذ آلاف السنين، حيث يعيش سكانها في منتصفها، بينما تقع الأراضي الزراعية على أطرافها.
قبل الحرب، كان تعداد سكان الجزيرة يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ فرد، إلا أنه مع النزوح، عاد إليها ما يقارب ٣٤٠ شخصًا، معظمهم من السكان الأصليين العائدين إلى بيوتهم المهجورة.
المقدمة مأخوذة من مقال لمجلة أتر العدد ١٩، المنشور بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٢٤

عمارة الطين:
تختلف معايشة البناء الطيني حسب معطيات عدة، مثلاً أين يقع هذا البناء؟ هل هو في منطقة رطبة أم جافة (منطقة تقع التأثير المناخي للسدود)، ما هي طبيعة الأرض هناك (رملية، طينية أم حجرية)، ومن الذي يقيّم تجربة المعايشة، هل هو من السكان الأصليين أم نازح للمنطقة بسبب حرب أبريل، وأخيراً الاختلافات الفردية، فما يناسبك قد يناسبني أو لا.
ولكن لنتفق أن أزمة النزوح لها وجه أكثر قتامة من العودة الطوعية للموطن الأصلي ومسقط رأس الآباء والأجداد، هنالك دائماً رومانسية تصبغ فكرة العودة للبلد ذات الطبيعة البكر والغذاء الصحي والحياة الطبيعية التي ينشدها سكان المدن؛ فخلف هذه الطبيعة غير المشوهة هنالك الكثير من عدم التنمية والفقر وذلك في جميع أطراف السودان وليس في إقليم واحد.
في إحدى خيالاتي السابقة أني أمتلك بيتاً طينيَّاً مزخرفاً بزخارف تقليدية في البلد، ومزرعة صغيرة بها محاصيل موسمية وأشجار فاكهة بجانبه للاكتفاء الذاتي. أرى في ذلك تكفيراً عن حياتي في المدينة السودانية المسيئة لفكرة المواطنة والجمال والتحضر، وبحثاً عن هويتي الضائعة، وعقد صداقة غير مشروطة مع البيئة، لكن هذا الحلم تلاشى أمام عيني بعدما عشت في هذه المنازل لأشهر طويلة اختبرت فيها الشتاء والصيف، وسألت فيها نفسي سؤالاً غريباً: لماذا لا تزال العمارة الطينية في جزيرة دقرتا هي العمارة المستخدمة ولم تُنقل إلى خانة التراث؟ ما أجمل أن أقرأ عنها في صفحات التقارير والدراسات. وما أجمل صورها على صفحات الإنترنت، وما أقسى العيش بداخلها كما هي ودون حلول حديثة.

المهمات الموكلة للرجل والمرأة في الجزيرة والزيارات الاجتماعية اليومية تخفِّف من حدة الشعور بحر الصيف وبرد الشتاء، حيث لا يظل ساكن الجزيرة في غرفته طوال اليوم كما فعلت أنا على الأقل.
الديمومة هي تحدٍّ آخر لهذه العمارة، حيث هي دائمة التعرض للهدم، وتغدو أطلالاً بعد سنوات بسيطة من هجرانها عكس المباني المشيدة من مواد البناء الأخرى (الحجرية والأسمنتية والمشيَّدة بالطوب الأحمر). لذا الصيانة الدورية هي جزء أساسي للحياة التي تُمليها الجزيرة، البيت كالكائن الحي له احتياجاته وسُكّانه لا يتذمّرون من العناية به. كان للمباني المهجورة دور عظيم في استضافة النازحين من الغرباء والعائدين من مواطني الجزيرة الأصليين إليها في فترة الحرب، ونسبة لسهولة أسلوب التشييد، فإن الأطلال تم ترميمها بسرعة قياسية لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة.
لم يكن بناء المنازل الطينية في جزيرة دقرتا أمراً اختيارياً، نسبة انعزال الجزيرة وصعوبة نقل مواد البناء الحديثة (أسمنت، رمل، طوب أحمر أو أسمنت وحديد تسليح وغيرها) ولضيق المساحة، فلا توجد هناك مساحة آمنة لكمائن حرق الطوب دون التسبب بأضرار صحية لسكان الجزيرة، بالطبع هناك من يستطيع تحمّل نفقات تعدية وترحيل هذه المواد لكنهم قلة، والمشاريع الكبيرة التي أُنشأَت بالتمويل الحكومي أو الخاص فقط -مثل المدرسة الإبتدائية الوحيدة والمركز الطبي والمسجدين (قبلي وبحري التي تعني جنوب وشمال الجزيرة)- هي التي تم بناؤها بالطوب الأحمر وتم تشطيبها بمواد التشطيب الحديثة.
الوضع الاقتصادي لمعظم سكان الجزيرة يعتمد على الزراعة الموسمية لمحاصيل (القمح والفول المصري والتمور)، وبصورة جزئية على أبنائهم المغتربين خارج السودان. في السنوات الأخيرة أُدخِلَت الأسمدة والمبيدات كشيء أساسيّ لضمان نجاح المواسم الزراعية، لأن الطمي الذي كان يحمل المغذيات للتربة بدأ في التناقص بصورة كبيرة منذ إنشاء سد مروي، وبالتأكيد فإن أسعار المحاصيل بالنسبة لسكان الجزيرة تكون أقل بنسبة كبيرة عن سكان البر لأن ثمن تَعدِيَة جوالات المحاصيل تقع على عاتق المزارع الذي يريد بيع محصوله، كل ذلك يجب النظر إليه كسبب رئيسي عند سؤالنا لما لا تزال معظم البيوت هنالك تبنى بنفس طريقة التشييد القديمة؟ ولماذا لا تحوي وسائل تبريد وتدفئة حديثة تُعِين سكانها على الأيام الصعبة؟. الخدمات المقدمة من الحكومة، كشبكة المياه، هي بالتأكيد أمر إيجابي، إذ تم توصيل مواسير المياه لكل منزل. وسلبي في أن النساء، قبل هذه الشبكة، كنَّ يذهبن إلى النيل كنشاطٍ اجتماعيّ نسائيّ. كل النساء كبيرات السن في الجزيرة يعرفن السباحة. ولم يكنّ يجلسن في بيوتهنّ خلال النهار ليعانين من الحر الشديد. عند النظر لكل شيء يُقَدَّم كحل لمشكلة أزلية نرى أن له أثراً لم يكن موضوعاً في الاعتبار.
من ماذا يتكون المنزل:
يتكون المنزل من غرف وبرندات ومطبخ ومزيرة، أما ملحقاته، خارج السور، فهي مطبخ خارجي للعواسة إذا كان المنزل ضيّقاً وبرج حمام وراكوبة للرجال بها كراسي وأسرة لاستقبال الضيوف ومزيرة خارجية، والرصة والقوسيبة.

بالنسبة لدورة المياه فليست هناك شبكة صرف صحي لضيق مساحة الجزيرة أو تانك شفط، كما لا توجد عربة بمحرك في الجزيرة ما عدا محراث واحد لكلّ مزارع الجزيرة. الحل المستخدم هو بئر تُحفَر خلف الحمام بمواسير صرف pvc وتكون للبئر هوَّاية فقط.. ولا يتم استخدام الكثير من المياه حتى لا تُملأ البئر سريعاً، أما الاستحمام فيتم تصريف المياه ببلاعة خارجية تُغرَف لاحقاً، عند امتلاء بئر الصرف الصحي فإن الحمام يُلغَى ويتم بناء حمام جديد ببئر جديدة. ويمكن أن يبنى الحمّام خارج المنزل إذا كانت المساحة ضيقة. مياه غسل الأطباق التي تستخدم في طشت وجردل يتم دفقها في الشارع، أو عمل جدول من البيت إلى أقرب زقاق خارجي أو قطعة أرض خالية.

نرجع لأول مكونات المنزل:
يمكن قطع الطوب (تشكيل الطين في قوالب وتركها في الأرض لتجف) في مكانٍ خالٍ من الزراعة. ولكن ليس ببعيد من المنزل المراد تشييده، يُمكِن أن يشكل في مزرعة لم تتم حراثتها بعد للمحصول الجديد. وفي حادثة تم غمر كمية طوب كبيرة بالمياه لأن المزارع الذي يجب أن يحرص على سقي محصوله بالماء وقَفْل الترعة في مواعيد محددة، نام تلك الليلة، واستيقظ صاحب الطوب على حدث حزين وكأن مجهوده ضاع هباء. قَطْع الطوب عمل مأجور وقد يقوم به صاحب المنزل بنفسه تقليلاً للتكاليف، وكذلك نقل الطوب بالكارو من مكان القطع للبيت، فيما عدا ذلك فإن كل العمل يتم بالنفير (كل الرجال يجتمعون للبناء ووضع السقف ثم تأتي النساء أيضاً لليابسة بعد ذلك بالطين المغربل والصمغ). وكل المباني في الجزيرة تحوي طابقاً أرضيّاً فقط.

ما هي مواد البناء:
- طوب من الطين اللبن.
- مونة من الطين.
- بياض داخلي وخارجي من الطين.
- أحجار توضع أعلى الحائط لوضع عوارض السقف عليها.
- عوارض سقف من جذوع الأشجار.
- سقف من الجريد أو البوص فوقه طبقة من الطين لسد الفجوات.
- زنك ومواسير حديد (إذا كان السقف من الزنك فيمكن الاستغناء عن الفجوة التي تفصل بين السقف والحائط، والتي لها دور بجانب التهوية وهو منع الأرضة من الوصول للسقف ونخره، كما يظهر في المبنى المصاحب لصور بئر الحمام).

كل عام يتم تلييس المنزل مرتين على الأقل (الحوائط والأرضيات) نسبة لتأثر طبقة الحماية الخارجية بعوامل الطقس؛ حيث تُسَد الثقوب التي يمكن أن تخرج منها العقارب والآفات، ولتزيين المنزل أيضاً في الأعياد. لكن لوقوع الجزيرة في منطقة مصابة بآفة الأرضة فإن البناء بالطين، وبالرغم من دقة غربلة التربة، لا بدّ أن يصحبه وجود قش تتغذى عليه هذه الآفة، مما يجعل الحل المطروح للأثاث هو الأثاث المعدني، أو رفع القطع الخشبية في قاعدة حجرية أو بلاستيكية بحيث لا تنخره الأرضة صغيرة الحجم ذات الضرر الكبير. أما لماذا تأخذ المباني درجات مختلفة من اللون الترابي مع أنها من نفس الأرض؟ فالإجابة هي في نسبة الصمغ، وهو مسحوق يُضاف للطين ويزيد من لزوجته وتماسكه فيما بعد على الحائط، اختلاف كمية الصمغ هو ما يجعل من بيت أغبش وبيت ترابي كالح.
يجب أيضاً النظر للتغيّرات المناخية المتطرّفة بعين الاعتبار، فكما يظهر في التقارير التي ترصد ظاهرة النينو العالمية التي يقع السودان في مقدمة الدول المتأثِّرة بها، تهدّمت في خريف العام ٢٠٢٤ منازل كثيرة في البر المحازي للجزيرة، لأنها تقع في مجاري السيول الطبيعية، ( بالطبع فإن الطبيعة المناخية الصحراوية لن تعير اهتماما لمعدل أمطار شحيحة أو منعدمة عادة، وعندما تهطل بغزارة فإنها تكون ظاهرة يُؤرَّخ بها)، ذلك قبل أن يصير تزايد هطول الأمطار في الولاية أمراً معتاداً في السنوات الأخيرة. وتكاليف الصيانة الدورية، أو في أسوأ الفروض نقل المبنى في منطقة مرتفعة أو بعيداً عن مجرى السيل، يُعتبرُ أمراً حتميّاً. من الجيد أنه لم تقع حوادث هدم للمباني داخل الجزيرة، لم يَخْلُ الأمر من اقتلاع أسقف من الزنك من حوائطها نظراً لشدة الرياح التي صاحبت الأمطار، وأيضاً اختلاف مناسيب المباني والشوارع فإن المياه لم تُحبس داخل المباني لمدة طويلة لتتشرَّب الحوائط بها. الآن، وأثناء كتابة هذا النص في الأسبوع الثالث من فبراير، فإن أهالي الجزيرة يعانون من موجات برد حادة يستخدمون بعضهم فيها ما استخدمه أجدادهم في التدفئة: طشت حديد به نار داخل الغرف على هذه الطريقة تقيهم قسوة الطبيعة. ولن ننسى أيضاً درجات الحرارة القياسية المرصودة في صيف نفس العام، حيث كانت تبلغ في شهر مايو ويونيو 46 درجة مئوية كمتوسط.
تُقبَل هذه التغيرات كواقع جديد مبني على دراسات مناخية وليس كظواهر قد تحدث لعام ولن تتكرر قريباً، وقد يكون لبنة أولى في النظر لضرورة إيجاد حلول مستدامة بمواد محلية من قبل المعماريين تجعل العيش في مبنى طينيّ عيشاً يخلو من المخاطر الملازمة لكل فصل من فصول السنة.
صورة العنوان وجميع صور المعرض: جزيرة داجارتا، شمال السودان، ٢٠٢٤ © آية سنادة

مهرجان الدخن

مهرجان الدخن
في الفترة من ١١-١٣/ ٢٠٢٣م من شهر مارس، شَهِدَت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مهرجان الدخن السنوي الثاني، اجتاح المهرجان شوارع المدينة وأسواقها ومتاحفها، وسط مشاركة شعبية كبيرة ورسمية، بجانب شركاء من منظمات دولية بهدف تحفيز الاهتمام بإنتاج الدخن. دشَّن والي جنوب دارفور حامد التجاني هنون بمتحف دارفور المجتمعي مهرجان الدخن السنوي. وقال هنون إن هذا المهرجان جاء والسودان يشهد اهتماماً كبيراً بهذا الغذاء المهم، وأضاف إن العام ٢٠٢٣م هو عام الدخن الدولي استناداً لإعلان الأمم المتحدة نفس العام. وصرَّح أنه البديل للقمح في المرحلة القادمة للمواطن السوداني. ويهدف المهرجان إلى خلق الوعي وزيادة إنتاج واستهلاك حبوب الدخن؛ حيث يُعتبر الدُخن من الأغذية المفيدة لصحة الإنسان مع انخفاض متطلبات المياه والمدخلات لزراعتها.
على الرغم من عدم دعم السلطات لإنتاج الدخن كما القمح، إلا أن مساحة زراعة وإنتاج محصول الدخن في السودان تأتي بعد الذرة مباشرة، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة منه سنوياً حوالي ٦ ملايين فدان، وتتم زراعة حوالي ٩٥% من هذه المساحة بولايات غرب السودان في كردفان ودارفور بجانب القضارف وكسلا والنيل الأزرق وحلفا الجديدة. في ذلك يقول رئيس مبادرة مهرجان الدخن السنوي، أشرف أحمد سعد، إن المهرجان يهدف إلى حفظ التراث الإنساني، وأن استصلاح الأراضي بعد تجاوز تحديات التقانة، التمويل، التقاوي؛ ستُسهم في التعافي الاقتصادي بتوفير الدخن كبديل للقمح والحبوب التي يعتمد السودان في تغطيتها بالاستيراد.
واحتوى مهرجان الدخن على العديد من الفقرات كزفَّة نفير ودق العيش، ومجموعة من المعارض، والأوراق العلمية، وعروض مسرحية وغناء ومسابقات. من أبرز الفقرات هي مسابقة "قدح الميرم" التي أُقيمت في حدائق منتجع التكتيك. حيث دُعيت إليها شابات تمَّ اختيارهن للتنافس على عَمَل أكلات تقليدية؛ مثل الفروندو والكول والمينداجي، وتم التركيز على أطعمة الدخن أبرزها العصيدة، وتم تتويج الشابة الفائزة "ملكة الدخن”.
كما كان هناك عرض لمختلف الأطعمة التي يمكن صنعها بالدخن مثل الجوجار، والدمسورو، والعبود تاكارو، وأم طبج. كما عرض مجموعة من المخبوزات كالعيش والبسكويت والكب كيك والبيتزا.
بالإضافة إلى البرنامج الثقافي الذي تم تنظيمه من قبل مجموعة المكفوفين ومنتدى كرري الثقافي، حيث أبدع المكفوفين في أداء الشعر والغناء وإبراز مختلف المواهب. كما احتوى البرنامج على تقديم ورقة علمية بعنوان: (زراعة الدخن بالري المطري بالسودان وتحديداً ولاية جنوب دارفور) قدمها الأستاذ: علي بقادي فضالي، متحدثاً عن أهمية الدخن في غرب السودان بالإضافة إلى أهميته في تغذية الحيوان.
في الفترة من ١١-١٣/ ٢٠٢٣م من شهر مارس، شَهِدَت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مهرجان الدخن السنوي الثاني، اجتاح المهرجان شوارع المدينة وأسواقها ومتاحفها، وسط مشاركة شعبية كبيرة ورسمية، بجانب شركاء من منظمات دولية بهدف تحفيز الاهتمام بإنتاج الدخن. دشَّن والي جنوب دارفور حامد التجاني هنون بمتحف دارفور المجتمعي مهرجان الدخن السنوي. وقال هنون إن هذا المهرجان جاء والسودان يشهد اهتماماً كبيراً بهذا الغذاء المهم، وأضاف إن العام ٢٠٢٣م هو عام الدخن الدولي استناداً لإعلان الأمم المتحدة نفس العام. وصرَّح أنه البديل للقمح في المرحلة القادمة للمواطن السوداني. ويهدف المهرجان إلى خلق الوعي وزيادة إنتاج واستهلاك حبوب الدخن؛ حيث يُعتبر الدُخن من الأغذية المفيدة لصحة الإنسان مع انخفاض متطلبات المياه والمدخلات لزراعتها.
على الرغم من عدم دعم السلطات لإنتاج الدخن كما القمح، إلا أن مساحة زراعة وإنتاج محصول الدخن في السودان تأتي بعد الذرة مباشرة، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة منه سنوياً حوالي ٦ ملايين فدان، وتتم زراعة حوالي ٩٥% من هذه المساحة بولايات غرب السودان في كردفان ودارفور بجانب القضارف وكسلا والنيل الأزرق وحلفا الجديدة. في ذلك يقول رئيس مبادرة مهرجان الدخن السنوي، أشرف أحمد سعد، إن المهرجان يهدف إلى حفظ التراث الإنساني، وأن استصلاح الأراضي بعد تجاوز تحديات التقانة، التمويل، التقاوي؛ ستُسهم في التعافي الاقتصادي بتوفير الدخن كبديل للقمح والحبوب التي يعتمد السودان في تغطيتها بالاستيراد.
واحتوى مهرجان الدخن على العديد من الفقرات كزفَّة نفير ودق العيش، ومجموعة من المعارض، والأوراق العلمية، وعروض مسرحية وغناء ومسابقات. من أبرز الفقرات هي مسابقة "قدح الميرم" التي أُقيمت في حدائق منتجع التكتيك. حيث دُعيت إليها شابات تمَّ اختيارهن للتنافس على عَمَل أكلات تقليدية؛ مثل الفروندو والكول والمينداجي، وتم التركيز على أطعمة الدخن أبرزها العصيدة، وتم تتويج الشابة الفائزة "ملكة الدخن”.
كما كان هناك عرض لمختلف الأطعمة التي يمكن صنعها بالدخن مثل الجوجار، والدمسورو، والعبود تاكارو، وأم طبج. كما عرض مجموعة من المخبوزات كالعيش والبسكويت والكب كيك والبيتزا.
بالإضافة إلى البرنامج الثقافي الذي تم تنظيمه من قبل مجموعة المكفوفين ومنتدى كرري الثقافي، حيث أبدع المكفوفين في أداء الشعر والغناء وإبراز مختلف المواهب. كما احتوى البرنامج على تقديم ورقة علمية بعنوان: (زراعة الدخن بالري المطري بالسودان وتحديداً ولاية جنوب دارفور) قدمها الأستاذ: علي بقادي فضالي، متحدثاً عن أهمية الدخن في غرب السودان بالإضافة إلى أهميته في تغذية الحيوان.

في الفترة من ١١-١٣/ ٢٠٢٣م من شهر مارس، شَهِدَت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مهرجان الدخن السنوي الثاني، اجتاح المهرجان شوارع المدينة وأسواقها ومتاحفها، وسط مشاركة شعبية كبيرة ورسمية، بجانب شركاء من منظمات دولية بهدف تحفيز الاهتمام بإنتاج الدخن. دشَّن والي جنوب دارفور حامد التجاني هنون بمتحف دارفور المجتمعي مهرجان الدخن السنوي. وقال هنون إن هذا المهرجان جاء والسودان يشهد اهتماماً كبيراً بهذا الغذاء المهم، وأضاف إن العام ٢٠٢٣م هو عام الدخن الدولي استناداً لإعلان الأمم المتحدة نفس العام. وصرَّح أنه البديل للقمح في المرحلة القادمة للمواطن السوداني. ويهدف المهرجان إلى خلق الوعي وزيادة إنتاج واستهلاك حبوب الدخن؛ حيث يُعتبر الدُخن من الأغذية المفيدة لصحة الإنسان مع انخفاض متطلبات المياه والمدخلات لزراعتها.
على الرغم من عدم دعم السلطات لإنتاج الدخن كما القمح، إلا أن مساحة زراعة وإنتاج محصول الدخن في السودان تأتي بعد الذرة مباشرة، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة منه سنوياً حوالي ٦ ملايين فدان، وتتم زراعة حوالي ٩٥% من هذه المساحة بولايات غرب السودان في كردفان ودارفور بجانب القضارف وكسلا والنيل الأزرق وحلفا الجديدة. في ذلك يقول رئيس مبادرة مهرجان الدخن السنوي، أشرف أحمد سعد، إن المهرجان يهدف إلى حفظ التراث الإنساني، وأن استصلاح الأراضي بعد تجاوز تحديات التقانة، التمويل، التقاوي؛ ستُسهم في التعافي الاقتصادي بتوفير الدخن كبديل للقمح والحبوب التي يعتمد السودان في تغطيتها بالاستيراد.
واحتوى مهرجان الدخن على العديد من الفقرات كزفَّة نفير ودق العيش، ومجموعة من المعارض، والأوراق العلمية، وعروض مسرحية وغناء ومسابقات. من أبرز الفقرات هي مسابقة "قدح الميرم" التي أُقيمت في حدائق منتجع التكتيك. حيث دُعيت إليها شابات تمَّ اختيارهن للتنافس على عَمَل أكلات تقليدية؛ مثل الفروندو والكول والمينداجي، وتم التركيز على أطعمة الدخن أبرزها العصيدة، وتم تتويج الشابة الفائزة "ملكة الدخن”.
كما كان هناك عرض لمختلف الأطعمة التي يمكن صنعها بالدخن مثل الجوجار، والدمسورو، والعبود تاكارو، وأم طبج. كما عرض مجموعة من المخبوزات كالعيش والبسكويت والكب كيك والبيتزا.
بالإضافة إلى البرنامج الثقافي الذي تم تنظيمه من قبل مجموعة المكفوفين ومنتدى كرري الثقافي، حيث أبدع المكفوفين في أداء الشعر والغناء وإبراز مختلف المواهب. كما احتوى البرنامج على تقديم ورقة علمية بعنوان: (زراعة الدخن بالري المطري بالسودان وتحديداً ولاية جنوب دارفور) قدمها الأستاذ: علي بقادي فضالي، متحدثاً عن أهمية الدخن في غرب السودان بالإضافة إلى أهميته في تغذية الحيوان.

الجلد عبر الأزمان

الجلد عبر الأزمان
تدعم البيئات الطبيعية في السودان، التي تعتمد على الأمطار، الكثير من أنواع الحيوانات، وقد كان ذلك لآلاف السنين. إنها تناسب الظروف المناخية شبه الجافة في الساحل لأن الحيوانات يمكن أن تنتقل بين المراعي الموسمية. اليوم، تتضمن هذه الأنواع أكثر من ١٠٠ مليون من الأبقار والجمال والأغنام والماعز، جميعها جيدة لإنتاج الجلد. يشمل التراث الحي في السودان دباغة الجلد وصناعاته الحرفية عبر معظم أرجاء البلاد. يمكنك رؤية مجموعة واسعة من منتجات الجلد في الأسواق، بما في ذلك صانعي الأحذية الذين ينتجون المركوب السوداني الشهير. هذا التراث هو أساس الصناعات الجلدية الحديثة في السودان، التي بدأت عام ١٩٤٥ مع إنشاء مصنع للدباغة ومصنع للأحذية في الخرطوم. ومع ذلك، هناك تحديات.


في عام ٢٠٢٢، تم التبرع بسرج جمل جلدي جميل وكامل بجميع ملحقاته إلى متحف شيكان في الأبيض. جاءت هذه المبادرة خلال ورشة عمل جمعت قادة المجتمع المحلي وممثلي المدينة، وكان الهدف منها إنشاء معرض بعنوان "التراث الأخضر" لدراسة تأثير تغير المناخ على الثقافة المحلية.
تم التبرع بالسرج من قبل حفيد مالكه، وهو أحد شيوخ المنطقة، حيث كانت عائلته قد تخلت عن مهنة الرعي. وبينما كنا نتأمل هذا السرج الرائع، تساءلنا عمّا إذا كان من الممكن صنع مثله اليوم. لم يُصنع هذا السرج للبيع، بل كان للاستخدام داخل سياق مجتمعي معين مرتبط بأسلوب حياة محدد.
وبما أننا كنا نعمل في مجال المتاحف، فقد أثار اهتمامنا البحث عن أمثلة قديمة لصناعة الجلود وأنماط الحياة المرتبطة بها. بالمقارنة مع الأحجار أو الفخار، فإن العثور على آثار الجلود القديمة وفهمها أمر صعب، إذ إنها، كغيرها من المواد العضوية، تتحلل وتعود إلى الأرض دون أن تترك أثرًا يُذكر. لكن في بعض الحالات النادرة، حيث تكون الظروف شديدة الجفاف، كما هو الحال في بعض المواقع في النوبة بشمال السودان، تبقى بعض الشظايا الجلدية محفوظة، وهي تروي لنا قصصًا شيقة للغاية.
صناعة الجلد في النوبة القديمة، شمال السودان
لقد استغرق استكشاف قصة الجلد النوبي القديم سنوات من البحث والتحليل المخبري للقِطَع المحفوظة بعناية في المتاحف، بالإضافة إلى التجارب العمليّة لمحاولة إعادة إنشاء العمليات التي تم بها صنعه. شملت الأبحاث الهامة للوسي سكينر (التي يستند إليها هذا المقال) زيارة ورشة دباغة تقليدية في الهواء الطلق في منطقة بالقرب أم درمان. على الرغم من أنها كانت تُعِدّ جلودًا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتنتج جلدًا رخيصًا للاستخدام المحلي، فإنها قدمت لمحة عن كيفية عمل ورشة الدباغة التقليدية. ومن الدروس المستفادة أن جميع المواد المستخدمة كانت من المنطقة المجاورة: الجير، قرون شجرة الأكاسيا، فضلات الحمام، قش الذرة، زيت السمسم.


معلوم أن المصريين القدماء كانوا يوقِّرون النوبيين باعتبارهم هم المتخصصين المتميزين في صناعة الجلود، وذلك لسبب وجيه. تخيل ارتداء ملابس جلدية فائقة النعومة، خفيفة ومرنة بشكل استثنائي، مثل أجود أنواع الجلد المدبوغ أو جلد الشامواه. وقد وُجدت هذه الملابس في مقابر نوبية للذكور والإناث، وشملت ملابس ذات ألواح مخيطة، وأوشحة، وملابس قصيرة، وملابس داخلية. والأكثر غرابة كانت الملابس المصنوعة من الجلد المثقوب. تم عمل صفوف من القطع المتوازية الصغيرة المتداخلة في صفائح الجلد، وعندما يتم سحب الجلد جانباً، فإنه يُشَكِّل بنية شَبَكِيَّة. وقد مكّن ذلك من صنع ملابس ضيقة مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس، حيث كانت أكثر مرونة وجيدة التهوية. تشير رسومات المقابر إلى أن الملابس الداخلية النوبية المثقوبة أصبحت مفضلة لدى المصريين، وخاصة أولئك الذين يعملون في الحقول أو يجدفون القوارب في العصر الفرعوني. كان الثوب متينًا ومريحًا في الحرارة، حيث كان يمتص العرق ويحافظ على برودة الجسم.
بجانب صناعة الملابس، استخدم النوبيون الجلود في العديد من المجالات الأخرى. فقد اشتهر رماة النوبة باستخدام واقيات ذراع سميكة مصنوعة من الجلد ومقوّسة لتناسب شكل المعصم، مما كان يحمي الساعد الداخلي من ارتداد وتر القوس أثناء الرماية. كما شملت الاستخدامات الأخرى للجلد جُعبات وحافظات، وأحزمة بأنواعها المختلفة، وأربطة الأدوات، وخيوط الأسرّة، وأغطية المدافن، وأحزمة الحيوانات، والأساور، والحقائب، والحاويات، والأكياس، وبالطبع الصنادل. كان كل غرض يُصنع من نوع معين من الجلد، سواء من حيث مصدر الحيوان أو العملية المستخدمة في تصنيعه.
كان النوبيون ماهرين في معالجة الجلود واستخدموها في العديد من الأغراض. كان الشكل الأساسي -الجلد الخام- يُستخدم في أي مكان تفتقر فيه البدائل النباتية إلى القوة. يتطلب الجلد الخام القليل جدًا من المعالجة بعد إزالة جلد الحيوان وكشط السطح الداخلي من الدهون واللحوم. يمكن إزالة الشعر من الجلد إما عن طريق تفكيكه بمحلول قلوي (محلول مصنوع من مستحلب رماد الخشب)، أو عن طريق "التعرق". وذلك بتركه في ظروف دافئة ورطبة لتحفيز تحلل السطح وتسهيل إزالة الشعر. نظرًا لأن هذه العملية تُضعف الجلد الخام، فقد يُترك الشعر لتحقيق أقصى قدر من القوة - حصائر الفراء هي مثال شائع. المرحلة التالية هي قطع الجلد الخام بينما لا يزال مرطبًا جزئيًا وقابلاً للانحناء. عندما يجف، يشتد وينكمش، وهي سمة مفيدة عند صنع أسرة العنقريب التي تكون قوية ومرنة.
على الرغم من إمكانية صنع الجلد الخام من أي نوع من جلود الحيوانات، إلا أنه يُفضل جلد الأبقار للعديد من الأسباب؛ حيث يظل محتفظاً بسماكة عند الجفاف. في حين أن جلد الأغنام والماعز الخام يجف مثل الرقاق، ولكن يمكن الحفاظ على معظم جلود الحيوانات قابلة للانحناء عن طريق "الدباغة" أو "التجليد". تمنع هذه العمليات الجلد من التصلب، وذلك بشكل أساسي عن طريق منع ألياف الكولاجين من الالتصاق ببعضها البعض، والتي يمكن بعد ذلك تزييتها عن طريق نقعها بالدهون مثل الشحوم أو البيض أو الزيوت المستحلبة. تشتهر هذه الصناعة بكونها ضارة و ذات روائح مزعجة وغالبًا ما تقع في عكس اتجاه الرياح من أي مناطق سكنية. تتضمن الدباغة عمومًا الكثير من عمليات الغسيل والنقع والكشط والتمديد والضرب والتعليق، وتشمل عوامل كيميائية قوية مثل الملح أو الجير المطفي، أو التخمير بواسطة الإنزيمات المُشتقَّة من النباتات مثل لحاء الأكاسيا، أو بول الحيوانات أو الروث، بالإضافة إلى تطبيق محاليل الدهون والتدخين والتلوين. تنطوي عملية الطهي على العديد من العوامل التي تعتمد على خصائص الجلد الأصلي، ويؤثر كل منها على جودة المنتج الجلدي النهائي.
جلد الأبقار كثيف وسميك ومرن أكثر من الجلد الخام، لكنه صلب وتصعب خياطته، بينما جلد الماعز والأغنام أرق وأسهل في التعامل، لكن جلد الماعز أكثر متانة ومرونة، مما يجعله مثاليًا لأحزمة الصنادل، إذ يحتفظ بشكله لفترة أطول. كان للنوبيين القدماء استخدامات محددة جدًا لجلود الحيوانات.
كان اختيار نوع الجلد المستخدم في هذه الاستخدامات دقيقًا ويعتمد على عدد من العوامل العملية والثقافية ذات الصلة. لإنتاج الجلد النوبي الفاخر منزوع الحبيبات، جربت الباحثة لوسي أنواعًا مختلفة من الجلود، بما في ذلك جلود الغزلان والأغنام والماعز، وتوصلت إلى أن الأغنام الصحراوية، التي تمتلك شعرًا خشنًا بدلًا من الصوف، كانت الأرجح أن تكون المصدر المستخدم في العصور القديمة. هذه السلالة لا تزال مفضلة في السودان اليوم، وكانت شائعة في النوبة القديمة.
اقتَرحت أن خبرة صنع الجلود التي طورها النوبيون القدماء يمكن أن ترتبط بتفضيلهم لرعي الأغنام بدلاً من الماعز، حيث تتناسب هذه الحيوانات بشكل أفضل مع نمط حياة شبه البدوية. الأغنام أسهل توجيهًا وأقل عرضة للتوهان، كما أنها لا تنافس الإنسان في غذائه بل تتغذى في الغالب على الأعشاب.
كان المناخ النوبي جافًا (وما زال كذلك) ويتناسب بشكل أفضل مع الرعي شبه البدوي أكثر من الزراعة المستقرة. كانت سلالات الحيوانات مثل الأغنام الصوفية مناسبة تمامًا لتلك البيئة الصحراوية. كانت الجلود المستخدمة في إنتاج الملابس الجلدية تعتبر منتجًا ثانويًا مريحًا بجانب الحليب واللحوم التي تنتجها الأغنام. أدت الأمطار القليلة المستمرة ودرجات الحرارة العالية في الصيف إلى أن معظم النوبيين لم يكونوا قادرين على زراعة المحاصيل الزراعية طوال العام حتى فترة مملكة مروى، عندما تم إدخال طرق الري. كانوا محدودين بشهور الشتاء، بعد الفيضانات السنوية للنيل. بدلاً من ذلك، كانوا ينتجون بعضًا من أفضل الأعمال الجلدية في العالم القديم.
المتحف الإثنوغرافي، بالخرطوم
كان لدى المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم مجموعة رائعة جدًا من المنتجات الجلدية التي تم جمعها على مدى القرون السابقة. كانت تروي قصصًا حقيقية عن الثقافة والبيئة، وكيف تغيرت ولا تزال تتغير، عبر السنين. وإن احتمال فقدانها لأمرٌ محزن.

تدعم البيئات الطبيعية في السودان، التي تعتمد على الأمطار، الكثير من أنواع الحيوانات، وقد كان ذلك لآلاف السنين. إنها تناسب الظروف المناخية شبه الجافة في الساحل لأن الحيوانات يمكن أن تنتقل بين المراعي الموسمية. اليوم، تتضمن هذه الأنواع أكثر من ١٠٠ مليون من الأبقار والجمال والأغنام والماعز، جميعها جيدة لإنتاج الجلد. يشمل التراث الحي في السودان دباغة الجلد وصناعاته الحرفية عبر معظم أرجاء البلاد. يمكنك رؤية مجموعة واسعة من منتجات الجلد في الأسواق، بما في ذلك صانعي الأحذية الذين ينتجون المركوب السوداني الشهير. هذا التراث هو أساس الصناعات الجلدية الحديثة في السودان، التي بدأت عام ١٩٤٥ مع إنشاء مصنع للدباغة ومصنع للأحذية في الخرطوم. ومع ذلك، هناك تحديات.


في عام ٢٠٢٢، تم التبرع بسرج جمل جلدي جميل وكامل بجميع ملحقاته إلى متحف شيكان في الأبيض. جاءت هذه المبادرة خلال ورشة عمل جمعت قادة المجتمع المحلي وممثلي المدينة، وكان الهدف منها إنشاء معرض بعنوان "التراث الأخضر" لدراسة تأثير تغير المناخ على الثقافة المحلية.
تم التبرع بالسرج من قبل حفيد مالكه، وهو أحد شيوخ المنطقة، حيث كانت عائلته قد تخلت عن مهنة الرعي. وبينما كنا نتأمل هذا السرج الرائع، تساءلنا عمّا إذا كان من الممكن صنع مثله اليوم. لم يُصنع هذا السرج للبيع، بل كان للاستخدام داخل سياق مجتمعي معين مرتبط بأسلوب حياة محدد.
وبما أننا كنا نعمل في مجال المتاحف، فقد أثار اهتمامنا البحث عن أمثلة قديمة لصناعة الجلود وأنماط الحياة المرتبطة بها. بالمقارنة مع الأحجار أو الفخار، فإن العثور على آثار الجلود القديمة وفهمها أمر صعب، إذ إنها، كغيرها من المواد العضوية، تتحلل وتعود إلى الأرض دون أن تترك أثرًا يُذكر. لكن في بعض الحالات النادرة، حيث تكون الظروف شديدة الجفاف، كما هو الحال في بعض المواقع في النوبة بشمال السودان، تبقى بعض الشظايا الجلدية محفوظة، وهي تروي لنا قصصًا شيقة للغاية.
صناعة الجلد في النوبة القديمة، شمال السودان
لقد استغرق استكشاف قصة الجلد النوبي القديم سنوات من البحث والتحليل المخبري للقِطَع المحفوظة بعناية في المتاحف، بالإضافة إلى التجارب العمليّة لمحاولة إعادة إنشاء العمليات التي تم بها صنعه. شملت الأبحاث الهامة للوسي سكينر (التي يستند إليها هذا المقال) زيارة ورشة دباغة تقليدية في الهواء الطلق في منطقة بالقرب أم درمان. على الرغم من أنها كانت تُعِدّ جلودًا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتنتج جلدًا رخيصًا للاستخدام المحلي، فإنها قدمت لمحة عن كيفية عمل ورشة الدباغة التقليدية. ومن الدروس المستفادة أن جميع المواد المستخدمة كانت من المنطقة المجاورة: الجير، قرون شجرة الأكاسيا، فضلات الحمام، قش الذرة، زيت السمسم.


معلوم أن المصريين القدماء كانوا يوقِّرون النوبيين باعتبارهم هم المتخصصين المتميزين في صناعة الجلود، وذلك لسبب وجيه. تخيل ارتداء ملابس جلدية فائقة النعومة، خفيفة ومرنة بشكل استثنائي، مثل أجود أنواع الجلد المدبوغ أو جلد الشامواه. وقد وُجدت هذه الملابس في مقابر نوبية للذكور والإناث، وشملت ملابس ذات ألواح مخيطة، وأوشحة، وملابس قصيرة، وملابس داخلية. والأكثر غرابة كانت الملابس المصنوعة من الجلد المثقوب. تم عمل صفوف من القطع المتوازية الصغيرة المتداخلة في صفائح الجلد، وعندما يتم سحب الجلد جانباً، فإنه يُشَكِّل بنية شَبَكِيَّة. وقد مكّن ذلك من صنع ملابس ضيقة مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس، حيث كانت أكثر مرونة وجيدة التهوية. تشير رسومات المقابر إلى أن الملابس الداخلية النوبية المثقوبة أصبحت مفضلة لدى المصريين، وخاصة أولئك الذين يعملون في الحقول أو يجدفون القوارب في العصر الفرعوني. كان الثوب متينًا ومريحًا في الحرارة، حيث كان يمتص العرق ويحافظ على برودة الجسم.
بجانب صناعة الملابس، استخدم النوبيون الجلود في العديد من المجالات الأخرى. فقد اشتهر رماة النوبة باستخدام واقيات ذراع سميكة مصنوعة من الجلد ومقوّسة لتناسب شكل المعصم، مما كان يحمي الساعد الداخلي من ارتداد وتر القوس أثناء الرماية. كما شملت الاستخدامات الأخرى للجلد جُعبات وحافظات، وأحزمة بأنواعها المختلفة، وأربطة الأدوات، وخيوط الأسرّة، وأغطية المدافن، وأحزمة الحيوانات، والأساور، والحقائب، والحاويات، والأكياس، وبالطبع الصنادل. كان كل غرض يُصنع من نوع معين من الجلد، سواء من حيث مصدر الحيوان أو العملية المستخدمة في تصنيعه.
كان النوبيون ماهرين في معالجة الجلود واستخدموها في العديد من الأغراض. كان الشكل الأساسي -الجلد الخام- يُستخدم في أي مكان تفتقر فيه البدائل النباتية إلى القوة. يتطلب الجلد الخام القليل جدًا من المعالجة بعد إزالة جلد الحيوان وكشط السطح الداخلي من الدهون واللحوم. يمكن إزالة الشعر من الجلد إما عن طريق تفكيكه بمحلول قلوي (محلول مصنوع من مستحلب رماد الخشب)، أو عن طريق "التعرق". وذلك بتركه في ظروف دافئة ورطبة لتحفيز تحلل السطح وتسهيل إزالة الشعر. نظرًا لأن هذه العملية تُضعف الجلد الخام، فقد يُترك الشعر لتحقيق أقصى قدر من القوة - حصائر الفراء هي مثال شائع. المرحلة التالية هي قطع الجلد الخام بينما لا يزال مرطبًا جزئيًا وقابلاً للانحناء. عندما يجف، يشتد وينكمش، وهي سمة مفيدة عند صنع أسرة العنقريب التي تكون قوية ومرنة.
على الرغم من إمكانية صنع الجلد الخام من أي نوع من جلود الحيوانات، إلا أنه يُفضل جلد الأبقار للعديد من الأسباب؛ حيث يظل محتفظاً بسماكة عند الجفاف. في حين أن جلد الأغنام والماعز الخام يجف مثل الرقاق، ولكن يمكن الحفاظ على معظم جلود الحيوانات قابلة للانحناء عن طريق "الدباغة" أو "التجليد". تمنع هذه العمليات الجلد من التصلب، وذلك بشكل أساسي عن طريق منع ألياف الكولاجين من الالتصاق ببعضها البعض، والتي يمكن بعد ذلك تزييتها عن طريق نقعها بالدهون مثل الشحوم أو البيض أو الزيوت المستحلبة. تشتهر هذه الصناعة بكونها ضارة و ذات روائح مزعجة وغالبًا ما تقع في عكس اتجاه الرياح من أي مناطق سكنية. تتضمن الدباغة عمومًا الكثير من عمليات الغسيل والنقع والكشط والتمديد والضرب والتعليق، وتشمل عوامل كيميائية قوية مثل الملح أو الجير المطفي، أو التخمير بواسطة الإنزيمات المُشتقَّة من النباتات مثل لحاء الأكاسيا، أو بول الحيوانات أو الروث، بالإضافة إلى تطبيق محاليل الدهون والتدخين والتلوين. تنطوي عملية الطهي على العديد من العوامل التي تعتمد على خصائص الجلد الأصلي، ويؤثر كل منها على جودة المنتج الجلدي النهائي.
جلد الأبقار كثيف وسميك ومرن أكثر من الجلد الخام، لكنه صلب وتصعب خياطته، بينما جلد الماعز والأغنام أرق وأسهل في التعامل، لكن جلد الماعز أكثر متانة ومرونة، مما يجعله مثاليًا لأحزمة الصنادل، إذ يحتفظ بشكله لفترة أطول. كان للنوبيين القدماء استخدامات محددة جدًا لجلود الحيوانات.
كان اختيار نوع الجلد المستخدم في هذه الاستخدامات دقيقًا ويعتمد على عدد من العوامل العملية والثقافية ذات الصلة. لإنتاج الجلد النوبي الفاخر منزوع الحبيبات، جربت الباحثة لوسي أنواعًا مختلفة من الجلود، بما في ذلك جلود الغزلان والأغنام والماعز، وتوصلت إلى أن الأغنام الصحراوية، التي تمتلك شعرًا خشنًا بدلًا من الصوف، كانت الأرجح أن تكون المصدر المستخدم في العصور القديمة. هذه السلالة لا تزال مفضلة في السودان اليوم، وكانت شائعة في النوبة القديمة.
اقتَرحت أن خبرة صنع الجلود التي طورها النوبيون القدماء يمكن أن ترتبط بتفضيلهم لرعي الأغنام بدلاً من الماعز، حيث تتناسب هذه الحيوانات بشكل أفضل مع نمط حياة شبه البدوية. الأغنام أسهل توجيهًا وأقل عرضة للتوهان، كما أنها لا تنافس الإنسان في غذائه بل تتغذى في الغالب على الأعشاب.
كان المناخ النوبي جافًا (وما زال كذلك) ويتناسب بشكل أفضل مع الرعي شبه البدوي أكثر من الزراعة المستقرة. كانت سلالات الحيوانات مثل الأغنام الصوفية مناسبة تمامًا لتلك البيئة الصحراوية. كانت الجلود المستخدمة في إنتاج الملابس الجلدية تعتبر منتجًا ثانويًا مريحًا بجانب الحليب واللحوم التي تنتجها الأغنام. أدت الأمطار القليلة المستمرة ودرجات الحرارة العالية في الصيف إلى أن معظم النوبيين لم يكونوا قادرين على زراعة المحاصيل الزراعية طوال العام حتى فترة مملكة مروى، عندما تم إدخال طرق الري. كانوا محدودين بشهور الشتاء، بعد الفيضانات السنوية للنيل. بدلاً من ذلك، كانوا ينتجون بعضًا من أفضل الأعمال الجلدية في العالم القديم.
المتحف الإثنوغرافي، بالخرطوم
كان لدى المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم مجموعة رائعة جدًا من المنتجات الجلدية التي تم جمعها على مدى القرون السابقة. كانت تروي قصصًا حقيقية عن الثقافة والبيئة، وكيف تغيرت ولا تزال تتغير، عبر السنين. وإن احتمال فقدانها لأمرٌ محزن.


تدعم البيئات الطبيعية في السودان، التي تعتمد على الأمطار، الكثير من أنواع الحيوانات، وقد كان ذلك لآلاف السنين. إنها تناسب الظروف المناخية شبه الجافة في الساحل لأن الحيوانات يمكن أن تنتقل بين المراعي الموسمية. اليوم، تتضمن هذه الأنواع أكثر من ١٠٠ مليون من الأبقار والجمال والأغنام والماعز، جميعها جيدة لإنتاج الجلد. يشمل التراث الحي في السودان دباغة الجلد وصناعاته الحرفية عبر معظم أرجاء البلاد. يمكنك رؤية مجموعة واسعة من منتجات الجلد في الأسواق، بما في ذلك صانعي الأحذية الذين ينتجون المركوب السوداني الشهير. هذا التراث هو أساس الصناعات الجلدية الحديثة في السودان، التي بدأت عام ١٩٤٥ مع إنشاء مصنع للدباغة ومصنع للأحذية في الخرطوم. ومع ذلك، هناك تحديات.


في عام ٢٠٢٢، تم التبرع بسرج جمل جلدي جميل وكامل بجميع ملحقاته إلى متحف شيكان في الأبيض. جاءت هذه المبادرة خلال ورشة عمل جمعت قادة المجتمع المحلي وممثلي المدينة، وكان الهدف منها إنشاء معرض بعنوان "التراث الأخضر" لدراسة تأثير تغير المناخ على الثقافة المحلية.
تم التبرع بالسرج من قبل حفيد مالكه، وهو أحد شيوخ المنطقة، حيث كانت عائلته قد تخلت عن مهنة الرعي. وبينما كنا نتأمل هذا السرج الرائع، تساءلنا عمّا إذا كان من الممكن صنع مثله اليوم. لم يُصنع هذا السرج للبيع، بل كان للاستخدام داخل سياق مجتمعي معين مرتبط بأسلوب حياة محدد.
وبما أننا كنا نعمل في مجال المتاحف، فقد أثار اهتمامنا البحث عن أمثلة قديمة لصناعة الجلود وأنماط الحياة المرتبطة بها. بالمقارنة مع الأحجار أو الفخار، فإن العثور على آثار الجلود القديمة وفهمها أمر صعب، إذ إنها، كغيرها من المواد العضوية، تتحلل وتعود إلى الأرض دون أن تترك أثرًا يُذكر. لكن في بعض الحالات النادرة، حيث تكون الظروف شديدة الجفاف، كما هو الحال في بعض المواقع في النوبة بشمال السودان، تبقى بعض الشظايا الجلدية محفوظة، وهي تروي لنا قصصًا شيقة للغاية.
صناعة الجلد في النوبة القديمة، شمال السودان
لقد استغرق استكشاف قصة الجلد النوبي القديم سنوات من البحث والتحليل المخبري للقِطَع المحفوظة بعناية في المتاحف، بالإضافة إلى التجارب العمليّة لمحاولة إعادة إنشاء العمليات التي تم بها صنعه. شملت الأبحاث الهامة للوسي سكينر (التي يستند إليها هذا المقال) زيارة ورشة دباغة تقليدية في الهواء الطلق في منطقة بالقرب أم درمان. على الرغم من أنها كانت تُعِدّ جلودًا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتنتج جلدًا رخيصًا للاستخدام المحلي، فإنها قدمت لمحة عن كيفية عمل ورشة الدباغة التقليدية. ومن الدروس المستفادة أن جميع المواد المستخدمة كانت من المنطقة المجاورة: الجير، قرون شجرة الأكاسيا، فضلات الحمام، قش الذرة، زيت السمسم.


معلوم أن المصريين القدماء كانوا يوقِّرون النوبيين باعتبارهم هم المتخصصين المتميزين في صناعة الجلود، وذلك لسبب وجيه. تخيل ارتداء ملابس جلدية فائقة النعومة، خفيفة ومرنة بشكل استثنائي، مثل أجود أنواع الجلد المدبوغ أو جلد الشامواه. وقد وُجدت هذه الملابس في مقابر نوبية للذكور والإناث، وشملت ملابس ذات ألواح مخيطة، وأوشحة، وملابس قصيرة، وملابس داخلية. والأكثر غرابة كانت الملابس المصنوعة من الجلد المثقوب. تم عمل صفوف من القطع المتوازية الصغيرة المتداخلة في صفائح الجلد، وعندما يتم سحب الجلد جانباً، فإنه يُشَكِّل بنية شَبَكِيَّة. وقد مكّن ذلك من صنع ملابس ضيقة مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس، حيث كانت أكثر مرونة وجيدة التهوية. تشير رسومات المقابر إلى أن الملابس الداخلية النوبية المثقوبة أصبحت مفضلة لدى المصريين، وخاصة أولئك الذين يعملون في الحقول أو يجدفون القوارب في العصر الفرعوني. كان الثوب متينًا ومريحًا في الحرارة، حيث كان يمتص العرق ويحافظ على برودة الجسم.
بجانب صناعة الملابس، استخدم النوبيون الجلود في العديد من المجالات الأخرى. فقد اشتهر رماة النوبة باستخدام واقيات ذراع سميكة مصنوعة من الجلد ومقوّسة لتناسب شكل المعصم، مما كان يحمي الساعد الداخلي من ارتداد وتر القوس أثناء الرماية. كما شملت الاستخدامات الأخرى للجلد جُعبات وحافظات، وأحزمة بأنواعها المختلفة، وأربطة الأدوات، وخيوط الأسرّة، وأغطية المدافن، وأحزمة الحيوانات، والأساور، والحقائب، والحاويات، والأكياس، وبالطبع الصنادل. كان كل غرض يُصنع من نوع معين من الجلد، سواء من حيث مصدر الحيوان أو العملية المستخدمة في تصنيعه.
كان النوبيون ماهرين في معالجة الجلود واستخدموها في العديد من الأغراض. كان الشكل الأساسي -الجلد الخام- يُستخدم في أي مكان تفتقر فيه البدائل النباتية إلى القوة. يتطلب الجلد الخام القليل جدًا من المعالجة بعد إزالة جلد الحيوان وكشط السطح الداخلي من الدهون واللحوم. يمكن إزالة الشعر من الجلد إما عن طريق تفكيكه بمحلول قلوي (محلول مصنوع من مستحلب رماد الخشب)، أو عن طريق "التعرق". وذلك بتركه في ظروف دافئة ورطبة لتحفيز تحلل السطح وتسهيل إزالة الشعر. نظرًا لأن هذه العملية تُضعف الجلد الخام، فقد يُترك الشعر لتحقيق أقصى قدر من القوة - حصائر الفراء هي مثال شائع. المرحلة التالية هي قطع الجلد الخام بينما لا يزال مرطبًا جزئيًا وقابلاً للانحناء. عندما يجف، يشتد وينكمش، وهي سمة مفيدة عند صنع أسرة العنقريب التي تكون قوية ومرنة.
على الرغم من إمكانية صنع الجلد الخام من أي نوع من جلود الحيوانات، إلا أنه يُفضل جلد الأبقار للعديد من الأسباب؛ حيث يظل محتفظاً بسماكة عند الجفاف. في حين أن جلد الأغنام والماعز الخام يجف مثل الرقاق، ولكن يمكن الحفاظ على معظم جلود الحيوانات قابلة للانحناء عن طريق "الدباغة" أو "التجليد". تمنع هذه العمليات الجلد من التصلب، وذلك بشكل أساسي عن طريق منع ألياف الكولاجين من الالتصاق ببعضها البعض، والتي يمكن بعد ذلك تزييتها عن طريق نقعها بالدهون مثل الشحوم أو البيض أو الزيوت المستحلبة. تشتهر هذه الصناعة بكونها ضارة و ذات روائح مزعجة وغالبًا ما تقع في عكس اتجاه الرياح من أي مناطق سكنية. تتضمن الدباغة عمومًا الكثير من عمليات الغسيل والنقع والكشط والتمديد والضرب والتعليق، وتشمل عوامل كيميائية قوية مثل الملح أو الجير المطفي، أو التخمير بواسطة الإنزيمات المُشتقَّة من النباتات مثل لحاء الأكاسيا، أو بول الحيوانات أو الروث، بالإضافة إلى تطبيق محاليل الدهون والتدخين والتلوين. تنطوي عملية الطهي على العديد من العوامل التي تعتمد على خصائص الجلد الأصلي، ويؤثر كل منها على جودة المنتج الجلدي النهائي.
جلد الأبقار كثيف وسميك ومرن أكثر من الجلد الخام، لكنه صلب وتصعب خياطته، بينما جلد الماعز والأغنام أرق وأسهل في التعامل، لكن جلد الماعز أكثر متانة ومرونة، مما يجعله مثاليًا لأحزمة الصنادل، إذ يحتفظ بشكله لفترة أطول. كان للنوبيين القدماء استخدامات محددة جدًا لجلود الحيوانات.
كان اختيار نوع الجلد المستخدم في هذه الاستخدامات دقيقًا ويعتمد على عدد من العوامل العملية والثقافية ذات الصلة. لإنتاج الجلد النوبي الفاخر منزوع الحبيبات، جربت الباحثة لوسي أنواعًا مختلفة من الجلود، بما في ذلك جلود الغزلان والأغنام والماعز، وتوصلت إلى أن الأغنام الصحراوية، التي تمتلك شعرًا خشنًا بدلًا من الصوف، كانت الأرجح أن تكون المصدر المستخدم في العصور القديمة. هذه السلالة لا تزال مفضلة في السودان اليوم، وكانت شائعة في النوبة القديمة.
اقتَرحت أن خبرة صنع الجلود التي طورها النوبيون القدماء يمكن أن ترتبط بتفضيلهم لرعي الأغنام بدلاً من الماعز، حيث تتناسب هذه الحيوانات بشكل أفضل مع نمط حياة شبه البدوية. الأغنام أسهل توجيهًا وأقل عرضة للتوهان، كما أنها لا تنافس الإنسان في غذائه بل تتغذى في الغالب على الأعشاب.
كان المناخ النوبي جافًا (وما زال كذلك) ويتناسب بشكل أفضل مع الرعي شبه البدوي أكثر من الزراعة المستقرة. كانت سلالات الحيوانات مثل الأغنام الصوفية مناسبة تمامًا لتلك البيئة الصحراوية. كانت الجلود المستخدمة في إنتاج الملابس الجلدية تعتبر منتجًا ثانويًا مريحًا بجانب الحليب واللحوم التي تنتجها الأغنام. أدت الأمطار القليلة المستمرة ودرجات الحرارة العالية في الصيف إلى أن معظم النوبيين لم يكونوا قادرين على زراعة المحاصيل الزراعية طوال العام حتى فترة مملكة مروى، عندما تم إدخال طرق الري. كانوا محدودين بشهور الشتاء، بعد الفيضانات السنوية للنيل. بدلاً من ذلك، كانوا ينتجون بعضًا من أفضل الأعمال الجلدية في العالم القديم.
المتحف الإثنوغرافي، بالخرطوم
كان لدى المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم مجموعة رائعة جدًا من المنتجات الجلدية التي تم جمعها على مدى القرون السابقة. كانت تروي قصصًا حقيقية عن الثقافة والبيئة، وكيف تغيرت ولا تزال تتغير، عبر السنين. وإن احتمال فقدانها لأمرٌ محزن.


سرج الجمل

سرج الجمل
هو أداة تقليدية تُصنع من عيدان الأشجار الصلبة مثل المهوقني والحميض والجوغان. يتكون من ثلاث قطع وهي: الجالسة، القائم، والضلفة. يُجلد بجلد الأبقار أو الإبل ويوضع على سنام الجمل بغرض توفير ركوب مريح. يُرصّع بالكباسين والأبزيم لأغراض تجميلية. هذا السرج من إنتاج مجتمع الأبالة.
تم بيعه لمتحف شيكان من قبل صالح الجلخ.
هو أداة تقليدية تُصنع من عيدان الأشجار الصلبة مثل المهوقني والحميض والجوغان. يتكون من ثلاث قطع وهي: الجالسة، القائم، والضلفة. يُجلد بجلد الأبقار أو الإبل ويوضع على سنام الجمل بغرض توفير ركوب مريح. يُرصّع بالكباسين والأبزيم لأغراض تجميلية. هذا السرج من إنتاج مجتمع الأبالة.
تم بيعه لمتحف شيكان من قبل صالح الجلخ.

هو أداة تقليدية تُصنع من عيدان الأشجار الصلبة مثل المهوقني والحميض والجوغان. يتكون من ثلاث قطع وهي: الجالسة، القائم، والضلفة. يُجلد بجلد الأبقار أو الإبل ويوضع على سنام الجمل بغرض توفير ركوب مريح. يُرصّع بالكباسين والأبزيم لأغراض تجميلية. هذا السرج من إنتاج مجتمع الأبالة.
تم بيعه لمتحف شيكان من قبل صالح الجلخ.
صانِعَة السعف
صانِعَة السعف
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور
كنتُ كلّما تأتي الإجازة وأذهب إلى بيت حبوبتي "جدتي" عشة، لا يستهويني اللعب مع الأطفال كعادة بنات سني، فقد كنت أحب أن أتابعها وهي تنسج السعف. أوراق النخيل أو جريد شجرة الدوم هو مصدر السعف الذي نستخدمه في منطقتنا، فقد اشتَهرت نساء ولاية نهر النيل بصناعة العديد من منتجات السعف؛ كالطبق، والبرش، والقفاف.
كنت أُتابع جدتي بشغف شديد من بداية جلبها له من السوق كمادة خام حتى ترجعه للسوق كمنتج مُكتمل. كنت أصحو مبكراً جداً قبل أن تنتبه أمي أو أهل البيت، فإن تمَّ القبض عليَّ يتم منعي من الذهاب معها إلى السوق. أتحرّك بهدوء، أرتدي أقرب شيء تقع عليه عيني بأقصى سرعة وأنتظرها عند الباب. أذكر ابتسامتها التي لا تخلو من سخريتها المعهودة، تمسك يدي بإحدى يديها وبالأخرى تحمل سلتها التي صنعتها بنفسها من السعف وتُسمَّى عندنا (القفة).
المشوار ليس بالقريب لكن لا يمكنني التذمر، أظل صامتة حتى نصل إلى سوق السبت. سوق السبت هو أكبر أسواق تلك المنطقة، أولى تحذيراتها ونحن على أعتابه أن لا أفك يدها وإلا سوف أضيع منها، أقول تحذير ولكنه أقرب للهمس. نتّجه بعدها لزبائنها المعهودين، تعرفهم ويعرفونها، وبعد أن نشتري كل ما يستلزم أخذه نرجع إلى البيت وعادة يكون وقت الضحى. تبدأ بعدها في تجهيز المكان وترتيب أدواتها التي تحتاجها.
كانت حبوبتي عشّة مشهورة بعمل البروش وسجادة الصلاة والقفاف. تبدأ مراحل تجهيز السعف بكسر إحدى جوانبه التي تكون حادة جداً كي تستخدمه كإبرة للخياطة، وبعد ذلك يوضع السعف في الماء كي يبتل، ويساعد ذلك في عملية النَسْج حتى لا يتكسَّر عند صناعة أي مُنتج، أما المكان فقد كانت هناك غرفة في ركن بيت جدي مُخَصَّصة لأعمال السعف، عندما يبدأ العمل يتم إخلاء أثاث الغرفة بالكامل وتُغرس فيها أربعة أوتاد في أركان الغرفة الأربعة، بعد ذلك يُربط طرف السعف في إحدى الأوتاد وتبدأ في نسجه. لا أذكر تماماً كيف يتم النسيج عملياً لكن لا أنسى كيف كنت أنبهر بفن وعبقرية الصانعة، ومهارة لا تعرفها سوها. كنت أراقب فقط، أنظر لتجاعيد يدها وهي تتحرَّك يميناً وشمالاً وكأنها شابة في عمر العشرين، لا ترفع بصرها إلا لمسح حبات العرق من جبينها أو لشرب ماء. وعندما تصل لمرحلة تجد نفسها تحتاج إلى قسط من الراحة تذهب إلى مظلّتها مع أبنائها وأحفادها برهة، بعدها تعود مرة أخرى لتتم ما بدأته إلى أن يكتمل نسج برشٍ كامل، لا تعلم ولا نعلم قَدَر هذا البرش عند بيعه في السوق، هل يُشتَرى لسقف بيت أم لحمل نعش أم لفراش بيت جديد؟ لا نعلم، كلها مقادير عند الله.
أحياناً أطلب منها أن تدعني أجرّب معاها عمل ضفيرة واحدة من السعف. في البداية كنت أجد صعوبة، ولكن رويداً صرت أستطيع أن أُتقن فن صناعة الضفيرة، كان أكثر شيء تنشط في صنعه هو السلة "القفة" لأنها أسهل وأكثر طلباً في السوق. وكانت تفرح عندما يأتيها طلب بمبلغ كبير وكثير العدد، تذهب إلى رفيقاتها وتطلب منهنّ مشاركتها العمل وتقسيم المبلغ فيما بينهن، هكذا تكون الاشتراكية الجميلة، أذكر تماماً أنها كانت من النساء اللائي تعطي يمينهنّ ما تخفيه عن يسارهنّ. لم تُرزق جدتي ببنت، إلا أنها كانت قد نذرت أن تصنع لكل فتاة مقبلة على الزواج برشاً خاصَّاً يُسمى "العتنبة"، وهو برش ملوّن تجلس عليها العروس قبل عرسها استعداداً للزواج، تصنعه مجاناً هدية منها لأي عروس من عائلتها.
تختلف طريقة صنع برش العروس عن البرش العادي. فبعد أن يتم بل السعف وقبل أن يتم ضفره، يصبغ بصبغات عدّة، عادة هي ثلاثة ألوان أو أربعة يطغى عليها الأحمر والأسود والأصفر وأحياناً البنفسج. كما في بعض الأحيان تتم زركشة أطرافه بشرائط فضية أو ذهبية. وقد كان البرش أيضاً متمركِزَاً في رقيص العروس، وهي إحدى العادات السودانية التي تتم بعد عقد القران، وكانت تجري العادة بأن ترقص العروس بعد أن تدرَّبت على الرقص منذ فترة، وفي يوم الاحتفال تؤدي رقصتها وهي تقف على البرش الملوّن والمزركش، ولكن كان هذا في الزمن الماضي وقد تغيرت العادات الأن.
من الأشياء التي كانت تستهويني هي طريقة صناعة الطبق و"الريكة". الطبق هو غطاء الطعام عادة يستخدم لتغطية صواني الأكل، أما الريكة فهي وعاء كبير يُستخدم لحفظ الخبز والكسرة والقراصة. وتبدأ مراحل صنعهما كمراحل البرش والقفة، فيوضع السعف في الماء حتى يلين وبعد ذلك تختار جريدة من السعف وتكون طويلة حسب المقاس الذي تريده، وتبدأ بلفها وطيها بشكل حلزوني إلى أن تصل إلى آخر صف. ويتم "شف" أطراف الجريد، وهي طريقة تشبه الحياكة تُثَبِّت كل جوانب الطبق. وتتم حياكة الطبق بالسعف الملون، أما الريكة ففي الغالب تكون بلون السعف نفسه.
الطبق هو أداة وطنية بامتياز، يُستخدم في كل أنحاء السودان. إلا أنه يختلف من منطقة إلى أخرى من حيث المقاس والألوان ونوع سعف الشجر المستخدم. لقد سافرت عبر السودان لسنوات عدة مع رحلات شورتي وكانت رحلة "من النيل للبحر" بمثابة رحلة عبر الذكريات مع السعف وحكاية حبوبة. ففي مدينة عطبرة إحدى محطاتنا في ذاك العام وجدت القفاف والبروش وسجادة الصلاة وكل ما كان يُصنَع ذات يوم في غرفة جدتي حاضراً ومازال يُستخدم بين الناس في ولاية نهر النيل.
رأيت لمحة عما يحدث بعد أن كنَّا نأخذ منتجات جدتي إلى السوق، وأخذتني الذكريات لحين يأتي أوان أخذ منتجاتها إلى السوق تحديداً، ويختلف الوضع عن باقي زياراتها لسوق السبت، فهذه المرة تحتاج مزيداً من الأيدي لحمل أشيائها، وأباشر أنا بالاستعداد للعب هذا الدور قبل مدة وذلك بأن أسمع وأُطيع كل ما يُطلب مني حتى لا يتم عقابي بحرماني من الذهاب إلى السوق. ويوم السبت وأنا أطير فرحاً في طريق ذهابنا إلى السوق، وأنا أعلم أن في رحلتنا هذه سنمكث فترة أطول من المعتاد حتى نتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة من المنتجات.
في السوق تَعرِف كل بائعة مكانها، ولا يمكن أن تجد إحداهن مكان أخرى. و تبدأ كل واحدة فيهن بعرض منتوجها من السعف بمختلف أشكاله ولكل واحدة منهن زبائنها. لازلت أذكر كيف لكل واحدة أسلوبها الخاص في كيفية العرض وكيفية إقناع الزبائن بأن بضاعتها الأفضل والأحسن جودة والأجمل.
ليست الطباقة فقط، فكل صناعة السعف -من قفاف وبروش وسلال وغيرها- هي ثقافة منتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافات عدة من مكان إلى آخر. أذكر من ذلك رحلة شورتي إلى مدينة الفاشر، وتطبيقاً لواحد من أهداف شورتي وهو دعم المنتجات المحلية للمناطق التي نزورها، تعرفت على صناعة السعف هناك. واشترينا من أسواق الفاشر سلة من السعف تسمى محلياً المندولة، وهي تختلف عن القفة التي أعرفها في ولاية نهر النيل فهي كثيرة الألوان، أكثر سماكة، وتختلف طريقة نسجها. وبطريقة مشابهة في رحلة "العصا الرويانة" التي كانت زيارة إلى مناطق حلفا الجديدة وكسلا والقضارف، أذكر أن لَفَتَ نظرنا عند أهالي حلفا طبق يُستخدم في غطاء الأكل من السعف يسمى عندهم "شور"، وفي كسلا وجدنا قفافاً تُسمَّى عند أهلنا البجا "بيليب".
ليست هناك صدفة في الوجود فكل حركة هي تدبير من الله، علاقتي مع السعف بدأت منذ طفولتي في بيت حبوبتي صانعة السعف وكيف كان يستهويني عملها وبيعها للمنتجات في السوق، حتى كبرت وبدأت أسافر حول السودان في الولايات المختلفة وفي كل مكان في السودان كنت أجد فيه صناعة السعف أقف وأتذكر طفولتي وبيت حبوبتي وسوق السبت.
ولكلّ مكانٍ حكاية.
محتوى اضافي: فيلم وثائقي عن حصر عنصر الشرقانية بمدينة الأبيضتم تصوير هذا المقطع كجزء من مشروع توثيق التراث الثقافي غير المادي الذي يقوم به متحف شيكان في الأبيض، والذي يعمل على صون التراث داخل المجتمعات النازحة بسبب الحرب التي اندلعت في عام ٢٠٢٣. © أماني بشير، متحف شيكان، تسجيل التراث الثقافي غير المادي، الشرقانية، الأبيض، ديسمبر ٢٠٢٣
صور المعرض من المجموعة الخاصة بالمشروع.
صورة الغلاف © شركة مالينسون للهندسة المعمارية، متحف نورة، نيالا، دارفور

تمثال ضفدع

تمثال ضفدع
تمثال ضفدع برونزي، حصلت عليه مصلحة الآثار، ١٩٥٩-١٩٦٠.
يشبه هذا تمثال ضفدع أكبر حجمًا من الحجر، وهو رمز لإلهة الماء هيكت المرتبطة بالمراحل الأخيرة من فيضان النيل. هيكت معروفة منذ ٥٠٠٠ عام في مصر. في السودان، كانت تمائم الضفادع رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة والحظ السعيد. كانت الضفادع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدورة الكلية لفيضانات النيل ومصادر المياه الأخرى. ود بانقا. فترة مروي.
مجموعة متحف شيكان
SHM-00062/9/30
تمثال ضفدع برونزي، حصلت عليه مصلحة الآثار، ١٩٥٩-١٩٦٠.
يشبه هذا تمثال ضفدع أكبر حجمًا من الحجر، وهو رمز لإلهة الماء هيكت المرتبطة بالمراحل الأخيرة من فيضان النيل. هيكت معروفة منذ ٥٠٠٠ عام في مصر. في السودان، كانت تمائم الضفادع رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة والحظ السعيد. كانت الضفادع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدورة الكلية لفيضانات النيل ومصادر المياه الأخرى. ود بانقا. فترة مروي.
مجموعة متحف شيكان
SHM-00062/9/30

تمثال ضفدع برونزي، حصلت عليه مصلحة الآثار، ١٩٥٩-١٩٦٠.
يشبه هذا تمثال ضفدع أكبر حجمًا من الحجر، وهو رمز لإلهة الماء هيكت المرتبطة بالمراحل الأخيرة من فيضان النيل. هيكت معروفة منذ ٥٠٠٠ عام في مصر. في السودان، كانت تمائم الضفادع رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة والحظ السعيد. كانت الضفادع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدورة الكلية لفيضانات النيل ومصادر المياه الأخرى. ود بانقا. فترة مروي.
مجموعة متحف شيكان
SHM-00062/9/30