حصاد التمر
موسم الحصاد موسم مبارك، تكسوه الوَفَرَة ويغتني الناس مؤقتاً، وتَكثُر فيه المناسبات
/ الاجابات
حش التمر
البركل ، الشمالية ، السودان ٢٠١٥
زينب عثمان محجوب ودكتور عثمان محجوب جعفر
على شريط النيل في مناطق شمال السودان، قد تتشابَه المناظر من على البعد، من خرائط غوغل مثلاً؛ فتظهر الجنائن والسواقي وهي تُكَحِّل تعرُّجات النيل، كما تظهر القرى التي يطغى عليها اللون البني متاخمةً لهذه الجنائن. قد تتشابه، لكن تختلف القرى والقبائل والتقاليد وحتى اللغات في هذه المساحات الشاسعة من أرض السودان؛ حيث أن هناك تنوعاً بديعاً على الأرض.
البركل واحدة من تلك البلدات، بها نفس سواقي النخيل التي يسكنها أهل "بلد بي تحت"، وتحيط بها بلدة "بي فوق"، وهم ساكنو المناطق العالية البعيدة عن النيل. أحد المعالم المعروفة للمنطقة هو جبل البركل، وهو عبارة عن مسطبة صخرية ترتفع لأربعة متر ومائة، وعلى جانبها تبرز صخرة تشبه المئذنة، كانت منحوتة بالسابق تعرف "بالشريمة"، كما يسميها الشامتون، ومن ذلك قول شاعر الشايقية الأشهر حسونة مبدياً خيبة أمله في أحد كبراء البركل:
جبل البركل ياهو اب شريمة
الكلام جبل ابنعوف سافل حزيمة
ويمكن رؤية معبد آمون، الذي بناه بعانخي وابنه تهارقا (ترهاقا)، على جانب الجبل. هو وصف الكباش الذي اختفى بظروف غامضة. تتناثر بعض الأهرامات حول الجبل، والبلدة بأسرها تقع على أرض عاصمة كوش في عهد مملكة مروي.
على بعد كيلومترين تقريباً جنوب الجبل، وعلى الطريق الرئيسي، يوجد منزل جدي محجوب جعفر مصطفى، الذي يقطنه ويدير أمره عمتي رقية. البيت وعمتي معالم تُضَاهِي المعالم المذكورة سابقاً في الأهمية، على الأقل فيما يخص السرد التالي. سأروي أحداث زيارتي للبركل في العام ٢٠١٥م، للمشاركة في موسم حصاد التمر أو كما يُسمَّى بـ"حشّ التمر". يحتوي النص أيضاً على مداخلات من والدي دكتور عثمان محجوب جعفر لغرض مراجعة دقة المعلومات، فخبرتي التي كَوّنتها في ١٠ أيام لا تضاهي خبرته وهو من تربى في هذا البيت وعلى هذه الأرض.
يبدأ حصاد التمر في منطقة البركل في شهر سبتمبر أو شهر "نسيئ" كما يُسمَّى في الشهور القبطية المصرية، وهي شهور ما زالت تُستَخدم لغرض الزراعة والحصاد في أغلب مناطق شمال السودان؛ حيث تتزامن الشهور مع ظهور تغيُّرات واضحة للطقس تعرف بها المواسم. التمر في البركل هو من نوع التمر الجاف، أي أنه يُترَك حتى ينضج ويجفّ قبل حصاده، وبالتالي يَسهل حفظه وتخزينه مما يجعله مناسباً أكثر للتجارة. التمر الرطب هو تمر يحصد حين يكون أكثر ليناً، ويُحفَظ في قُفَف تُرَصّ فوق بعضها البعض، ويُترَك حتى يصبح رطباً، وهو أمرٌ غير متعارف عليه في شمال السودان. وهناك تمور شبه رطبة في مناطق الرباطاب والجعليين بنهر النيل، تُصنَع منها العجوة، مثل المشرق وود لقاي وود خطيب.
كانت المنطقة أكثر أماناً في الماضي، لكن لحدوث بعض التغيّرات حديثاً، أصبح هناك تقليد بحراسة التمور وتحديد يوم معين لبدء الحصاد لتفادي السرقات، حيث يتمّ تحديد يوم معيَّن لبدء موسم الحصاد، وهناك يوم لكلّ ساقية حتى يُعرف أن صاحب الساقية هو من يقوم بالحصاد أو الحش. في العام ٢٠١٥م تحديداً كان اليوم هو الثامن عشر من شهر سبتمبر للساقية التي تقع فيها أراضي أسرة جدي، نزلنا في الصباح الباكر، أنا وعمتي حفصة رحمة الله عليها، وهي كانت وليّة أمر التمر للأسرة جميعاً وسيدة أعمال ممتازة. نزل معنا القَفَّاز وأسرته. القَفَّاز هو عادة شريك لصاحب التمر في العناية بالتمر وحصاده، يأتي اسمه من القفوزة، وهي عملية تلقيح التمر، حيث يُغرَس ضكر النخل -وهو عزق من النخلة الذكر- في السبيطة الأنثى، وتتم هذه العملية قبل عدة شهور في بداية العام، أي في الشتاء، لتُسَاهم في إنتاج التمر بصورة صحيحة.
في طريقنا للتمر في "بلد بي تحت"، كان يوجد صفٌّ من الشبَّان، يجلسون على الأرض على الشارع الرئيسي، وقبالة المزارع ينتظرون فرصة العمل، لم نكن أنا وعماتي الإثنتين، حفصة وعائشة، رحمهما الله، الوحيدين الذين قد أتوا في الأيام السابقة لموسم الحصاد. نحن أتينا من الخرطوم، لكن هذا الصف من الشبان كانوا قد أتوا من الصحاري الممتدة في شمال السودان، وهي غير فارغة من السكان على عكس ما تبدو. ففي موسم الحصاد يخيّم العرب الرحل والحلب (النور) على أطراف المدينة. يعمل الرجال في الحصاد، والنساء يَعمَلنَ في أعمال صغيرة مُتَفَرِّقة في المنازل، أو رمي الودع، أو في تلقيط التمر. كان الشاب الذي أجَّرَته عمتي من غرب إفريقيا قد جاء لشمال السودان لطلب العلم في الخلاوي ومدارس القرآن، وجاء، هو وأصحابه، للعمل من أجل تجميع أجرة تساعده مالياً في الشهور القادمة. موسم الحصاد موسم مبارك، تكسوه الوَفَرَة ويغتني الناس مؤقتاً، وتَكثُر فيه المناسبات حتى في عامنا ذاك، فتزامن تواجدنا مع عدة أعراس في الحِلَّة، كما يأتي الموظفون في العاصمة وغيرها من المدن الكبيرة والمغتربون، عادةً، في إجازاتهم السنوية للزيارة وحش التمر. لفرحة الأطفال سببان، أولهما أن موسم الحصاد هو إجازة رسمية من المدارس، حتى يساعدوا أسرهم في الحصاد، والثانية أن الأطفال لديهم أجرة في التلقيط؛ سواء من عملهم مع أسرتهم أو من تجميعهم لتمر الهبوب، وهو التمر الذي يتساقط على الأرض من أثر الريح القوية، لا يكون هذا التمر عالي الجودة، لأنه يكون غير مُتَجَانِس، إلا أن البعض من الأطفال كان ينتهز هذه الفرصة ليزيد كوم بلحه المنشور في ركن منزلهم.
تختلف طريقة دفع أُجرة مختَلَف نوعيَّات الشخصيات المشاركة في الحصاد؛ فالقفاز، عادةً، يأخذ أجرته في شكل تمر، حيث أن له سبيطة أو سبيطتان من كلّ نخلة، حسب الاتفاق، وحسب طول النخلة. السبيطة هي عرجون النخل، أما المُلقطون بعضهم يفضّل المال، خصوصاً في الأعوام الأخيرة، ويأخذ أجرته باليوم، أما الأطفال وصغار الملَقّطين فأجرتهم بالمكيال. فهم يقومون بتجميع التمر المتساقط بعيداً حتى أن يتِمُّوا "كيلة"، والكيلة هي صفيحة تساوي مقدار رُبعَين، والرُّبع به ملوتان، وجوال التمر في الغالب به ستّ كيلات، وكل هذه مقاييس قديمة للمكاييل لا تخلو من الأثر الإسلامي، وفي نهاية الموسم يشتري الكبار هذه الكيلات من الصغار.
وصلنا نحن ووفدنا الصغير للساقية لبدء عمليَّة حش التمر. تُقسَّم الحيازات الزراعية في شمال السودان الى سواقي، والساقية هي قطعة من الأرض تساوي مساحة ما يُمكِن سقايته بآلة ساقية واحدة. في الماضي، وبعد أن اختفت الساقية واستُبدِلَت بوابورات، لم يختف الاسم وظلَّ مقياساً حتى الآن. تساوي الساقية تقريباً مساحة عشرين إلى ثلاثين فداناً. والفدان به أربع وعشرين قيراط، والقيراط به 24 سهم، ويتم تقسيم الساقية إلى حبالٍ وعضام، وهي أطوال تُحدَّد حسب الساقية، والسعيد صاحب الأربع وعشرين قيراط بجميع أنواعه. بعدها يتم تقسيم هذه المساحة لشريط طويل من الأحواض يُسمَّى الإنقاية، ويُسقَى هذا الشريط بجدولٍ موازٍ له. يكون ضلع الحوض الواحد عادة في حدود الخمسة إلى ستة أمتار، وفي منتصفه نخلة واحدة، في بعض الأحيان تُوضَع نخلتان في الأركان.
تُسمَّى النخلة الأم "أمية"، وتَنبت بجانبها فسائل صغيرة تُسمَّى "البنات". عادة يُترَك عددٌ قليل، ثلاث أو أربع منهنَّ، لتَونِيس الأم، وتَتِم إعادة شَتل البقيَّة في مكانٍ آخر. يتشابه النخل كثيراً مع البشر؛ فهو يُعمِّر ليصل مئة عام، ولا يتوقف عن النمو، وبعد فترة يصعب الوصول إلى قمة التمر، فتسلُّق النخل في منطقة البركل يتم من غير استخدام أية أدوات مُسَاعِدَة -كحبل أو سلّم- بل يُترَك جذع الجريد "الكروق" بارزاً عندما يتمّ قطعه، ويَستَخدِم الحشَّاش تلك الأجزاء البارزة لطلوع الشجرة، كلّما كَبُرت النخلة يضعف الجريد ويتساقط المتسلّقون.
بعد أن تَسَلَّق القَفَّاز النخلة، شَدَّ بقيّةُ العمال قطعةً من المشمّع أسفلها. وقام القَفَّاز أوّلاً بقطع وإنزال سبيطته، وبعدها قَطَع باقي السبائط لصاحب الأرض، بعدها قام الملقّطون -ومنهم أنا، لقد وُعِدتُ بكيلة من التمر إذا ساعدت بجمع التمر المتساقط- بـ"خرت" التمر من السبائط، أي ضربها على الأرض حتى يتساقط كلّ التمر، ثمّ يُنزع التمر المتبقّي باليد، ويُجمع في منتصف المشمع ويُصبّ في الشوالات. وعلى الرغم من شَكل شوالات الخيش المحليّ للغاية، إلا أنها ليست كذلك؛ ظَهَرت هذه الشوالات للمرة الأولى في عهد الاستعمار الإنجليزي، حيث تمّ وما زال يتم استيراد هذه الشوالات من الهند. حاول مصنع الكناف في النيل الأزرق -سبعينات القرن الماضي- أن يغطّي حاجة السوق من الجوّالات، إلا أنه توقَّف منذ سنوات عدة. والآن تُستخدم أحياناً جوالات من البلاستيك المصنوع في السودان. بعدها يُخاط الشوال بالعرجون أو بالسلك الحديدي، ويُحمل إلى المنزل.
كان امتلاء الشوّال علامةَ توقّفنا عن العمل للراحة، فافترش الجميع الأرض وجاء الغداء أو الفطور المتأخّر مُرسَلاً من منزلنا، كما هو معتاد: قرّاصة وملاح ويكة، تليها قيلولة. يكون للمطعمين في المنزل أيضاً أجرٌ في نهاية الموسم، فلا أحد يعمل مجّاناً في موسم الحصاد. عدنا للمنزل في آخر اليوم يلحقنا جملٌ فوقه شوّالات التمر إلى داخل المنزل، خلال الباب الذي يفَوِّت جَمَل كما كان يحدث في بيت جدّي الأكبر العمدة جعفر ود مصطفى ود محمد قبل أكثر من ستين عاماً. أُنزِلت الشوالات في الحوش، أو الفناء، ثمّ فُرِشَ البلح تحت الشمس ليجفّ تماماً.
يخاف الناس عادةً أن يَهطل المطر فجأةً فيفسد المحصول، لأنّ موسم حشّ التمر هو موسم الأمطار أو الخريف، فبعضهم يطلبون من الشيوخ أو الفقراء أن يُمسكوا المطر، أو "حوالينا ولا علينا" كل ما أتت السيرة. بجانب كَومنا الجديد كانت هناك كومة أخرى لعمتي الأخرى عائشة، والتي كانت قد أحضرت قبل وصولنا من "سواقي" أخرى تملكها أسرة زوجها محمد الأمين شريف، رحمهما الله. وجدنا عمتي عائشة جالسة وهي فخورة بجانب تمرها القنديلة عالي الجودة، وهو ما يُسمَّى تَمر الأكل، مثل التَمودَة والكُلمة، وهي تُمور تُنتَج بكميّات أقل، وتُوَزَّع في نطاقات محدودة، أما كومتنا فكانت من "البركاوي"، وهو صنف التمر التجاري حيث يُنتَج بكميات كبيرة، ويتم تصديره في أنحاء السودان المختلفة، أما "الجاو" فهو تمر أقل جودة يُبَاع لمن لا يهتم بمدى جودة التمر.
خلال تواجدي تلك الأيام العشر، لم يكن هناك موضوع أكثر أهمية من التمر وأحواله. فربما يسألك الضيوف والمارة وحتى صاحب الدكان كم حصدت؟ وكيف كان الموسم؟ هل شال التمر أم لم يشيل؟ و"الشيل" هو درجة امتلاء السبيطة بالتمر. وإذا لم يكن التمر شايلاً هذا العام يتناقش الجميع في مجالسهم حول السبب. قد يكون السبب هو التغير المناخي كما قالت عمتي رقية في إحدى الجلسات، أو أن بحيرة السد قد زادت الرطوبة. على كل حال التمر كان هو سيّد المواضيع، لم يَفُقهُ أهميةً في لحظةٍ ما غير قطٍّ سيء السمعة، سرق سمكاً من إحدى جاراتنا واستولى على مطبخنا عدة مرات.
في يومنا الثاني من العمل، تحوَّل المنزل إلى بيت عرس؛ حيث جاءت نسوة الفريق لخبز بسكويت شاي عرس ابن إحداهن في فرننا الكبير، والذي يعمل بالغاز، ليس كالمواقد القديمة التي تَعمل "بالواقود" -أي جريد النخل الجاف- خاصةً "الكود"، وهو الجزء العريض من الجريد أو العراجين المُجَفَّفَة التي نَجَت من عملية تحويلها إلى لعب أطفال، كلعبة الطاب القديمة أو سيطانٍ لجَلْد ذات الأطفال. كما هي عادة بيوت الأعراس امتلأ المنزل بالضحك والمكاواة والغناء، في المطبخ الخارجي عَمِلَت النساء بمكنة البسكويت، وجاءت أخريات للونسة في البرندة، كما أَحضَرت صاحبة المناسبة صواني الغداء من منزلها لإطعام الضيوف، مثلها مثل التمر، صاحب الأمر دائماً من يجب عليه إطعام الجميع.
لو اتكَأتَ بجانب إحدى المستلقيات في البرندة، ستجد نفسك تنظر للعرش البلدي. بلديَّاً كانت تُعرَش المنازل، بماذا؟ طبعاً جذوع النخل، حيث يُقطَّع الجذع طوليَّاً إلى أرباعٍ أو أسداس، تُسَمَّى الواحدة منها "فَلقة”. وتكون الإنشاء الرئيسي الذي يُبنَى عليه السقف. بعدها يوضع فوقه جذع الجريد بعد أن يُنَقرَش أو يُزَال منه الصفق الأخضر بعد أن يُرمَل، أو يربط مع بعضه. وسابقاً، كان الجريد الأخضر يُباع عادةً بالألف حبّة، تُقطع من النخيل أثناء تنظيفه خارج موسم الحصاد حتى لا يتضرَّر التمر، أما الآن، فيدفع أصحاب النخيل للعمّال ليقطعوا الجريد. يوضَع فوق الجريد السعف والطين، ثم توضع أخيراً مخلَّفات الحيوانات أو الزبالة، وهي عادةً بقايا الحمير. قبل الخريف تتكرَّر هذه العملية للسقف والحوائط قبل أن تُدهَن الجدران باللون الأبيض، كما تُفتَح السبلوقات لتصريف المياه، فالماء الراكد والرطوبة هما أعداء منازل الطين.
انتهى الموسم وجاءت المرحلة الثانية، وهي تعبئة وتوزيع التمر، "ناس العُبوَّة" هم عُمَّال مَهَرة يفرزون التمر سريعاً ويعبؤونه، حيث يُلقى بالتمر السيء "الكرموشة" للبهائم والأغنام. وفي الزمان السابق كان يتم تخزين التمر في صوامع تختلف أحجامها، مصنوعة من الطين ومرفوعة من الأرض، تُسمَّى القُسِيْبة أو القُوسِيْبَه، تُستَخدَم أيضاً لتخزين المحاصيل كالقمح، ولا تزال القَسَاسِيب مُستَخدَمة في بعض قرى الشمال. أما في منطقتنا فيوضع التمر في شوَّالات مُحكَمة، مرفوعة فوق جذوع الشجر أو كَمَر الحديد بعيداً عن الماء والحشرات، ويُغطَّى بغطاءٍ بلاستيكيّ من أعلى.
"تمر المشرف، العَلولو سامو
القبل ما ينَجّض السبابة حاموا
السعيد في الدنيا ياخد قدر أيامو
وعليك يا الله مو عارف القدامو"
(شاعر شايقي قديم)
للتمر متاجرون متعدّدون، أكثريتهم من السبابة؛ وهم وسطاء يشترون التمر من صغار البائعين والملقّطين، ويبيعون التمر لتُجَّار السوق. الفَرَّاشة يشترون التمر لبيعه بالقطاعي. أما التجار الكبار فيخزِّنون التمر في مخازن كبيرة ويبيعونه لتُجَّارٍ آخرين في مدنٍ كبيرة؛ مثل الأبيض والفاشر ونيالا ومدني والدمازين والنهود وغيرها. في السابق كان التمر يُرَحَّل عن طريق النقل النهري عبر البواخر إلى كريمة، ومنها بالقطار لكلّ هذه المدن عبر السكة حديد، وفي النيل الأبيض من كوستي للجنوب بالبواخر وعبر الطرق الكثيرة التي تصل السودان ببعضه. وللتمر سوق كبير في شرق السودان أيضاً حيث يتم تناوله مع القهوة، ويتم إيصال التمر لبورتسودان بالقطارات ويُباع بالقطاعي -بـ"الملوة"- في السوق.
في أواخر الخمسينات، أي في عهد حكومة الجنرال عبود ومع المعونة الأمريكية تم إنشاء مصنع تعليب التمور في كريمة. وَصَلَت الآليات من كاليفورنيا، وتم تجميعها بالمصنع، كان ينتج المصنع التمور المحشوة بالجوز واللوز وجوز الهند، ويُعَبَّأ في صناديق جميلة. كجزء من عملية التعبئة يتم تبخير البَلح لغسله وتنظيفه وتطريته، ليسهل حشوه وإزالة النواة، التي كانت تستخدم كأعلاف للحيوانات، كما ينتج المصنع السبيرتو الأبيض أو الكحول كمنتج ثانوي ويستخدم في المستشفيات في تطهير الجروح. توقف المصنع عن العمل فترة طويلة، إلا أنه عاد للعمل بصورة موسمية بأيدٍ سودانية محلية مع حصاد التمر.
عدتُ إلى الخرطوم ومعي كيلة من التمر، لم تكن أجراً لأنني لم أصمد في العمل أكثر من ربع يوم، كان أصعب مما تخيَّلت، بل كان "الشويويل" الصغير هدية من عماتي جزاء المحاولة على الأقل.
صورة الغلاف © زينب جعفر
حش التمر
البركل ، الشمالية ، السودان ٢٠١٥
زينب عثمان محجوب ودكتور عثمان محجوب جعفر
على شريط النيل في مناطق شمال السودان، قد تتشابَه المناظر من على البعد، من خرائط غوغل مثلاً؛ فتظهر الجنائن والسواقي وهي تُكَحِّل تعرُّجات النيل، كما تظهر القرى التي يطغى عليها اللون البني متاخمةً لهذه الجنائن. قد تتشابه، لكن تختلف القرى والقبائل والتقاليد وحتى اللغات في هذه المساحات الشاسعة من أرض السودان؛ حيث أن هناك تنوعاً بديعاً على الأرض.
البركل واحدة من تلك البلدات، بها نفس سواقي النخيل التي يسكنها أهل "بلد بي تحت"، وتحيط بها بلدة "بي فوق"، وهم ساكنو المناطق العالية البعيدة عن النيل. أحد المعالم المعروفة للمنطقة هو جبل البركل، وهو عبارة عن مسطبة صخرية ترتفع لأربعة متر ومائة، وعلى جانبها تبرز صخرة تشبه المئذنة، كانت منحوتة بالسابق تعرف "بالشريمة"، كما يسميها الشامتون، ومن ذلك قول شاعر الشايقية الأشهر حسونة مبدياً خيبة أمله في أحد كبراء البركل:
جبل البركل ياهو اب شريمة
الكلام جبل ابنعوف سافل حزيمة
ويمكن رؤية معبد آمون، الذي بناه بعانخي وابنه تهارقا (ترهاقا)، على جانب الجبل. هو وصف الكباش الذي اختفى بظروف غامضة. تتناثر بعض الأهرامات حول الجبل، والبلدة بأسرها تقع على أرض عاصمة كوش في عهد مملكة مروي.
على بعد كيلومترين تقريباً جنوب الجبل، وعلى الطريق الرئيسي، يوجد منزل جدي محجوب جعفر مصطفى، الذي يقطنه ويدير أمره عمتي رقية. البيت وعمتي معالم تُضَاهِي المعالم المذكورة سابقاً في الأهمية، على الأقل فيما يخص السرد التالي. سأروي أحداث زيارتي للبركل في العام ٢٠١٥م، للمشاركة في موسم حصاد التمر أو كما يُسمَّى بـ"حشّ التمر". يحتوي النص أيضاً على مداخلات من والدي دكتور عثمان محجوب جعفر لغرض مراجعة دقة المعلومات، فخبرتي التي كَوّنتها في ١٠ أيام لا تضاهي خبرته وهو من تربى في هذا البيت وعلى هذه الأرض.
يبدأ حصاد التمر في منطقة البركل في شهر سبتمبر أو شهر "نسيئ" كما يُسمَّى في الشهور القبطية المصرية، وهي شهور ما زالت تُستَخدم لغرض الزراعة والحصاد في أغلب مناطق شمال السودان؛ حيث تتزامن الشهور مع ظهور تغيُّرات واضحة للطقس تعرف بها المواسم. التمر في البركل هو من نوع التمر الجاف، أي أنه يُترَك حتى ينضج ويجفّ قبل حصاده، وبالتالي يَسهل حفظه وتخزينه مما يجعله مناسباً أكثر للتجارة. التمر الرطب هو تمر يحصد حين يكون أكثر ليناً، ويُحفَظ في قُفَف تُرَصّ فوق بعضها البعض، ويُترَك حتى يصبح رطباً، وهو أمرٌ غير متعارف عليه في شمال السودان. وهناك تمور شبه رطبة في مناطق الرباطاب والجعليين بنهر النيل، تُصنَع منها العجوة، مثل المشرق وود لقاي وود خطيب.
كانت المنطقة أكثر أماناً في الماضي، لكن لحدوث بعض التغيّرات حديثاً، أصبح هناك تقليد بحراسة التمور وتحديد يوم معين لبدء الحصاد لتفادي السرقات، حيث يتمّ تحديد يوم معيَّن لبدء موسم الحصاد، وهناك يوم لكلّ ساقية حتى يُعرف أن صاحب الساقية هو من يقوم بالحصاد أو الحش. في العام ٢٠١٥م تحديداً كان اليوم هو الثامن عشر من شهر سبتمبر للساقية التي تقع فيها أراضي أسرة جدي، نزلنا في الصباح الباكر، أنا وعمتي حفصة رحمة الله عليها، وهي كانت وليّة أمر التمر للأسرة جميعاً وسيدة أعمال ممتازة. نزل معنا القَفَّاز وأسرته. القَفَّاز هو عادة شريك لصاحب التمر في العناية بالتمر وحصاده، يأتي اسمه من القفوزة، وهي عملية تلقيح التمر، حيث يُغرَس ضكر النخل -وهو عزق من النخلة الذكر- في السبيطة الأنثى، وتتم هذه العملية قبل عدة شهور في بداية العام، أي في الشتاء، لتُسَاهم في إنتاج التمر بصورة صحيحة.
في طريقنا للتمر في "بلد بي تحت"، كان يوجد صفٌّ من الشبَّان، يجلسون على الأرض على الشارع الرئيسي، وقبالة المزارع ينتظرون فرصة العمل، لم نكن أنا وعماتي الإثنتين، حفصة وعائشة، رحمهما الله، الوحيدين الذين قد أتوا في الأيام السابقة لموسم الحصاد. نحن أتينا من الخرطوم، لكن هذا الصف من الشبان كانوا قد أتوا من الصحاري الممتدة في شمال السودان، وهي غير فارغة من السكان على عكس ما تبدو. ففي موسم الحصاد يخيّم العرب الرحل والحلب (النور) على أطراف المدينة. يعمل الرجال في الحصاد، والنساء يَعمَلنَ في أعمال صغيرة مُتَفَرِّقة في المنازل، أو رمي الودع، أو في تلقيط التمر. كان الشاب الذي أجَّرَته عمتي من غرب إفريقيا قد جاء لشمال السودان لطلب العلم في الخلاوي ومدارس القرآن، وجاء، هو وأصحابه، للعمل من أجل تجميع أجرة تساعده مالياً في الشهور القادمة. موسم الحصاد موسم مبارك، تكسوه الوَفَرَة ويغتني الناس مؤقتاً، وتَكثُر فيه المناسبات حتى في عامنا ذاك، فتزامن تواجدنا مع عدة أعراس في الحِلَّة، كما يأتي الموظفون في العاصمة وغيرها من المدن الكبيرة والمغتربون، عادةً، في إجازاتهم السنوية للزيارة وحش التمر. لفرحة الأطفال سببان، أولهما أن موسم الحصاد هو إجازة رسمية من المدارس، حتى يساعدوا أسرهم في الحصاد، والثانية أن الأطفال لديهم أجرة في التلقيط؛ سواء من عملهم مع أسرتهم أو من تجميعهم لتمر الهبوب، وهو التمر الذي يتساقط على الأرض من أثر الريح القوية، لا يكون هذا التمر عالي الجودة، لأنه يكون غير مُتَجَانِس، إلا أن البعض من الأطفال كان ينتهز هذه الفرصة ليزيد كوم بلحه المنشور في ركن منزلهم.
تختلف طريقة دفع أُجرة مختَلَف نوعيَّات الشخصيات المشاركة في الحصاد؛ فالقفاز، عادةً، يأخذ أجرته في شكل تمر، حيث أن له سبيطة أو سبيطتان من كلّ نخلة، حسب الاتفاق، وحسب طول النخلة. السبيطة هي عرجون النخل، أما المُلقطون بعضهم يفضّل المال، خصوصاً في الأعوام الأخيرة، ويأخذ أجرته باليوم، أما الأطفال وصغار الملَقّطين فأجرتهم بالمكيال. فهم يقومون بتجميع التمر المتساقط بعيداً حتى أن يتِمُّوا "كيلة"، والكيلة هي صفيحة تساوي مقدار رُبعَين، والرُّبع به ملوتان، وجوال التمر في الغالب به ستّ كيلات، وكل هذه مقاييس قديمة للمكاييل لا تخلو من الأثر الإسلامي، وفي نهاية الموسم يشتري الكبار هذه الكيلات من الصغار.
وصلنا نحن ووفدنا الصغير للساقية لبدء عمليَّة حش التمر. تُقسَّم الحيازات الزراعية في شمال السودان الى سواقي، والساقية هي قطعة من الأرض تساوي مساحة ما يُمكِن سقايته بآلة ساقية واحدة. في الماضي، وبعد أن اختفت الساقية واستُبدِلَت بوابورات، لم يختف الاسم وظلَّ مقياساً حتى الآن. تساوي الساقية تقريباً مساحة عشرين إلى ثلاثين فداناً. والفدان به أربع وعشرين قيراط، والقيراط به 24 سهم، ويتم تقسيم الساقية إلى حبالٍ وعضام، وهي أطوال تُحدَّد حسب الساقية، والسعيد صاحب الأربع وعشرين قيراط بجميع أنواعه. بعدها يتم تقسيم هذه المساحة لشريط طويل من الأحواض يُسمَّى الإنقاية، ويُسقَى هذا الشريط بجدولٍ موازٍ له. يكون ضلع الحوض الواحد عادة في حدود الخمسة إلى ستة أمتار، وفي منتصفه نخلة واحدة، في بعض الأحيان تُوضَع نخلتان في الأركان.
تُسمَّى النخلة الأم "أمية"، وتَنبت بجانبها فسائل صغيرة تُسمَّى "البنات". عادة يُترَك عددٌ قليل، ثلاث أو أربع منهنَّ، لتَونِيس الأم، وتَتِم إعادة شَتل البقيَّة في مكانٍ آخر. يتشابه النخل كثيراً مع البشر؛ فهو يُعمِّر ليصل مئة عام، ولا يتوقف عن النمو، وبعد فترة يصعب الوصول إلى قمة التمر، فتسلُّق النخل في منطقة البركل يتم من غير استخدام أية أدوات مُسَاعِدَة -كحبل أو سلّم- بل يُترَك جذع الجريد "الكروق" بارزاً عندما يتمّ قطعه، ويَستَخدِم الحشَّاش تلك الأجزاء البارزة لطلوع الشجرة، كلّما كَبُرت النخلة يضعف الجريد ويتساقط المتسلّقون.
بعد أن تَسَلَّق القَفَّاز النخلة، شَدَّ بقيّةُ العمال قطعةً من المشمّع أسفلها. وقام القَفَّاز أوّلاً بقطع وإنزال سبيطته، وبعدها قَطَع باقي السبائط لصاحب الأرض، بعدها قام الملقّطون -ومنهم أنا، لقد وُعِدتُ بكيلة من التمر إذا ساعدت بجمع التمر المتساقط- بـ"خرت" التمر من السبائط، أي ضربها على الأرض حتى يتساقط كلّ التمر، ثمّ يُنزع التمر المتبقّي باليد، ويُجمع في منتصف المشمع ويُصبّ في الشوالات. وعلى الرغم من شَكل شوالات الخيش المحليّ للغاية، إلا أنها ليست كذلك؛ ظَهَرت هذه الشوالات للمرة الأولى في عهد الاستعمار الإنجليزي، حيث تمّ وما زال يتم استيراد هذه الشوالات من الهند. حاول مصنع الكناف في النيل الأزرق -سبعينات القرن الماضي- أن يغطّي حاجة السوق من الجوّالات، إلا أنه توقَّف منذ سنوات عدة. والآن تُستخدم أحياناً جوالات من البلاستيك المصنوع في السودان. بعدها يُخاط الشوال بالعرجون أو بالسلك الحديدي، ويُحمل إلى المنزل.
كان امتلاء الشوّال علامةَ توقّفنا عن العمل للراحة، فافترش الجميع الأرض وجاء الغداء أو الفطور المتأخّر مُرسَلاً من منزلنا، كما هو معتاد: قرّاصة وملاح ويكة، تليها قيلولة. يكون للمطعمين في المنزل أيضاً أجرٌ في نهاية الموسم، فلا أحد يعمل مجّاناً في موسم الحصاد. عدنا للمنزل في آخر اليوم يلحقنا جملٌ فوقه شوّالات التمر إلى داخل المنزل، خلال الباب الذي يفَوِّت جَمَل كما كان يحدث في بيت جدّي الأكبر العمدة جعفر ود مصطفى ود محمد قبل أكثر من ستين عاماً. أُنزِلت الشوالات في الحوش، أو الفناء، ثمّ فُرِشَ البلح تحت الشمس ليجفّ تماماً.
يخاف الناس عادةً أن يَهطل المطر فجأةً فيفسد المحصول، لأنّ موسم حشّ التمر هو موسم الأمطار أو الخريف، فبعضهم يطلبون من الشيوخ أو الفقراء أن يُمسكوا المطر، أو "حوالينا ولا علينا" كل ما أتت السيرة. بجانب كَومنا الجديد كانت هناك كومة أخرى لعمتي الأخرى عائشة، والتي كانت قد أحضرت قبل وصولنا من "سواقي" أخرى تملكها أسرة زوجها محمد الأمين شريف، رحمهما الله. وجدنا عمتي عائشة جالسة وهي فخورة بجانب تمرها القنديلة عالي الجودة، وهو ما يُسمَّى تَمر الأكل، مثل التَمودَة والكُلمة، وهي تُمور تُنتَج بكميّات أقل، وتُوَزَّع في نطاقات محدودة، أما كومتنا فكانت من "البركاوي"، وهو صنف التمر التجاري حيث يُنتَج بكميات كبيرة، ويتم تصديره في أنحاء السودان المختلفة، أما "الجاو" فهو تمر أقل جودة يُبَاع لمن لا يهتم بمدى جودة التمر.
خلال تواجدي تلك الأيام العشر، لم يكن هناك موضوع أكثر أهمية من التمر وأحواله. فربما يسألك الضيوف والمارة وحتى صاحب الدكان كم حصدت؟ وكيف كان الموسم؟ هل شال التمر أم لم يشيل؟ و"الشيل" هو درجة امتلاء السبيطة بالتمر. وإذا لم يكن التمر شايلاً هذا العام يتناقش الجميع في مجالسهم حول السبب. قد يكون السبب هو التغير المناخي كما قالت عمتي رقية في إحدى الجلسات، أو أن بحيرة السد قد زادت الرطوبة. على كل حال التمر كان هو سيّد المواضيع، لم يَفُقهُ أهميةً في لحظةٍ ما غير قطٍّ سيء السمعة، سرق سمكاً من إحدى جاراتنا واستولى على مطبخنا عدة مرات.
في يومنا الثاني من العمل، تحوَّل المنزل إلى بيت عرس؛ حيث جاءت نسوة الفريق لخبز بسكويت شاي عرس ابن إحداهن في فرننا الكبير، والذي يعمل بالغاز، ليس كالمواقد القديمة التي تَعمل "بالواقود" -أي جريد النخل الجاف- خاصةً "الكود"، وهو الجزء العريض من الجريد أو العراجين المُجَفَّفَة التي نَجَت من عملية تحويلها إلى لعب أطفال، كلعبة الطاب القديمة أو سيطانٍ لجَلْد ذات الأطفال. كما هي عادة بيوت الأعراس امتلأ المنزل بالضحك والمكاواة والغناء، في المطبخ الخارجي عَمِلَت النساء بمكنة البسكويت، وجاءت أخريات للونسة في البرندة، كما أَحضَرت صاحبة المناسبة صواني الغداء من منزلها لإطعام الضيوف، مثلها مثل التمر، صاحب الأمر دائماً من يجب عليه إطعام الجميع.
لو اتكَأتَ بجانب إحدى المستلقيات في البرندة، ستجد نفسك تنظر للعرش البلدي. بلديَّاً كانت تُعرَش المنازل، بماذا؟ طبعاً جذوع النخل، حيث يُقطَّع الجذع طوليَّاً إلى أرباعٍ أو أسداس، تُسَمَّى الواحدة منها "فَلقة”. وتكون الإنشاء الرئيسي الذي يُبنَى عليه السقف. بعدها يوضع فوقه جذع الجريد بعد أن يُنَقرَش أو يُزَال منه الصفق الأخضر بعد أن يُرمَل، أو يربط مع بعضه. وسابقاً، كان الجريد الأخضر يُباع عادةً بالألف حبّة، تُقطع من النخيل أثناء تنظيفه خارج موسم الحصاد حتى لا يتضرَّر التمر، أما الآن، فيدفع أصحاب النخيل للعمّال ليقطعوا الجريد. يوضَع فوق الجريد السعف والطين، ثم توضع أخيراً مخلَّفات الحيوانات أو الزبالة، وهي عادةً بقايا الحمير. قبل الخريف تتكرَّر هذه العملية للسقف والحوائط قبل أن تُدهَن الجدران باللون الأبيض، كما تُفتَح السبلوقات لتصريف المياه، فالماء الراكد والرطوبة هما أعداء منازل الطين.
انتهى الموسم وجاءت المرحلة الثانية، وهي تعبئة وتوزيع التمر، "ناس العُبوَّة" هم عُمَّال مَهَرة يفرزون التمر سريعاً ويعبؤونه، حيث يُلقى بالتمر السيء "الكرموشة" للبهائم والأغنام. وفي الزمان السابق كان يتم تخزين التمر في صوامع تختلف أحجامها، مصنوعة من الطين ومرفوعة من الأرض، تُسمَّى القُسِيْبة أو القُوسِيْبَه، تُستَخدَم أيضاً لتخزين المحاصيل كالقمح، ولا تزال القَسَاسِيب مُستَخدَمة في بعض قرى الشمال. أما في منطقتنا فيوضع التمر في شوَّالات مُحكَمة، مرفوعة فوق جذوع الشجر أو كَمَر الحديد بعيداً عن الماء والحشرات، ويُغطَّى بغطاءٍ بلاستيكيّ من أعلى.
"تمر المشرف، العَلولو سامو
القبل ما ينَجّض السبابة حاموا
السعيد في الدنيا ياخد قدر أيامو
وعليك يا الله مو عارف القدامو"
(شاعر شايقي قديم)
للتمر متاجرون متعدّدون، أكثريتهم من السبابة؛ وهم وسطاء يشترون التمر من صغار البائعين والملقّطين، ويبيعون التمر لتُجَّار السوق. الفَرَّاشة يشترون التمر لبيعه بالقطاعي. أما التجار الكبار فيخزِّنون التمر في مخازن كبيرة ويبيعونه لتُجَّارٍ آخرين في مدنٍ كبيرة؛ مثل الأبيض والفاشر ونيالا ومدني والدمازين والنهود وغيرها. في السابق كان التمر يُرَحَّل عن طريق النقل النهري عبر البواخر إلى كريمة، ومنها بالقطار لكلّ هذه المدن عبر السكة حديد، وفي النيل الأبيض من كوستي للجنوب بالبواخر وعبر الطرق الكثيرة التي تصل السودان ببعضه. وللتمر سوق كبير في شرق السودان أيضاً حيث يتم تناوله مع القهوة، ويتم إيصال التمر لبورتسودان بالقطارات ويُباع بالقطاعي -بـ"الملوة"- في السوق.
في أواخر الخمسينات، أي في عهد حكومة الجنرال عبود ومع المعونة الأمريكية تم إنشاء مصنع تعليب التمور في كريمة. وَصَلَت الآليات من كاليفورنيا، وتم تجميعها بالمصنع، كان ينتج المصنع التمور المحشوة بالجوز واللوز وجوز الهند، ويُعَبَّأ في صناديق جميلة. كجزء من عملية التعبئة يتم تبخير البَلح لغسله وتنظيفه وتطريته، ليسهل حشوه وإزالة النواة، التي كانت تستخدم كأعلاف للحيوانات، كما ينتج المصنع السبيرتو الأبيض أو الكحول كمنتج ثانوي ويستخدم في المستشفيات في تطهير الجروح. توقف المصنع عن العمل فترة طويلة، إلا أنه عاد للعمل بصورة موسمية بأيدٍ سودانية محلية مع حصاد التمر.
عدتُ إلى الخرطوم ومعي كيلة من التمر، لم تكن أجراً لأنني لم أصمد في العمل أكثر من ربع يوم، كان أصعب مما تخيَّلت، بل كان "الشويويل" الصغير هدية من عماتي جزاء المحاولة على الأقل.
صورة الغلاف © زينب جعفر